أصول الرؤيه الكونيّه الماديّه يمكن أنّ نتصوّر الأصول و الأسس التاليه للرؤيه الكونيّه الماديّه: الأول: انّ الوجود مساوق للماده1 و الماديّات، و إنّما يعتبر الشيء موجوداً فيما لو كان مادّه مشتمله علي الحجم و الأبعاد الثلاثه (الطول و العرض و الارتفاع)، أو كان من خواصّ الماده ليكون ـ تبعاً للماده ـ متّصفاً بالكميّه و القابليّه للانقسام، فوق هذا الأصل ينكر وجود الله لأنّه موجود غير مادّي و مافوق الطبيعه. الثاني: انّ المادّه أزليّه و أبديّه و غير مخلوقه، و لاتحتاج لأيّه عله، و كما يصطلح في الفلسفه هي «واجبه الوجود». الثالث: لايمكن القول بوجود الهدف و العلّه الغائيّه للكون، لأنّه ليس للكون فاعل يمتلك الشعور و الاراده ليمكن أن ينسب له وجود الهدف و الغايه من فعله و خلقه. الرابع: انّ ظواهر الكون (و ليس مادّته الأصليّه) إنّما وجدت نتيجه التنقّلات في ذرّات المادّه و التفاعل بينها، و من هنا يمكن القول بان للظواهر السابقه نوعاً من الشرطيّه و العلّيه الإعداديّه للظواهر اللّاحقه، و يمكن أن نقبل ـ علي أبعد الفروض ـ بنوع من العلّيه الفاعليّه الطبيعيّه بين الماديّات، فمثلاً تعتبر الشجره فاعلاً طبيعيّاً للثمره، و يمكن أن نسند الظواهر الفيزيائيّه و الكيميائيه لعواملها و مؤثراتها، و لكن ليس هناك أيّ ظاهره محتاجه للفاعل الإلهيّ و الخالق و الموجد. و يمكن أن نضيف إلي الاصول أصلاً خامساً، و هو متعلّق بعلم المعرفه، و يصحّ اعتباره متقدّماً علي سائر الاصول: و هو أن المعرفه المنبثقه من التجربه الحسّيه، هي المعرفه الوحيده التي يمكن القول باعتبارها، و بما أنّ التجارب الحسّيه تثبت وجود المادّه و الماديّات فحسب، دون أن تثبت وجود غيرها، لذلك لايمكن أن نقبل وجود أيّ شيء آخر غيرها. و لكن، في الدرس السابق اتضح بطلان هذا الاصل2، و لانعيد مناقشته مره أخري، و لذلك نبحث في الاصول الأربعه.
تقويم الأصل الأوّلو هذا الأصل الذي يعدّ أهمَّ الاصول و الأسس للرؤيه الكونيه الماديه هو أصلٌ خالٍ من الدليل، و دعوي باطله، و لايمكن إقامه أيّ دليل علي نفي ماوراء الطبيعه، و خاصّهً علي وفق المعرفه الماديّه القائمه علي أصاله الحسّ و التجربه، ذلك لأنّه لايمكن لأيّه تجربه حسّيه أن تتحدّث عمّا هو خارج عن اختصاصها و ميدانها، و هو المادّه و الماديّات، لتبدي رأيها فيه نفياً أو إثباتاً، و ما يمكن قوله ـ علي أبعد الفروض ـ علي وفق المنهج الحسّي، هو أنّه لايمكن أن نثبت وجود ماوراء الطبيعه، إذن فعلي الاقل يلزمنا أن نقبل احتمال وجوده. و قد أشرنا سابقا إلي أنّ الإنسان يدرك الكثير من الامور غير الماديه التي لاتتّصف بمميّزات الماده و خواصها، أمثال الروح التي يدركها الإنسان بالعلم الحضوريّ، و كذلك اقيمت الكثير من الأدلّه العقليّه علي وجود الأمور المجرده؛ في الكتب الفلسفيّه3، و أفضل شاهد علي وجود الروح المجرده: الرؤيا و الأحلام الصادقه، و الكثير من أعمال المرتاضين، و كذلك معاجز و كرامات الأنبياء و أولياء الله (عليهم الصلاه و السلام)4. و علي كلّ حال فيكفي في تفنيد هذا الأصل الأدلّه التي اقيمت علي وجود الله و عدم جسمانيّته5.
تقويم الأصل الثانيو قد اعتمد في هذا الأصل علي أزليّه المادّه و أبديّتها، و استنتج من ذلك أن الماده غير مخلوقه و يناقش هذا الأصل: أوّلاً: لايمكن أن نثبت أزليّه المادّه و أبديّتها علي أساس الأدله العلميه و التجريبيّه، و ذلك لأنّ نطاق التجربه و مداها قاصر و محدود، لايتناول أمثال هذه المجالات، و لايمكن لأيّه تجربه أن تثبت لا نهائيّه الكون من حيث الزمان و المكان. ثانياً: انّ أزله المادّه لاتستلزم عدم الاحتياج الي الحالق، كما أنّ افتراض أزليّه الحركه الميكانيكيّه يستلزم افتراض وجود القوّه المحرّكه الأزليّه، لا أنّها تثبت عدم احتياجها الي القوّه المحرّكه. بالإضافه إلي ذلك كلّه، انّ القول بأنّ الماده غير مخلوقه، يعني أنّها واجبه الوجود.
