(المقصد الثاني): وهو بيان عقائد الشيعة اصولاً وفروعاً ونحن نورد امهات القضايا ورؤوس المسائل على الشرط الذي أشرنا إليه آنفاً من الاقتصار على المجتمع عليه الذي يصح أن يقال أن مذهب الشيعة دون ما هو رأي الفرد والأفراد منهم فنقول أن الدين ينحصر في قضايا خمس: -1- معرفة الخالق -2- معرفة المبلّغ عنه -3- معرفة ما تعبد به والعمل به -4- الأخذ بالفضيلة ورفض الرذيلة -5 - الاعتقاد بالمعاد والدنيونة فالدين علم وعمل (وأن الدين عند الله الاسلام) والاسلام والإيمان مترادفان ويطلقان على معنى أعم يعتمد على ثلاثة أركان:
التوحيد، والنبوّة، والمعاد، فلو انكر الرجل واحداً منها فليس بمسلم ولا مؤمن، وإذا دان بتوحيد الله ونبوّة سيد الانبياء محمد (ص) واعتقد بيوم الجزاء من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر فهو مسلم حقاً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم دمه وماله وعرضه حرام، ويطلقان أيضاً على معنى أخص يعتمد على معنى أخص يعتمد على تلك الاركان الثلاثة وركن رابع هو العمل بالدعائم التي بنى الاسلام عليها وهي خمس:
الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والجهاد، وبالنظر الى هذا قالوا: الإيمان إعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، (من آمن بالله ورسوله وعمل صالحاً) فكل مورد في القرآن اقتصر على ذكر الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر - يراد به الاسلام والايمان بالمعنى الأول وكل مورد أضيف إليه ذكر العمل الصالح يراد به المعنى الثاني والأصل في هذا التقسيم قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنّا قل لم تؤمنوا لكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) وزاده تعالى إيضاحاً بقوله بعدها: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون) يعنى أن الايمان قول ويقين وعمل، فهذه الأركان الأربعة هي اصول الاسلام والايمان بالمعنى الأخص عند جمهور المسلمين.
ولكن الشيعة الإمامية زا دوا (ركناً خامساً) وهو الإعتقاد بالإمامة يعني أن يعتقد أن الإمامة منصب إلهي كالنبوّة، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عبادة للنبوّة والرسالة، ويؤيد بالمعجزة التي هي كنص من الله عليه (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة).
فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيّه بالنص عليه، وأن ينصبه إماماً للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان عليه النبي أن يقوم بها سوى أن الإمام لا يوحى إليه كالنبي وإنما يتلقى الأحكام منه مع تسديد إلهي فالنبي مبلّغ عن الله والإمام مبلّغ عن النبي، والإمامة متسلسلة في اثني عشر كل سابق ينص على الاحق ويشترطون أن يكون معصوماً كالنبي عن الخطأ والخطيئة وإلا زالت الثقة به وكريمة قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبّرها جيداً وأن يكون أفضل أهل زمانه في كل فضيلة وأعلمهم بكل علم لأن الغرض منه تكميل البشر وتزكية النفوس وتهذيبها بالعلم والعمل الصالح (هو الذي بعث في الاميين رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمّهم الكتاب والحكمة) والناقص لا يكون مكمّلاً، والفاقد لا يكون معطياً، فالإمام في الكمالات دون النبي وفوق البشر، فمن اعتقد بالإمامة بالمعنى الذي ذكرناه فهو عندهم مؤمن بالمعنى الأخص، وإذا اقتصر على تلك الأركان الأربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم تترتب عليه جميع أحكام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حفظه وحرمة غيبته وغير ذلك لأنه بعدم الإعتقاد بالإمامة يخرج عن كونه مسلماً (معاذ الله)، نعم يظهر أثر التدين بالإمامة، في منازل القرب والكرامة يوم القيامة، أما في الدنيا فالمسلمون بأجمعهم سواء وبعضهم لبعض أكفاء، وأما في الآخرة فلا شك أن المسلمين تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسبت نياتهم وأعمالهم، وأمر ذلك وعلمه إلى الله سبحانه ولا مساغ للبحث به لأحد من الخلق والغرض ان أهم ما امتازت به الشيعة عن سائر فرق المسلمين هو القول بإمامة الأئمة الأثني عشر