باب - 2: فيما جاء في تفسير قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
1 - حدثنا محمد بن عبدالله بن المعمر الطبرانى بطبرية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة - وكان هذا الرجل من موالي يزيد بن معاوية ومن النصاب(1) - قال: حدثنى أبي، قال: حدثنى علي بن هاشم ; والحسين بن السكن معا(2) قالا: حدثنا عبد - الرزاق بن همام(3) قال: أخبرني أبي، عن مينا مولى عبدالرحمن بن عوف، عن جابر بن عبدالله الانصاري قال: " وفد على رسول الله(صلى الله عليه وآله) أهل اليمن فقال النبى(صلى الله عليه وآله): جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسا(4) فلما دخلوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: قوم رقيقة قلوبهم راسخ إيمانهم، ومنهم المنصور، يخرج في سبعين ألفا ينصر
___________________________________
(1) في بعض النسخ " يوالى يزيد بن معوية ومن الثقات " وهو تصحيف.
(2) على بن هاشم بن بريد البريدى الخزاز، وثقه ابن معين، وقال أحمد بن حنبل والنسائى: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان غاليا في التشيع، وقال ابوحاتم: يتشيع، كما نقله العسقلانى في تهذيبه، واما الحسين بن السكن القرشى كان بصريا سكن بغداد عنونه الخطيب في تاريخه ج 8 ص 50 وقال مات سنة 258.
(3) عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميرى من المشاهير عنونه ابن حجر في تهذيبه ج 6 ص 311 وأطال الكلام في ترجمته ونقل عن الصورى عن على بن هاشم عنه - يعنى عن عبدالرزاق - أنه قال: كتبت عن ثلاثة لا ابالى أن لا أكتب عن غيرهم، كتب عن ابن الشاذكونى وهو من احفظ الناس، وكتبت عن ابن معين وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتبت عن أحمد بن حنبل وهو من أثبت الناس.
وبالجمله روى عن ابيه همام وهو من رواة مينا بن أبى مينا الزهرى الخزاز الذى ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدى: تبين على أحاديثه أنه يغلو في التشيع.
(4) بسست الناقة وأبسستها اذا سقتها وزجرتها وقلت لها: بس بس بكسر الباء و فتحها.وفى منقوله في البحار " يبشون بشيشا " من البشاشة أى طلاقة الوجه.
(*)
[40]
خلفى وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك(1) فقالوا: يا رسول الله ومن وصيك؟ فقال: هوالذى أمركم الله بالاعتصام به فقال عزوجل: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "(2) فقالوا: يا رسول الله بين لنا ما هذا الحبل، فقال: هو قول - الله، " إلا بحبل من الله وحبل من الناس "(3) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيي: فقالوا: يا رسول الله من وصيك؟ فقال: هو الذى أنزل الله فيه " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله"(4) فقالوا: يا رسول الله وما جنب الله هذا؟ فقال: هو الذى يقول الله فيه: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا "(5) هو وصيي، والسبيل إلى من بعدي، فقالوا: يا رسول الله بالذي بعثك بالحق نبيا أرناه فقد اشتقنا إليه، فقال: هو الذى جعله الله آية للمؤمنين المتوسمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم أنه وصيي كما عرفتم أني نبيكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو، لان الله عزوجل يقول في كتابه: " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم "(6) [أي] إليه وإلى ذريته(عليهم السلام).
ثم قال: فقام أبوعامر الاشعرى في الاشعريين، وأبوغرة الخولانى في الخولانيين، وظبيان، وعثمان بن قيس في بنى قيس، وعرنة الدوسى(7) في الدوسيين، ولا حق بن علاقة چ، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه وأخذوا بيد الانزع الاصلع
___________________________________
(1) اى علائق سيوفهم الجلد.والمسك - بفتح الميم وآخره الكاف بمعنى الجلد، وفى بعض النسخ " المسد - بالدال المهملة محركة - حبل من ليف أو خوص.
(2) آل عمران: 103.
(3) آل عمران: 112.
(4) الزمر: 56 جنب الله أى حقه أو طاعته أو أمره وأول بأمير المؤمنين(ع).
(5) الفرقان: 27 والعض كناية عن الغيظ، والتحسر.
(6) ابراهيم: 47.
(7) في بعض النسخ " غرية " وفى بعضها " عزية ".
