اتّفق المسلمون تبعا للذكر الحكيم على أنّ الصلاة لا تصحّ إلاّبطهور، والطهور هو الوضوء والغسل والتيمّم وقد بَيّن سبحانه سرَّ التكليف بتحصيل الطهور قبل الصلاة بقوله:(ما يُريدُ اللّهُ لِيَجعلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكن يُريد ليُطهّركُمْ).(1)
وقد حظا الوضوء في التشريع الإسلامي بأهمية بالغة كما نطق بها الكتاب والسنّة فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ :«لا صلاة إلاّ بطهور». وفي كلام آخر له:«الوضوء شطر الإيمان».(2)
فإذا كانت هذه مكانةَ الوضوء فمن واجب المسلم التعرّف على أجزائه وشرائطه ونواقضه ومبطلاته، وقد تكفّلت الكتب الفقهية بيانَ هذه المهمة.
والذي نركِّز عليه في المقام هو تبيين ما اختلفت فيه كلمة الفقهاء، أعني: حكم الأرجل من حيث المسح والغسل، فنقول:
قال سبحانه في كتابه العزيز مبيِّناً وجوب الوضوء وكيفيته بقوله:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ إِلى المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطّهرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرضى أَوْ عَلى سَفَر أَوْ جاءَأَحدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجوهكُمْ وَأَيديكُمْ مِنْهُ ما يُريدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّركُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) .(3)
الآية تشكِّل إحدى آيات الأحكام التي تُستنبط منها الأحكام الشرعية العملية الراجعة إلى تنظيم أفعال المكلّفين فيما يرتبط بشؤون حياتهم الدينية والدنيوية.
وهذا القسم من الآيات يتمتع بوضوح التعبير،ونصوع الدلالة، فإنّ المخاطب فيها هو الجماهير المؤمنة التي ترغب في تطبيق سلوكها العملي عليها،وبذلك تفترق عن الآيات المتعلّقة بدقائق التوحيد ورقائق المعارف العقلية التي تُشدّ إليها أنظار المفكّرين المتضلِّعين، خاصة فيما يرتبط بمسائل المبدأ والمعاد.
والإنسان إذا تأمّل في هذه الآيات ونظائرها من الآيات التي تتكفَّل بيان وظيفة المسلم، كالقيام إلى الصلاة في أوقات خمسة، يجدها محكمةَ التعبير، ناصعةَ البيان، واضحةَ الدلالة، تخاطب المؤمنين كافّة لتُرسم لهم وظيفتهم عند القيام إلى الصلاة.
والخطاب ـ كما عرفت ـ يجب أن يكون بعيداً عن الغموض والتعقيد، وعن التقديم والتأخير، وعن تقدير جملة أو كلمة حتّى يقف على مضمونها عامة المسلمين على اختلاف مستوياتهم من غير فرق بين عالم بدقائق القواعد العربية وغير عالم بها.
فمن حاول تفسير الآية على غير هذا النمط فقد غفل عن مكانة الآية ومنزلتها، كما أنّ من حاول تفسيرها على ضوء الفتاوى الفقهية لأئمّة الفقه فقد دخل من غير بابها.
نزل الروح الأمين بهذه الآية على قلب سيّد المرسلين، فتلاها على المؤمنين وفهموا واجبَهم تجاهها بوضوح، دون تردد، ودون أن يشوبها أيّ إبهام أو غموض، وإنّما دبّ الغموضُ فيها في عصرِ تضارب الآراء وظهور الاجتهادات.
فمن قرأ الآية المباركة بإمعان يقول في قلبه ولسانه:
سبحانك اللهم ما أبلغ كلامَك وأفصح بيانَك، قد أوضحت الفريضةَ وبيّنت الوظيفةَ فيما يجب على المسلم فعلهُ قبل الصلاة، فقلت:
(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاة) .
ثمّ قلتَ مبيّناً لكيفية الوظيفة وانّها أمران:
أ. (فَاغْسِلُوا وُجُـوهكُمْ وَأَيديكُمْ إِلـى المَرافِـق) .
ب.(وَامْسَحُوا بِرُءُوسكُمْ وَأَرجلكُمْ إِلى الكَعْبَين) .