وبه سميت هذ الطائفة (إمامية) إذ ليس كل الشيعة تقول بذلك كيف واسم الشيعة يجري على الزيدية والإسماعيلية والواقفية والفطحية غيرهم هذا إذا اقتصرنا على الداخلين في حظيرة الاسلام منهم، أنا لو توسعنا في الإطلاق والتسمية حتى للملاحدة الخارجين عن حدود كالخطابية واضرابهم فقد تتجاوز طوائف الشيعة المئة أو أكثر ببعض الاعتبارات والفوارق ولكن يختص اسم الشيعة اليوم على إطلاقه بالإمامية التي تمثل أكبر طائفة في المسلمين بعد طائفة السنّة والقول بالاثني عشر ليس بغريب عن اصول الاسلام وصحاح كتب المسلمين فقد روى البخاري وغيره في صحيحه حديث الاثني عشر خليفة بطرق متعددة (منها) بسنده عن النبي (ص) ان هذا ا لأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم أثنا عشر خليفة قال ثم تكلم بكلام خفي عليّ فقلت لأبي ما قال؟ قال كلهم من قريش وروى أيضاً لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم أثنا عشر رجلاً وروى أيضاً لا يزال الاسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة وما أدري من هؤلاء الاثنا عشر؟ والقوم يروون عنه (ص) الخلافة بعدي ثلاثون ثم تعود ملكاً عضوضاً، دع عنك ذا فلسنا بصدد إقامة الدليل والحجة على إمامة الاثني عشر فهناك مؤلفات لهذا الشأن تتوف على الألوف ولكن القصد أن نذكر اصول عقائد الشيعة ورؤوس أحكامها المجمع عليه عندهم والعهدة في إثباتها على موسوعات مؤلفاتهم، وهنا نعود فنقول الدين علم وعمل، وظائف للعقل ووظائف للجسد فهنا -منهجان-:
-الأول- في وظائف العقل.
التوحيد(1)
يجب على العاقل بحكم عقله عند الإمامية تحصيل العلم والمعرفة بصانعه والإعتقاد بوحدانيته في الالوهية وعدم شريك له في الربوبية واليقين بأنه هو المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة والإيجاد الإعدام بل لا مؤثر في الوجود عنده إلا الله، فمن اعتقد أن شيئاً من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة لغير الله فهو كافر مشرك خارج عن ربقة الاسلام، وكذا يجب عندهم إخلاص الطاعة والعبادة لله، فمن عبد شيئاً معه أو شيئاً دونه أو ليقرّبه زلفى الى الله فهو كافر عندهم أيضاً، ولا تجوز العبادة إلا لله وحده لا شريك له وطاعة الانبياء والأئمة عليهم السلام فيما يبلّغون عن طاعة الله ولكن لا يجوز عبادتهم بدعوى أنها عبادة لله، فانها خدعة شيطانية وتلبيسات أبليسية، نعم التبرك بهم والتوسل الى الله بكرامتهم ومنزلتهم عند الله والصلاة عند مراقدهم لله كله جائز وليس من العبادة لهم بل العبادة لله، وفرق واضح بين الصلاة لهم الصلاة لله عند قبورهم (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) هذه العقيدة الإمامية في التوحيد المجمع عليها عندهم على اختصار وإيجاز، ولعل الأمر في التوحيد أشدّ عندهم مما ذكرناه، وله مراتب ودرجات كتوحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وغير ذلك مما لا يناسب المقام ذكرها وبسط القول فيها.
___________________________
(1) التوحيد هو الأصل الأول عند الامامية.
النبوة(1)
يعتقد الشيعة الإمامية أن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم رسل من الله وعباد مكرمون بعثوا لدعوة الخلق الى الحق وأن محمداً خاتم الأنبياء وسيد الرسل وأنه معصوم من الخطأ والخطيئة وأنه ما ارتكب المعصية مدة عمره وما فعل إلا ما يوافق رضا الله سبحانه حتى قبضه الله إليه، وأن الله سبحانه أسرى به من المسجد الحرام الى المجسد الأقصى ثم عرج من هناك بجسده الشريف الى ما فوق العرش والكرسي وما وراء الحجب والسرادقات حتى صارمن ربه قاب قوسين أو أدنى، وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين الى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم -إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون-، والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً فإما أن تأول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار، ويعتقد الإمامية أن كل من اعتقد أو ادعى نبوة بعد محمد (ص) أو نزول وحي أو كتاب فهو كافر يجب قتله.
_________________________
(1) الأصل الثاني عند الشيعة الامامية.