(*)
[41]
البطين وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول الله، فقال النبى(صلى الله عليه وآله): أنتم نجبة الله حين عرفتم(1) وصى رسول الله قبل أن تعرفوه، فبم عرفتم أنه هو؟ فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون: يا رسول الله نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا ولما رأيناه رجفت قلوبنا(2) ثم اطمأنت نفوسنا، وانجاشت أكبادنا، وهملت أعيننا، وانثلجت صدورنا(3) حتى كأنه لنا أب ونحن له بنون.
فقال النبى(صلى الله عليه وآله): " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " أنتم منهم(4) بالمنزلة التى سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مبعدون.
قال: فبقى هؤلاء القوم المسمون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) الجمل وصفين فقتلوا بصفين رحمهم الله، وكان النبى(صلى الله عليه وآله) بشرهم بالجنة وأخبرهم أنهم يستشهدون مع على بن أبي طالب(عليه السلام) ".
2 - أخبرنا محمد بن همام بن سهيل قال: حدثنا أبوعبدالله جفعر بن محمد الحسني(5) قال: حدثنا أبوإسحاق إبراهيم بن إسحاق الحميرى(6)، قال:
___________________________________
(1) في بعض النسخ " أنتم بحمد الله عرفتم ".
(2) حن - بتشديد النون - اليه أى مال واشتاق.ورجف أى اضطرب.وفى بعض النسخ " رجعت ".
(3) انجاشت أى اضطربت، والاكباد جمع كبد، وهملت أى فاضت دموعا، و انثلجت نفسى به أى ارتاحت به واليه.
وفى بعض النسخ " وتبلجت ".
(4) في نسخة " منه ".
(5) الظاهر كونه جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن المثنى الذى هو من وجوه الطالبيين وكان ثقة في الحديث مات في ذى القعدة سنة ثمان وثلاثمائة وله نيف وتسعون سنة(جش).
(6) كذا في بعض النسخ وفى بعضها " الخيبرى " والظاهر تصحيفهما والصواب " الاحمرى " وهو أبواسحاق ابراهيم بن اسحاق النهاوندى وكان ضعيفا متهما في مذهبه كما في الخلاصة، وقال الشيخ في الفهرست نحوه وقال صنف كتبا جملتها قريبة من السداد وذكرفى جملتها كتاب الغيبة.
ثم اعلم أنه يظهر من تاريخ الخطيب بترجمة احمد بن نصر ابن سعيد النهروانى أن الصواب احدى النسبتين اما النهاوندى أو النهروانى وكانه صحف ما في التاريخ، والصواب النهاوندى كما في كتب الخاصة.
(*)
[42]
حدثنا محمد بن [ي] زيد بن عبدالرحمن التيمى، عن الحسن بن الحسين الانصاري، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: قال علي بن الحسين(عليهما السلام): " كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالسا ومعه أصحابه في المسجد فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة يسأل عما يعنيه، فطلع رجل طوال يشبه بر جال مضر، فتقدم فسلم على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وجلس، فقال: يا رسول الله إنى سمعت الله عزوجل يقول فيما أنزل: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " فما هذا الحبل الذي أمرنا الله بالاعتصام به وألا نتفرق عنه، فأطرق رسول الله(صلى الله عليه وآله) مليا، ثم رفع رأسه وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقال: هذا حبل الله الذى من تمسك به عصم به في دنياه ولم يضل به في آخرته، فوثب الرجل إلى على(عليه السلام) فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله، ثم قام فولى وخرج، فقام رجل من الناس فقال: يا رسول الله ألحقه فأسأله أن يستغفر لي؟ فقال رسول الله: إذا تجده موفقا(1)، فقال: فلحقه الرجل فسأله أن يستغفر الله له، فقال له: أفهمت ما قال لى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وما قلت له؟ قال: نعم، قال: فإن كنت متمسكا بذلك الحبل يغفر الله لك وإلا فلا يغفر الله لك "(2).
ولو لم يدلنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) على حبل الله الذي أمرنا الله عزوجل في كتابه بالاعتصام به وألا نتفرق عنه لاتسع للاعداء المعاندين التأول فيه والعدول بتأويله وصرفه إلى غير من عنى الله به ودل عليه رسوله(عليه السلام) عنادا وحسدا، لكنه قال(صلى الله عليه وآله) في خطبته المشهورة التي خطبها في مسجد الخيف في حجة الوداع: " إنى فرطكم(3) وإنكم واردون علي الحوض، حوضا عرضه مابين بصرى إلى
___________________________________
(1) في بعض نسخ الحديث " اذا تجده مرفقا ".