تقويم الأصل الثالثحيث ينكر هذا الأصل غائيه الكون و هدفيّته، و هو النتيجه الطبيعيه لإنكار الخالق، و بطبيعه الحال، لو أثبتنا وجود الخالق الحكيم فإنّ هذا الأصل سينهار، ولكن يبقي هذا التساؤل: بأنّ كلّ إنسان عاقل حين يشاهد الصناعات البشريه يتوصّل الي هدفيّتها و غائيّتها، و لكن حين يشاهد نظام الكون المعجز و المدهش و الترابط و التناسق بين الظواهر و معطياتها الزاخره التي لاتحصي، فكيف لايتوصل الي غائيتها؟
تقويم الأصل الرابعالأصل الرابع للرؤيه الكونيه الماديّه هو حصر العلّيه بالعلاقات الماديّه للظواهر، و هناك اعتراضات كثيره تتوجّه لهذا الأصل، اهمها مايلي: 1. إنه وفقاً لهذا الأصل يلزم أن لايوجد موجود جديد في هذا الكون، مع أنّنا نشاهد دائماً ظهور موجودات جديده، و خاصّهً في عالم الحيوان و الإنسان و أهمّها الحياه و الشعور و العاطفه و المشاعر و الأحاسيس و الفكر و الابداع و الإراده. يقول الماديّون: أنّ هذه الظواهر هي خواصّ المادّه، و ليست شيئاً آخر! و نقول في ردّهم: أوّلاً: أنّ الخاصّه الملازمه للماده و الماديّات و التي لايمكن انفصالها عنها هي الامتداد و القابليّه للانقسام، و هذه الخاصّه ليس لها عين و لا أثر في هذه الظواهر. ثانياً: لا شكً في أنّ هذه الظواهر التي يطلق عليها «خواص الماده» لم تكن موجوده في المادّه غير الحيه، أي كان هناك زمان كانت فيه هذه المادّه فاقدهً لهذه الخواصّ، و لكن بعد ذلك وجدت هذه الخواص فيها، إذن فهذه الموجودات ـ التي يعبّر عنها بخواصّ المادّه ـ تحتاج الي موجد قد أوجدها في المادّه، و هذا الموجود هو العلّه الموجده. 2. إنه وفقاً لهذا الأصل يلزم أن تكون الظواهر الكونيّه كلها جبريّه و حتميّه، إذا لا مجال للاختيار و الإراده في نطاق تأثيرات المادّه و تفاعلاتها! و رفض الاختيار بالإضافه إلي أنّه مخالف للوجدان و البداهه، فإنّه مستلزم لإنكار المسؤوليّات و القيم الأخلاقيّه و المعنويّه و كلّنا نعلم بالنتائج الخطيره و الآثار المدمّره التي تتعرّض لها الحياه الإنسانيه نتيجهً لإنكار المسؤوليّه و القيم. و أخيراً، فمع ملاحظه أن الماده لايمكن ان تكون واجبه الوجود ـ كما أثبتنا ذلك سابقاً ـ فلابدّ من وجود علّه للماده و لايمكن أن تكون هذه العلّه من قبيل العلل الطبيعية و المعدّه، و ذلك لأنّ هذه العلاقات لايمكن تصوّرها إلاّ فيما بين الماديّات فحسب، و أمّا مجموع المادّه نفسها فلايمكن أن تكون لها نفس هذه العلاقه بعلّتها. إذن فالعله التي أوجدت المادّه علة إيجاديه، و ممّا وراء الماديات.
الهوامش: 1. للتعرف أكثر علي مفهوم الماده و تعريفها، يراجع كتاب الدفاع عن خنادق الأيديولوجيه، الرؤيه الكونيه الماديه ص 292-297، و ألي تعليم الفلسفه، الجزء الثاني/ الدرس الحادي و الأربعين. 2. للتوسع أكثر يراجع كتاب الأيديولوجيه المقارنه، الدرس الثامن الي الدرس السادس عشر، و إلي كتاب تعليم الفلسفه، الدرس الثالث عشر إلي الثامن عشر. 3. علي سبيل المثال يراجع كتاب تعليم الفلسفه، الجزء الثاني، الدرس الرابع و الأربعون و التاسع و الأربعون. 4. يراجع، كتاب مناقشه موجزه لأصول الماركسيه، الدرس الثاني. 5. يراجع الدرسان السابع و الثامن من هذا الكتاب و الدرسان الثاني و الستون و الثالث و الستون من كتاب تعليم الفلسفه.
|