الامامة(1)
قد أنبأناك أن هذا هو الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين وهو فرق جوهري أصلي وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما وعرفت أن مرادهم بالإمامة كونها منصباً إلهياً يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي ويأمر النبي بأن يدل الامة عليه ويأمرهم باتباعه، ويعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علي وينصبه علماً للناس من بعده، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى اليه: -يا أيها النبي بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته-، فلم يجد بداً من الإمتثال بعد هذا الإنذار الشديد فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع، في غدير خم فنادى وجلّهم يسمعون: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا اللهم نعم، فقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) الى آخر مال قال، ثم أكد ذلك في مواطن اخرى تلويحاً وتصريحاًٍ وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة وبلّغ عند الله المعذرة، ولكن كبار المسلمين بعد النبي (ص) تأولوا تلك النصوص نظراً منهم لصالح الاسلام حسب اجتهادهم فقدّموا وأخرّوا وقالوا الامر يحدث بعده الأمر وامتنع علي وجماعة من عظماء الصحابة عن البيعة أولاً ثم رأى امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الاسلام بل ربما ينهار عن أساسه وهو بعد في أول نشوئه وترعرعه، وأنت تعلم أن للاسلام عند أمير امؤمنين من العزة والكرامة والحرص عليه والغيرة بالمقام الذي يضحي له بنفسه وأنفس ما لديه، وكم قذف في لهوات المنايا تضحية للاسلام، وزد على ذلك أنه رأى الرجل الذي تخلف على المسلمين قد نصح للاسلام وصار يبذل جهده في قوته وإعزازه وبسط رايته على البسيطة، وهذا أقصى ما يتوخاه أمير المؤمنين من الخلافة والإمرة، لأجل ذلك كله تابع وبايع حيث رأى أن بذلك مصلحة الإسلام وهو على منصبه الإلهي من الإمامة وان سلّم لغيره التصرف والرئاسة العامة فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال.
_____________________
(1) الأصل الثالث عند الامامية.
أما حين انتهى الأمر إلى معاوية وعلم أن موافقته ومسالمته وإبقائه والياً فضلاً عن الإمرة ضرر كبير وفتق واسع على الاسلام لا يمكن بعد ذلك رتقه لم يجد بداً من حربه ومنابذته.
-والخلاصة- أن الإمامية يقولون: نحن شيعة علي وتابعوه نسالم من سالمه، ونحارب من حاربه، ونعادي من عاداه، ونوالي من والاه إجابة وامتثالاً لدعوة النبي (ص): اللهم وال من واله، وعاد من عاداه، وحبنا وموالاتنا لعلي وولده إنما هي محبة وموالاة للنبي وإطاعة له.
تالله ما جهل الانسان موضعها *** لكنهم ستروا وجه الذي علموا
وهذا كله أيضاً خارج عن القصد، فلنعد إلى ما كنا فيه من إتمام حديث الإمامية فنقول: إن الإمامية تعتقد أن الله سبحانه لا يخلي الأرض من حجة على العباد من نبي أو وصي ظاهر مشهور أو غائب مستور، وقد نص النبي (ص) وأوصى إلى ولده الحسن وأوصى الحسن أخاه الحسين وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر، وهذه سنّة الله في جميع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم، وقد ألّف جم غفير من أعاظم علماء الدين مؤلفات عديدة في إثبات الوصية، وها أنا اورد لك أسماء المؤلفين في الوصية من القرون الاولى والصدر الاول قبل القرن الرابع (كتاب الوصية) لهشام بن الحكم المشهور، (الوصية) للحسين ابن سعيد، (الوصية) للحكم بن مسكين، (الوصية) لعلي بن الحسين بن الفضل، (كتاب الوصية) لابراهيم بن محمد بن سعيد ابن هلال، (الوصية) لأحمد بن محمد بن خالد البرقي صاحب المحاسن، (الوصية) للمؤرخ الجليل عبد العزيز بن يحيى الجلودي، وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأول والثاني، أما أهل القرن الثالث فهم جماعة كثيرة أيضاً، (الوصية) لعلي بن رئاب، (الوصية) لمحمد بن المستفاد، (الوصية) لمحمد بن أحمد الصابوني (الوصية) لمحمد بن الحسن بن فروخ، (كتاب الوصية والإمامة) للمؤرخ الثبت الجليل علي بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب، (الوصية) لشيخ الطائفة محمد بن الطوسي، (الوصية) لمحمد بن علي الشلمغاني المشهور، (الوصية) لموسى بن الحسين بني عامر، أما ما أُلف بعد القرن الرابع فشيء لا يستطاع حصره، وذكر المسعودي في كتابه المعرفو بـ (إثبات الوصية)(1) لكل نبي اثني عشر وصياً ذكرهم بأسمائهم ومختصر من تراجمهم وبسط الكلام بعض البسط في الأئمة الاثني عشر وقد طبع في إيران طبعة غير جيدة، وهذا ما ألفه العلماء في الإمامة وإقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها، ولسنا بصدد شيء من ذلك، نعم في قضية المهدي قد تعلو نبرات الإستهتار والإستنكار من سائر فرق المسلمين بل ومن غيرهم على الإمامية في الإعتقاد بوجود إمام غائب عن الإبصار ليس له أثر من الآثار، زاعمين أنه رأي قائل وعقيدة سخيفة والمعقول من إنكار يرجع إلى أمرين:
_______________________
(1) طبع في النجف وايران حديثاً.