سبحانك ما أبقيت إجمالاً في كلامك، ولا إبهاماً في بيانك، فأوصدتَ باب الخلاف، وسددتَ باب الاعتساف بتوضيح الفريضة وبيانها.
سبحانك اللّهم إن كان كتابك العزيز هو المهيمن على الكتب السماوية كما قلت: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَديه مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(4) فهو مهيمن ـ بالقطع واليقين ـ على المأثورات المرويّة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وهي بين آمرة بغسل الأرجل و آمرة بمسحها.
فماذا نفعل مع هذه المأثورات المتناقضة المروية عمّن لا ينطق إلاّ عن الوحي،ولا يناقض نفسه في كلامه؟
سبحانك لا محيص لنا إلاّ الأخذ بما نادى به كتابك العزيز وقرآنك المجيد وقدبيّنه في جملتين تعربان عن واقع الفريضة وأنّها تتألّف من غسلتين، (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ إِلَى الْمَرافِق) .
كما تتألّف من مسحتين: (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَين) .
(أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً).(5)
بداية الاختلاف
كان المسلمون قبل عهد الخليفة الثالث على وفاق في أمر الوضوء، فلم يكن آنذاك أيُّ خلاف بارز في مسح الرجلين أو غسلهما، وإنّما بدأ الخلاف في عهد الخليفة الثالث كما يظهر من كثير من الروايات البيانيّة المروية عن عثمان، وقد ذكر مسلم طائفة منها في صحيحه.
1. أخرج مسلم عن حُمران مولى عثمان قال: أتيتُ عثمانَ بن عفان بوضوء فتوضأ، ثمّ قال: إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أحاديث لا أدري ما هي؟ ألا إنّي رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ توضّأ مثل وضوئي هذا، ثمّ قال: من توضّأ هكذا، غفر له ما تقدّم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة.(6)
2. أخرج مسلم عن أبي أنس انّ عثمان توضّأ بالمقاسمة فقال: ألا أُريكم وضوء رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، ثم توضّأ ثلاثاً ثلاثاً. وزاد قتيبة في روايته، قال سفيان: قال أبو النضر عن أبي أنس قال: وعنده رجال من أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .(7)
وهناك روايات بيانية أُخرى على لسان عثمان لم يذكرها مسلم وإنّما ذكرها غيره يشير الجميع إلى أنّ ظهور الاختلاف في كيفية وضوء النبي كان في عصره، وأمّا ما هو سبب الاختلاف فسيوافيك بيانه.
القرآن هو المهيمن و المرجع الوحيد عند اختلاف الآثار
القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية، وهو ميزان الحقّ والباطل فما ورد فيها يؤخذ به إذا لم يخالف الكتابَ العزيز وإلاّفيضرب عرض الجدار.
فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السماوية، فأولى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى السنن المأثورة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فالكتاب مهيمن عليها، فيؤخذ بالسنّة ـ إذا صحت الاسناد ـ مادامت غير مخالفة للكتاب.
ولا يعني ذلك الاكتفاء، بالكتاب وحذف السنّة من الشريعة، فانّه من عقائد الزنادقة، بل السنّة حجّة ثانية للمسلمين ـ بعد الكتاب العزيز ـ بشرط ان لا تضاد السنّة الحاكيةُ السندَ القطعي عند المسلمين.
فإذا كان القرآن ناطقاً بشيء من المسح أو الغسل فما قيمة الخبر الآمر بخلافه، فلو أمكن الجمع بين القرآن والخبر، بحمل الثاني على فترة من الزمن ثمّ نسخه القرآن فهو، و إلاّ فيضرب عرض الجدار.
قال الرازي: قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إذا رُوي لكم حديث فأعرضوه على كتاب اللّه، فإن وافقه فاقبلوه، وإلاّفردّوه».(8)
سورة المائدة آخر سورة نزلت
إنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وليس فيها آية منسوخة.
أخرج أحمد، وأبوعبيد في فضائله، والنحاس في ناسخه، والنسائي وابن المنذر، والحاكم وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير.
قال: حججت فدخلتُ على عائشة فقالت لي: يا جُبير تَقرأ المائدة، قلت: نعم، فقالت: أما إنّها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلِّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه.