(2) في بعض النسخ " والا فلا غفر الله لك ".
(3) فرطكم - بفتح الفاء والراء - اى متقدمكم اليه، يقال: فرط يفرط فهو فارط وفرط - بفتح الراء - اذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ويهيئ لهم الدلاء والارشية.(النهاية).
(*)
[43]
صنعاء، فيه قدحان عدد نجوم السماء، ألا وإنى مخلف فيكم الثقلين، الثقل الاكبر القرآن، والثقل الاصغر عترتي أهل بيتى، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزوجل، ما إن تمسكتم به لن تضلوا، سبب منه بيدالله، وسبب بأيديكم(1) إن اللطيف الخبير قد نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كاصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه ".
أخبرنا بذلك عبدالواحد بن عبدالله بن يونس الموصلي قال: أخبرنا محمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي(عليهم السلام) قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) - وذكر الخطبة بطولها، وفيها هذا الكلام.
وأخبرنا عبدالواحد بن عبدالله، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن الحسن ابن محبوب ; والحسن بن علي بن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) بمثله.
وأخبرنا عبدالواحد، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن الحسن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي - الباقر(عليهما السلام) بمثله.
فإن القرآن مع العترة والعترة مع القرآن وهما حبل الله المتين لا يفترقان كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وفى ذلك دليل لمن فتح الله مسامع قلبه ومنحه حسن البصيرة في دينه على أن من التمس علم القرآن والتأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والحلال والحرام والخاص والعام من عند غير من فرض الله طاعتهم وجعلهم ولاة - الامر من بعد نبيه وقرنهم الرسول(عليه السلام) بأمر الله بالقرآن وقرن القرآن بهم
___________________________________
(1) وزاد في نسخة " وفى رواية اخرى: طرف بيدالله وطرف بأيديكم ".
(*)
[44]
دون غيرهم، واستودعهم الله علمه وشرايعه وفرائضه وسننه فقدتاه وضل و هلك وأهلك.
والعترة(عليهم السلام) هم الذين ضرب بهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) مثلا لامته، فقال عليه السلام: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ".
وقال: " مثل أهل بيتى فيكم كمثل باب حطة في بني إسرائيل الذي من دخله غفرت ذنوبه واستحق الرحمة والزيادة من خالقه " كما قال الله عزوجل: " أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ".(1) وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) وأصدق الصادقين في خطبته المشهورة التى رواها الموافق والمخالف: " ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الارض وجميع مافضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين، فأين يتاه بكم، بل أين تذهبون يامن نسخ من أصلاب أصحاب السفينة هذا مثلها فيكم، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو من هذه من ينجو، ويل لمن تخلف عنهم - يعنى عن الائمة(عليهم السلام) - ".
وقال: " إن مثلنا فيكم كمثل الكهف لاصحاب الكهف، وكباب حطة وهو باب السلم، فادخلوا في السلم كافة ".
وقال(عليه السلام) في خطبته هذه: " ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد أنه قال: إنى وأهل بيتي مطهرون فلا تسبقوهم فتضلوا، ولا تخلفوا عنهم فتزلوا(2)، ولا تخالفوهم فتجهلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، هم أعلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا، فاتبعوا الحق وأهله حيثما كان، وزايلوا الباطل وأهله حيثما كان ".
فترك الناس من هذه صفتهم، وهذا المدح فيهم، وهذا الندب إليهم وضربوا عنهم صفحا(3) وطووا دونهم كشحا، واتخذوا أمر الرسول(صلى الله عليه وآله) هزوا، وجعلوا
___________________________________
(1) البقرة: 58..
(2) كذا.ويمكن أن يكون " فتذلوا " بالذال، والاول من الزلة.
(3) في بعض النسخ " وانصرفوا غنهم صفحا ".
(*)
[45]
كلامه لغوا، فرفضو فرض الله تعالى على لسان نبيه(صلى الله عليه واله وسلم) طاعته ومسألته والاقتباس منه بقوله: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "(1).
وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم "(2)، ودل رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) على النجاة في التمسك به والعمل بقوله والتسليم لامره والتعليم منه والاستضاءة بنوره، فادعوا(3) ذلك لسواهم، وعدلوا عنهم إلى غيرهم، ورضوا به بدلا منهم، وقد أبعدهم الله عن العلم، وتأول كل لنفسه هواه، وزعموا أنهم استغنوا بعقولهم وقياساتهم وآرائهم عن الائمة(عليهم السلام) الذين نصبهم الله لخلقه هداة، فو كلهم الله عزوجل بمخالفتهم أمره، وعدولهم عن اختياره وطاعته وطاعة من اختاره لنفسه فولاهم إلى اختيارهم وآرائهم وعقولهم، فتاهوا وضلوا ضلالا بعيدا، وهلكوا وأهلكوا، وهم عند أنفسهم كما قال الله عزوجل: " قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "(4) حتى كأن الناس ما سمعوا قول الله عزوجل في كتابه حكاية لقول الظالمين من هذه الامة في يوم القيامة عند ندمهم على فعلهم بعترة نبيهم وكتاب ربهم حيث يقول: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا ".
فمن الرسول إلا محمد(صلى الله عليه واله وسلم)؟ ومن فلان هذا المكنى عن اسمه المذمومة(5) وخلته ومصاحبته ومرافقته في الاجتماع معه على الظلم؟ ثم قال: " لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني "(6) أي بعد الدخول في الاسلام والاقرار به، فما هذا الذكر الذي أضله خليله عنه بعد إذ جاءه؟ أليس هو القرآن والعترة اللذين وقع التوازر
___________________________________
(1) الانبياء: 7.
(2) النساء: 60.
(3) في بعض النسخ " وادعوا ".
(4) الكهف: 103.
(5) كذا.
(6) الفرقان 31 و 32 و 33.
(*)
[46]
والتظافر على الظلم بهم والنبذ لهما، فقد سمى الله تعالى رسوله ذكرا فقال: " قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا "(1) وقال: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "(2) فمن الذكر ههنا إلا الرسول؟ ومن أهل الذكر إلا أهل بيته الذين هم محل العلم، ثم قال عزوجل " وكان الشيطان للانسان خذولا " فجعل مصاحبة خليله - الذى أضله عن الذكر في دارالدنيا وخذله في الآخرة ولم تنفعه خلته ومصاحبته إياه حين تبرأ كل واحد من صاحبه - مصاحبة الشيطان.
ثم قال عزوجل من قائل حكاية لما يقوله النبى(صلى الله عليه وآله) يوم القيامة عند ذلك: " وقال الرسول يا رب إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا " أي اتخذوا هذا القرآن الذي أمرتهم بالتمسك به وبأهل بيتى وألا يتفرقوا عنهما مهجورا.
أليس هذا الخطاب كله والذم بأسره للقوم الذين نزل القرآن على لسان الرسول إليهم وإلى الخلق ممن سواهم وهم الظالمون من هذه الامة لعترة نبيهم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) النابذون لكتاب الله، الذين يشهد عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة بأنهم نبذوا قوله في التمسك بالقرآن والعترة وهجرو هما واتبعوا أهواء هم وآثروا عاجل الامر والنهى وزهرة الحياة الدنيا على دينهم شكا في محمد(صلى الله عليه وآله) وما جاء به، وحسدا لاهل بيت نبيه(عليهما السلام) لما فضلهم الله به، أو ليس قد روي عن النبى(صلى الله عليه وآله وسلم) مالا ينكره أصحاب الحديث مما هو موافق لما أنزله الله تعالى من هذه الآيات قوله: " إن قوما من أصحابى يختلجون(3) دونى يوم القيامة من ذات اليمين إلى ذات الشمال فأقول: يا رب اصيحابي اصيحابي " - وفي بعض الحديث " أصحابي أصحابي "
___________________________________
(1) الطلاق: 10.
(2) الانبياء: 7.
(3) في النهاية الاثيرية " ليردن على الحوض أقوام ثم ليختلجن دونى " بصيغة المفعول أى يجتذبون ويقتطعون.
(*)
[47]
فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعدا بعدا، سحقا سحقا "(1).
