عربي
Friday 5th of July 2024
0
نفر 0

نظرة متطورة الى الاقتصاد عند الطهطاوي

ويندر أن نجد مفكراً أو مصلحاً مصرياً من القرن التاسع عشر أحاط بتفكيره مختلف نواحي المجتمع والدولة مثلما فعل رفاعة رافع الطهطاوي . فهو حدد مفاهيم حديثة لجملة من القضايا والمسائل الرئيسة المرتبطة بحياة المصريين ومعاشهم , ابتداء بمفهمومه للدولة الحديثة وانتهاء بمشكلة الفلاحة ( = الزراعة ) مروراً بالطبع بقضايا أخرى كالتربية والتعليم والديمقراطية والعلم الحديث وتحرر المرأة وغيرها .
ومن بين المسائل التي أولاها مزيداً من اهتمامه , المسألة الاقتصادية التي شغلت حيزاً مهماً في كتابه " مناهج الألباب".
ولعله من النافل القول بأن كتابات رفاعة حول هذه المسألة , اي المسألة الاقتصادية , شكلت في الزمن الذي وضعت فيه , نقلة نوعية رمت في الدرجة الأولى الى تحديث المفاهيم الاقتصادية , وأيضاً الى تحديث في الأساليب المعمول بها عصر ذاك . وفي سياق الحديث عن هذه المسألة تكلم رفاعة على الانتاج ورأس المال والخدمات والعمل ,ودور الدولة في تحديث الأنماط الاقتصادية , وفي التنمية .
في " مناهج الألباب " يولي رفاعة قضية الانتاج والخدمات اهتماماً بالغاً حيث أنه – أي الانتاج – معيار رئيس في تقدم الأمم أو تخلفها . فالأمة التي قطعت شوطاً في طريق التمدن تتميز بكثرة إنتاجها , عكس الأمة المتخلفة التي تستطيع , بشق النفس , أن تنتج كفافها . يعود ذلك , لا الى شحة الموارد الطبيعية لدى الأمم الفقيرة والمتخلفة , وإنما لأنها لاتقدس العمل . فالعمل هو الركن الأول في غزارة الانتاج وجودته . والدليل على ذلك نلقاه لدى الانسان الغربي الذي يبلغ هذا المبلغ من التطور والمدنية إلا بعد أن اعتبر بأن كرامته الشخصية مرتبطة بكونه يعمل أولا يعمل . فميزة الشعوب المتخلفة ( أو الجمعيات الخشنية كما يسميها رفاعة ) أنها لاتخص على العمل ولا تعتبره مقياساً يقاس به المرء , في حين أن المشهد لدى الشعوب المتطورة والمتمدنة مختلف تماماً عندما اعتبرت أن العمل ركن من أركان حضارتها , " في البلاد الخشنة , يقول رفاعة , حالة طبيعية قريبة من الحالة الفطرية التي هي حالة النوع البشري في أول أمره . فالانسان في هذه الحالة , من حيث أنه فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية , لم يكن قوي الميل لتمدن الهيئة الاجتماعية , يعني أن كل فرد من أفرادها يكون بهذه المثابة لا انتفاع للجمعية ( للمجتمع ) بعمله . فجميع أعضاء الجمعية الخشنية ( المجتمع البدائي ) تلتذ نفوسهم بالراحة والدعة لاسيما أهل الأقاليم التي لاتستدعي احتياجاتهم بها كبير عمل .
وحض الطهطاوي أهل مصر على العمل من أجل رقي مجتمعهم وتمدنه . لكن العمل ,عنده , انقسم الى قسمين : عمل منتج وآخر غيرمنتج . ولهذا ركز اهتمامه على النوع الأول من العمل لأنه يؤدي الى الانتاج والانتاج يؤدي الى المدنية . وعلى رأي الطهطاوي فان ( أرباب الادارات والتدابير ) جعلوا من العمل نوعين لا ثالث لهما : نوع منتج للمال وآخر غيرمنتج له . فالعمل " إما أن تزيد قيمة مورده بالربح فهو المنتج , وإما أن لا تنشأ عنه ثمره تربيح مالي تنسب اليه فهو غير المنتج ". لذا فان رفاعة طالب الدولة بتشجيع الصناعة لأنها تؤدي الى الانتاج والى تراكم الثروة الوطنية .