وأخرج أبو عبيد، عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس قالا: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «المائدة من آخر القرآن تنزيلاً، فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها».
وأخرج الفريابي وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن أبي ميسرة، قال: في المائدة ثماني عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن غيرها وليس فيها منسوخ، وعدّمنها (وَإِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاة فاغْسِلُوا) .
وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: لم ينسخ من المائدة شيء.
وأخرج عبد بن حميد قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة؟ قال: لا.(9)
كلّ ذلك يدلّ على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي، فلا محيص من العمل على وفقها وليس فيها أي نسخ.
وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت وليس فيها آية منسوخة.
أخرج محمد بن مسعود العياشي السمرقندي باسناده عن علي ـ عليه السَّلام ـ :«كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وإنّما يؤخذ من أمر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بآخره، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء».
أخرج الشيخ الطوسي باسناده عن الصادق والباقر ـ عليهما السَّلام ـ ، عن أمير المؤمنين علي ـ عليه السَّلام ـ ، إذ قال في حديث طويل: «وسبق الكتاب الخفّين، إنّما نزلت السورة قبل أن يُقبض بشهرين».(10)
وعلى ضوء ذلك لو دلّ الكتاب على شيء من المسح والغسل، فالآثار المخالفة له، إمّا تُؤوّل بكونها منسوخة بالقرآن أو تُطرح.
مصدر الاختلاف في الوضوء
فإذا كانت بداية الاختلاف في عهد الخليفة الثالث، فهناك سؤال يطرح نفسه: ما هو سبب الاختلاف في أمر الوضوء بعد ما مضت قرابة عشرين سنة من رحيل الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فنقول: هناك وجوه واحتمالات:
1. اختلاف القراءة
ربما يتصوّر انّ مصدر الخلاف في ذلك العصر هو اختلاف القراءة حيث إنّ القرّاء اختلفوا في إعراب (وأرجلكم) في قوله سبحانه: (فَامْسَحُوا بِرُءُوسكم وَأَرجلكم)، فمنهم من قرأ بالجرِّ عطفاً على الرؤوس الذي يستلزم وجوب المسح على الأرجل، ومنهم من قرأ بالفتح عطفاً على (وجوهكم)في قوله: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم)الذي يستلزم الغسل.
إنّ هذا الوجه باطل جداً، فانّ العربي الصميم إذا قرأ الآية مجرّداً عن أي رأي مسبق لا يرضى بغير عطف الأرجل على الرؤوس، سواء أقرأ بالنصب أم بالجر، وأمّا عطفه على وجوهكم فلا يخطر بباله حتّى يكون مصدراً للخلاف.
فعلى من يبتغي تفسير الآية وفهم مدلولها، أن يجعل نفسه كأنّه الحاضر فيعصر نزول الآية ويسمع كلام اللّه من فم الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أو أصحابه، فما يفهمه عند ذاك حجة بينه و بين ربه، وليس له عند ذاك، الركون إلى الاحتمالات والوجوه المختلفة التي ظهرت بعد ذلك الوقت .
فلو عرضنا الآية على عربي بعيد عن الأجواء الفقهية، وعن اختلاف المسلمين في كيفية الوضوء وطلبنا منه تبيين ما فهمه لقال بوضوح:
إنّ الوضوء غسلتان و مسحتان دون أن يفكّر في أنّ الأرجل هل هي معطوفة على الرؤوس أو معطوفة على وجوهكم؟ فهو يدرك بأنّها تتضمّن جملتين صُرّح فيهما بحكمين:
بدئ في الجملة الأُولى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) بغَسْل الوجوه ثمّ عطفت الأيدي عليها، فوجب لها من الحكم مثل حكم الوجوه لأجل العطف.
ثمّ بدئ في الجملة الثانية:(وَامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكَعبين) بمسح الرؤوس ثمّ عطفت الأرجل عليها، فوجب أن يكون لها من الحكم مثل حكم الرؤوس لأجل العطف، والواو تدلّ على مشاركة مابعدها لما قبلها في الحكم.
والتفكيك بين حكم الرؤوس وحكم الأرجل لا يحتمله عربي صميم، بل يراه مخالفاً لظهور الآية.