ويصدق ذلك ويشهد به قول الله عزوجل: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا [وسيجزى الله الشاكرين](2) " وفي هذا القول من الله تبارك اسمه أدل دليل على أن قوما ينقلبون بعد مضى النبى(صلى الله عليه وآله) على أعقابهم، وهم المخالفون أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه وآله السلام، المفتونون الذى قال فيهم " فليحذر الذى يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "(3) يضاعف الله العذاب والخزى لهم وأبعد وأسحق من ظلم آل محمد(عليهم السلام) وقطع ما أمر الله به أن يوصل فيهم ويدان به من مودتهم، والاقتداء بهم دون غيرهم حيث يقول: " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى(4) " ويقول: " أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون "(5).
وليس بين الامة التى تستحى ولا تباهت، وتزيغ عن الكذب(6) ولا تعاند، خلاف في أن وصى رسول الله أميرالمؤمنين(عليه السلام) كان يرشد الصحابة في كل معضل ومشكل ولا يرشدونه إلى الحق، ويهديهم ولا يهدى سواه، ويفتقر إليه، ويستغنى هو عن كافتهم، ويعلم العلم كله، ولا يعلمونه.
وقد فعل بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعليها ما دعاها إلى الوصية
___________________________________
(1) قال في النهاية: في حديث الحوض " سحقا سحقا " اى بعدا بعدا.راجع مسند احمد ج 1 ص 453 و 454، وصحيح البخارى كتاب الرقاق.
(2) آل عمران: 144.
(3) النور: 63.
(4) الشورى: 33.
(5) يونس: 35.
(6) في بعض النسخ " التى تستحى ولا تباهت ولا تزغ إلى الكذب " ولا تباهت أى لا يأتى بالبهتان والزور.
وزاغ أى مال واعوج.
(*)
[48]
بأن تدفن ليلا ولايصلى عليهاأحد من أمة أبيها إلا من سمته.
فلو لم يكن في الاسلام مصيبة ولا على أهله عار ولا شنار(1) ولا حجة فيه لمخالف لدين الاسلام إلا مالحق فاطمة(عليها السلام) حتى مضت(2) غضبى على امة أبيها، ودعاها ما فعل بها إلى الوصية بأن لا يصلى عليها أحد منهم فضلا عما سوى ذلك لكان عظيما فظيعا منبها لاهل الغفلة، إلا من قد طبع الله على قلبه وأعماه لا ينكر ذلك ولا يستعظمه ولا يراه شيئا، بل يزكى المضطهد لها(3) إلى هذه الحالة، ويفضله عليها وعلى بعلها وولدها، ويعظم شأنه عليهم، ويرى أن الذى فعل بها هو الحق ويعده من محاسنه، وأن الفاعل له بفعله إياه من أفضل الامة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقد قال الله عزوجل: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور "(4).
فالعمى يستمر على أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله) وظالميهم والموالين لهم إلى يوم - الكشف الذي قال الله عزوجل: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد "(5) و " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء - الدار "(6).
ثم أعجب من هذا ادعاء هؤلاء الصم العمى أنه ليس في القرآن علم كل شئ من صغير الفرائض وكبيرها، ودقيق الاحكام والسنن وجليلها، وإنهم لمالم
___________________________________
(1) الشنار - بفتح الشين المعجمة - أقبح العيب، وفى بعض النسخ " ولا فيها شنار " فالضمير المؤنث راجع إلى لفظ المصيبة.
(2) في بعض النسخ " حتى قبضت " وفى بعضها " لما قبضت فاطمة(ع) غضبى على امة أبيها ولما أوصت بان لا يصلى عليهاأحد منهم فضلا عما سوى ذلك، وذلك منبه لاهل الغفلة ".
(3) أى مؤذيها والقاهر لها من ضهده ضهدا، واضطهده أى قهره وآذاه واضطره، والمضطهد بصيغة الفاعل هو الذى قهر وآذى غيره.
(4) الحج: 46.
(5) ق: 23.
(6) المؤمن: 52.
(*)
[49]
يجدوه فيه احتاجو إلى القياس والاجتهاد في الرأى والعمل في الحكومة بهما، وافتروا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الكذب والزور بأنه أباحهم الاجتهاد، وأطلق لهم ما ادعوه عليه لقوله لمعاذ بن جبل(1).
والله يقول: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ(2).
ويقول: " ما فرطنا في الكتاب من شئ "(3) ويقول: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين "(4)، ويقول: " وكل شئ أحصيناه كتابا "(5)، ويقول: قل: " إن اتبع إلا ما يوحى إلى "(6)، ويقول: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله "(7) فمن أنكر أن شيئا من امور الدنيا والآخرة وأحكام الدين وفرائضه وسننه وجميع ما يحتاج إليه أهل الشريعة ليس موجودا في القرآن الذي قال الله تعالى فيه: " تبيانا لكل شئ " فهو راد على الله قوله، ومفتر على الله الكذب، وغير مصدق بكتابه.