(الأول): استبعاد بقائه طول هذه المدة التي تتجاوز الألف سنة وكأنهم ينسون أو يتناسون حديث عمر نوح الذي لبث في قومه بنص الكتاب ألف سنة إلا خمسين عاماً وأقل ما قيل في عمره ألف وستمائة سنة وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف، وقد روى علماء الحديث من السنة بغير نوح ما هو أكثر من ذلك (تهذيب الأسماء) ما نصه: اختلفوا في حياة الخضر ونبوّته فقال الأكثرون من العلماء هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم وإنما شذّ بانكاره بعض المحدثين.
ويخطر لي أنه قال هو في موضع آخر والزمخشري في (ربيع الأبرار): إن المسلمين متفقون على حياة أربعة من الأنبياء اثنان منهم في السماء وهما إدريس وعيسى اثنان في الأرض الياس والخضر وأن ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء والمعمرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون وقد ذكر السيد المرتضى في أماليه جملة منهم وذكر غيره كالصدوق في (إكمال الدين) أكثر مما ذكره الشريف، وكم رأينا في هذه الأعصار من تناهت بهم الأعمار إلى المائة والعشرين وما قاربها أو زاد عليها، على أن الحق في نظر الاعتبار أن من يقدر على حفظ الحياة يوماً واحداً يقدر على حفظها آلافاً من السنين، ولم يبق إلا أنه خارق العادة وهل خارق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأنبياء والأولياء بشيء عجيب أو أمر نادر؟
راجع مجلدات المقتطف السابقة تجد فيها المقالات الكثيرة والبراهين الجلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في الدنيا للانسان، وقال بعض كبار علماء أوروبا: لو لا سيف ابن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا لأنه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال، وعندنا هنا تحقيق بحث واسع لا مجال لبيانه.
(الثاني): السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته وهل وجوده مع عدم الإنتفاع به إلا كعدمه؟ ولكن ليت شعري هل يريد اولئك القوم أن يصلوا الى جميع الحكم الربانية، والمصالح الإلهية، وأسرار التكوين والتشريع ولا تزال جملة الأحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة، كتقبيل الحجر ا لأسود مع أنه حجر لا يضر ولا ينفع، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً العشاء أربعاً والصبح اثنتين وهكذا إلى كثير من أمثالها، وقد استأثر الله سبحانه نفسه لعلم جملة أشياء لم يطلع عليها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً كعلم الساعة وأخواته -إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث-.
وأخفى جملة امور لم يعلم على التحقيق وجة الحكمة في إخفائها كالاسم الأعظم وليلة القدر وساعة الإستجابة، والغاية أنه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلاً أو يحكم حكماً مجهولي الحكمة لنا إنما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه فإذا صح أخبار النبي وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بد من التسليم والإذعان ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه وأخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب الوجيز أن لا نتعرض لشيء من الأدلة بل هي موكولة إلى مواضعها، والأخبار في (المهدي) عن النبي (ص) من الفريقين مستفيضة، ونحن وان اعترفنا بجهل الحكمة وعدم الوصول الى حاق المصلحة، ولكن كان قد سألنا نفس هذا السؤال بعض عوام الشيعة فذكرنا عدة وجوه تصلح للتعليل، ولكن لا على البت فإن المقام أدق وأغمض من ذلك ولعل هناك اموراً تسعها الصدور، ولا تسعها السطور، وتقوم بها المعرفة، ولا تأتي عليها الصفة، والقول الفصل انه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب وجود الإمام في كل عصر وأن الأرض لا تخلو من حجة، وإن وجوده لطف، وتصرفه لطف آخر، فالسؤال عن الحكمة ساقط والأدلة في محالها على ذلك متوفرة وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إن شاء الله.