والى ذلك تحدث رفاعة عن قطاع الخدمات فذهب الى التنويه بأهميته على الرغم من أنه قطاع غير إنتاجي .إلا أن أهميته تنبع من كونه ضرورياً لكي تنتظم عملية الانتاج.وعليه فقد دعا الى أن يكون ثمة تكامل في ما بين قطاع الخدمات ( وهو يشمل الجهاز الوظائفي في الدولة بأكمله ) وبين قطاع الانتاج. فإذا كان قطاع الانتاج مردوده ( التربيح المالي ), فان قطاع الخدمات أصبح على قدر كبير من الأهمية لأنه يقوم بدور الترشيد والتنطيم والادارة لمجمل العملية الانتاجية.
على أي حال فان العمل ورأس المال عنصران ضروريان في تحقيق وفرة في الانتاج .وقد أسهب الطهطاوي في الحديث عن كل منهما لكونه أساساً في بناء الدولة الحديثة . فالعمل ينتج ثروة قومية , وهو قيمة تضاف الى رأس المال المستثمر. وبالعمل , مضافاً اليه الرأس مال , يتحقق ازدهار الدولة .ووفقاً لما يقوله رفاعة فان " الأمة المتقدمة في ممارسة الأعمال والحركات الكدية ( أي الأعمال اليدوية ) ذات الكمالات في العملية , المستكملة للأدوات الكاملة والآلآت الفاضلة والحركة الدائمة قد ارتفعت الى أعلى في درجات السعادة والغنى بحركات أعمالها بخلاف غيرها من الأمم ذات الأراضي الخصبة الواسعة ,الفاترة الحركة ,فان أهاليها لم يخرجوا من دائرة الفاقة والاحتياج , فاذا قابلت بين أغلب أقاليم أوروبا وأفريقيا ظهر لك حقيقة ذلك " . ما يرد أن يقوله رفاعة , هنا , نستطيع أن نوجزه على النحو التالي : ففي العمل والكد والجهد يكمن سرالتمدن .ولكن للدولة دور مؤثر في ترشيد آلية العمل وتوجيهها , إذ أن ثمة مسؤولية كبيرة يجب أن تضطلع بها لكي ترتفع بمواطنيها ( إلى أعلى في درجات السعادة والغنى ). ولعلنا نستطيع أن نحدد هذه المسؤولية بالتالي : على الدولة الحديثة ,ومن اجل أن تضطلع بدور تنموي , أن تستورد التقنية الحديثة المتطورة ( أي الأدوات الكاملة والآلآت الفاضلة ), وأن تستبدل الأنماط والأساليب الاقتصادية المتخلفة بأخرى متطورة , والأهم من كل ذلك ان تضع نصب عينيها هاجساً واحداً وهو الحث على العمل وتحقيق زيادات مطردة في الانتاج . وبهذا وحده تحقق رغبتها في الرقي والتقدم . وللتدليل على ذلك ينهض رفاعة بمقارنة بين أوروبا المتمدنة التي استطاعت , بواسطة العمل والانتاج , أن تنمي ثرواتها الوطنية , وتنتقل بنفسها من مراحل الاقطاع الى مرحلة أكثر تقدماً وهي المرحلة الرأسمالية , وبين أفريقيا ( الفاترة الحركة ) التي لم تفعل أي شيء من هذا القبيل فظلت ترتع في التخلف ,وفي ظله أنماط اقتصادية بدائية . هذا مع العلم أن الموارد الطبيعية في أفريقيا لا تقل – بل تزيد – عما هي في أوروبا .