ولعمري لقد صدقوا عن أنفسهم وأئمتهم الذى يقتدون بهم(8) في أنهم لا
___________________________________
(1) روى الترمذى وأبوداود مسندا عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما بعثه إلى اليمن قال: كيف تقضى اذاعرض لك قضاء؟ قال: أقضى بكتاب الله، قال: فان لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فان لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على صدره وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله ".
وفي رواية قال له رسول الله: " فان أشكل عليك أمر فسل ولا تستحى واستشر ثم اجتهد، فان الله ان يعلم منك الصدق يوفقك، فان التبس عليك فقف حتى تثبته أو تكتب إلى فيه، واحذر الهوى فانه قائد الاشقياء إلى النار وعليك بالرفق ".
انتهى.
أقول: ان صح هذا الكلام عنه صلى الله عليه وآله لا يدل على مدعاهم لاحتمال أن يكون المراد السعى والاجتهاد والفحص في تحصيل مدرك الحكم بل هو الظاهر من قوله " اجتهد " بعد قوله " فسل ولا تستحى واستشر " فان من له قوة الاجتهاد بمعنى المتعارف لا يحتاج إلى السؤال والاستشارة وهذا شأن المقلد دون المجتهد.
(2) النحل: 89.
(3) الانعام: 38.
(4) يس: 12.
(5) النبأ: 29 و " كتابا " أى مكتوبا في اللوح المحفوظ.
(6) الانعام: 50.
(7) المائدة: 49.
(8) في بعض النسخ " الذى يفتنون بهم ".
(*)
[50]
يجدون ذلك في القرآن، لانهم ليسوا من أهله ولا ممن أوتى علمه، ولا جعل الله ولا رسوله لهم فيه نصيبا، بل خص بالعلم كله أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) الذى آتاهم العلم، ودل عليهم، الذين أمر بمسألتهم ليدلوا على موضعه من الكتاب الذي هم خزنته(1) وورثته وتراجمته.
ولو امتثلوا أمر الله عزوجل في قوله " ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم "(2) وفي قوله: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " لاوصلهم الله إلى نور الهدى، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأغناهم عن القياس والاجتهاد بالرأي، وسقط الاختلاف الواقع في أحكام الدين الذي يدين به العباد، ويجيزونه بينهم، ويدعون على النبى(صلى الله عليه وآله) الكذب أنه أطلقه وأجازه، والقرآن يحظره وينهى عنه حيث يقول عزوجل: " ولو كان من عند غيرالله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "(3): ويقول: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات "(4): ويقول " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وآيات الله في ذم الاختلاف والفرقة أكثر من أن تحصى، والاختلاف والفرقة في الدين هو الضلال، ويجيزونه ويدعون على رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) أنه أطلقه وأجازه افتراء عليه، وكتاب الله عزوجل يحظره وينهى عنه بقوله: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ".
فأي بيان أو ضح من هذا البيان؟ وأي حجة للخلق على الله بعد هذا الايضاح والارشاد؟ نعوذ بالله من الخذلان، ومن أن يكلنا إلى نفوسنا وعقولنا واجتهادنا وآرائنا في ديننا، ونسأله أن يثبتنا على ما هدانا له(5) ودلنا عليه
___________________________________
(1) أى خزنة الكتاب وورثته كمافى قوله تعالى " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " فاطر: 32.
(2) النساء: 83 أى يستخرجون تدبيره أوحكمه.
(3) النساء 82.
(4) آل عمران: 105.
(5) في بعض النسخ " أن يثبتنا بالقول الثابت، ودلنا - الخ ".
(*)
[51]
وأرشدنا إليه من دينه، والموالاة لاوليائه، والتمسك بهم، والاخذ عنهم، والعمل بما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه حتى نلقاه عزوجل على ذلك، غير مبدلين ولا شاكين، ولا متقدمين لهم ولا متأخرين عنهم، فإن من تقدم عليهم مرق، و من تخلف عنهم غرق، ومن خالفهم محق، ومن لزمهم لحق، وكذلك قال رسول - الله(صلى الله عليه واله وسلم).