العدل(1)
ويراد به الاعتقاد بأن الله سبحانه لا يظلم أحداً ولا يفعل ما يستقبحه العقل السليم، وليس هذا في الحقيفة أصلاً مستقلاً بل هو مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيته لصفات الجمال والكمال فهو شأن من شؤون التوحيد، ولكن الأشاعرة لما خالفوا العدلية وهم المعتزلة والإمامية فأنكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا ليس الحسن إلا ما حسنّه الشرع وليس القبح إلا ما قبّحه الشرع، وأنه تعالى لو خلّد المطيع في جهنم، والعاصي في الجنة، لم يكن قبيحاً لأنه يتصرف في ملكه و -لا يسأل عما يعفل وهم يسألون- حتى أنهم أثبتوا وجوب معرفة الصانع ووجوب النظر في المعجزة لمعرفة النبي من طريق السمع والشرع لا من طريق العقل لأنه ساقط عن متعة الحكم فوقعوا في الاستحالة والدور الواضح (أما العدلية) فقالوا ان الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلا تأكيداً وإرشاداً والعقل يستقل بحسن بعض الأفعال وقبح البعض الآخر ويحكم بأن القبيح مناف للحكمة، وتعذيب المطيع ظلم والظلم قبيح وهو لا يقع منه تعالى، وبهذا أثبتوا لله صفة العدل وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة الى خلاف الأشاعرة فإن الأشاعرة في الحقيقة لا ينكرون كونه تعالى عادلاً غايته أن العدل عندهم هو ما يفعله وكل ما يفعله فهو حسن، نعم أنكروا ما أثبته المعتزلة والإمامية من حكومة العقل وإدراكه للحسن والقبح على الحق جل شأنه زاعمين أنه ليس للعقل وظيفة الحكم بأن هذا حسن من الله وهذا قبيح منه، والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين المبرهن عليها عندهم، أثبتوا جملة من القواعد الكلامية كقاعدة اللطف، ووجوب شكر المنعم، ووجوب النظر في المعجزة، وعليها بنوا أيضاً مسألة الجبر والاختيار وهي من معضلات المسائل التي أخذت دوراً مهماً في الخلاف حيث قال الأشاعرة بالجبر أو بما يؤدي اليه وقال المعتزلة بأن الإنسان حر مختار له حرية الإرادة والمشيئة في أفعاله غايته أن ملكة الاختيار وصفته كنفس وجوده من الله سبحانه فهو خلق العبد وأوجده مختاراً، فكلي صفة الاختيار من الله والاختيار الجزئي في الواقع الشخصية للعبد ومن العبد، والله جل شأنه لم يجبر على فعل ولا ترك بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً، ولذا يصح عند العقل والعقلاء ملامته وعقوبته على فعل الشر ومدحه ومثوبته على فعل الخير إلا لبطل الثواب والعقاب ولم تكن فائدة في بعثة الأنبياء وإنزال الكتب والوعد والوعيد ولا مجال هنا لأكثر من هذا وقد بسطنا بعض الكلام في هذه المباحث في آخر الجزء الاول من كتاب (الدين والاسلام) وقد أوضحناها بوجه يسهل تناوله وتعقله للأواسط فضلاً عن الأفاضل، وإنما الغرض هنا أن من عقائد الامامية واصولهم ان الله عادل، وان الانسان حر مختار.
_____________________________________
الأصل الرابع من اصول العقائد عند الامامية وأركان الايمان.
المعاد(1)
يعتقد الامامية كما يعتقد سائر المسلمين أن الله سبحانه يعيد الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء، والمعاد هو الشخص بعينه وبجسده وروحه بحيث لو رآه الرائي لقال هذا فلان ولا يجب أن تعرف كيف تكون الاعادة وهل هي من قبيل إعادة المعدوم أو ظهور الموجود أو غير ذلك ويؤمنون بجميع ما في القرآن والسنة القطعية من الجنة والنار ونعيم البرزخ وعذابه والميزان والصراط والأعراف والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأن الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشرا -ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره- إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلها من كل ما صدع به الوحي المبين، وأخبر به الصادق الأمين.
هذا تمام الكلام في الشطر الأول من شطري الايمان بالمعنى الأخص وهو ما يرجع إلى وظيفة العقل والقلب، ومرحلة العلم والاعتقاد، ونستأنف الكلام فيما هو من وظيفة القالب والجسد أعني مرحلة العمل بأركان الإيمان من أفعال الجوارح.