وإذ نوه بأهمية العمل في بناء الحضارة , كان مصراً على محاربة تلك المجموعة من الخرافات المتجذرة في العقلية السائدة وفي طليعتها الدعوة الى الزهد , والقناعة , والاعتزال بعيداً من الناس والمجتمع , ونبذ الدنيا وطلب الآخرة مثلما شاهدنا قبل قليل .لقد كانت هذه الخرافات تعبث في عقول الناس وتفسدها , بل وتحول بينها وبين العمل المجدي والمنتج. ومن هنا إلحاحه على خلق أفراد إيجابيين في المجتمع ,ينخرطون في همومه ومشاغله , ويسعون الى خيرهم وخيره .وعلى هذا فقد ذهب الى أن طلب الثروة والمال ليس مثلبة ولا مذمة .فالثروة الوطنية , أو رأس المال الوطني , لايتحقق من خلال أفراد ذوي ميول زهدية ,وإنما من خلال أفراد عاملين همهم أن يتسلقوا ( درجات السعادة والغنى ) هم ومجتمعهم ودولتهم . فالمال ليس شأناً مذموماً , وهوعصب الانتاج . وهو يصبح مذموماً عندما يتوفر في أيدي أناس يدخرونه ولا يستثمرونه في حقول منتجة تعود بالخير عليهم وعلى غيرهم . وإن ذم المال , كما يذهب رفاعة " محمول على من يقتني الأموال ليدخرها ويكف عن صرفها في وجوه الخيرات حيث أن ذلك يستدعي سوء ظنه بخالقه مع أن في حسن الظن بالله راحة القلوب".
وعلى الرغم من تأييده لما نسميه اليوم بالاقتصاد الحر لأنه يستقطب الاستثمارات الوطنية والأجنبية ويضاعف من التنافس بين الرساميل المستثمرة في مجالات مختلفة مما ينعكس ازدهاراً وغنى على الدولة والمجتمع ... على الرغم من ذلك ( فان رفاعة الطهطاوي رأى أن على الدولة الحديثة أن تتدخل في الشأن الاقتصادي . لكن مثل هذا التدخل يجب
يجب أن يقتصر على سن القوانين والتشريعات التي تنظم العملية الاقتصادية لكي تتم على أسس حديثة . وبالاضافة الى أن ثمة ضرورة لمثل هذه القوانين والتشريعات , فانها لاتنافي الشرع الاسلامي .) ولو أمعنا النظر قليلاً لوجدنا أن كتب الفقه الاسلامي لحظت هذا الموضوع , أي الموضوع الاقتصادي , وأنها تتضمن أحكاماً ترمي الى تنظيم كل ما يتعلق ب( المنافع العمومية ) أي بما له علاقة بالاقتصاد . حتى أن الاوروبين أنفسهم أفادوا من هذه الكتب فكان أن أخذوا عنها الكثير " ومن أمعن النظر في كتب الفقه الاسلامية ظهر له أنها لاتخلو من تنظيم الوسائل النافعة من المنافع العمومية , حيث بوبوا للمعاملات الشرعية أبواباً مستوعبة للأحكام التجارية كالشركة والمضاربة والقرض والمخابرة والعارية والصلح وغير ذلك . ولاشك أن قوانين المعاملات الأوروبية استنبطت منها كالسفتجة التي عليها مبنى معاملات أوروبا . ولم تزل كتب الأحكام الشرعية الى الآن تتلى وتطبق على الحوادث والنوازل علماً ى عملاً كما ينبغي ".
يبقى أن نقول , ونحن نتحدث عن نظرة الطهطاوي الاقتصادية , أن هذا الرجل أخذ على عاتقه التبشير بانتهاء مرحلة ,هي مرحلة الاقطاع والانماط الاقتصادية المهترئة والبدء بمرحلة أخرى , وهي أكثر تطوراً وتقدماً , أعني المرحلة الرأسمالية " ولذلك فاننا نطالع عند رفاعة الطهطاوي , وربما للمرة الاولى في تاريخ الفكر المصري والعربي , الجذور والبشائر للفكر البورجوازي المتقدم والمناضل ضد قيم المجتمع الاقطاعي وأنماط سلوكه , والذي يجتهد لارساء قيم جديدة لمجتمع جديد ".


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تأصيل المنهج السلفي في المقررات الدراسية ونشره ...
عقيدتنا في حقِّ المسلم على المسلم
محكمة الآخرة
تجرد الروح الإنسانية
الإمامَةُ والخِلافَةُ (2)
المهدي المنتظر في كلمات محي الدين بن عربي/ ق2
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...
الأبعاد الروحية للشعائر الإسلامية
الجبر والاختيار
ظاهرة تشيع علماء السنة ومثقفيهم استوقفتني

 
user comment