2.التمسّك بروايات الغسل المنسوخة
يظهر من غير واحد من الروايات أنّ غسل الرجلين كان سنّة أمر بها النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في فترة من عمره، ولمّا نزلت سورة المائدة وفيها آية الوضوء والأمر بمسح الأرجل مكان الغسل، أخذ ـ بعد فترة من الزمن ـ مَن لا يعرف الناسخ والمنسوخ بالسنّة المنسوخة، وأثار الخلاف غافلاً عن أنّ الواجب عليه الأخذ بالقرآن الناسخ للسنّة وفيه سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
أخرج ابن جرير عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنّة بالغسل.(11)
ويريد من السنّة عمل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قبل نزول القرآن، ومن المعلوم أنّ القرآن حاكم وناسخ.
وقال ابن عباس:أبى الناس إلاّ الغسل، ولا أجد في كتاب اللّه إلاّ المسح.(12)
وبهذا يمكن الجمع بين ما حكي من عمل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من الغسل وبين ظهور الآية في المسح، وانّ الغسل كان قبل نزول الآية.
ونرى نظير ذلك في المسح على الخفّين، فقد روى حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أنّه قال: «سبق الكتابُ الخفّين».(13)
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: سبق الكتاب الخفّين. ومعنى ذلك انّه لو صدر عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في فترة من عمره، المسح على الخفّين، فقد جاء الكتاب على خلافه ناسخاً له حيث قال: (وَامسحوا برءُوسكم وأرجلكم) أي امسحوا على البشرة لا على النعل ولا على الخفّ ولا الجورب.(14)
3.إشاعة الغسل من قبل السلطة
كان الحكام مصرّين على غسل الأرجل مكان المسح ويُلزمون الناس على ذلك بدل المسح لخبث باطن القدمين، وبما انّ قسماً كثيراً منهم كانوا حفاة، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.
1. روى ابن جرير عن حميد، قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة انّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وانّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فقال أنس:صدق اللّه وكذب الحجاج قال اللّه تعالى: (وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم) قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.(15)
2. وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل، وتؤاخذ من يقول بالمسح، حتّى أنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّخفية، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه: اجتمعوا أُصلّـي بكم صلاة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فلمّـا اجتمعوا، قال: هل فيكم أحد غيركم؟
قالوا: لا، إلاّابن أخت لنا، قال: ابن اخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء، فتوضّأ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمّ صلّى.(16)
هذه وجوه ثلاثة يمكن أن يُبرّر بها الغَسْل مكان المسح مع دلالة الكتاب العزيز على المسح، والأقرب هو الثاني ثمّ الثالث.
ما هو العامل في قوله: (وأرجلكم)؟
إنّ آية الوضوء هي الدليل المبرم على وجوب الوضوء وكيفيته، وهي آية واضحة نزلت لتبيين ما هو تكليف المصلّي قبل الصلاة، وطبيعة الحال تقتضي أن تكون آية واضحة المعالم، محكمة الدلالة، دون أن يكتنفها إجمال أو إبهام، قال سبحانه:
(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاة).
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيديَكُمْ إِلى المَرافِـق).
(وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرجلَكُمْ إِلى الكَعْبَين).
وتعيين أحد القولين من مسح الرجلين أو غسلهما رهن تشخيص العامل في لفظة (وأرجلكم).
توضيحه:إنّ في الآية المباركة عاملين وفعلين كل يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملاً في قوله: (وأرجلكم) إنّما الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي؟
والعاملان هما: فاغسلوا، وامسحوا:
فلو قلنا: إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما، ولو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما، فملاك إيجاب واحد منهما رهن تعيين العامل في «أرجلكم».
لا شكّ انّ الإمعان في الآية ، مع قطع النظر عن كل رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين، يُثبت انّ الثاني، أي (فامسحوا) هو العامل دون الأوّل البعيد.
وإن شئت قلت: إنّه معطوف على القريب، أي الرؤوس لا على البعيد، أعني: الوجوه، ونوضح ذلك بالمثال التالي:
لو سمعنا قائلاً يقول: أحب زيداً وعمراً ومررت بخالد وبكر من دون أن يُعرب «بكر» بالنصب أو الجرّ، نحكم بأنّ «بكر» معطوف على «خالد» و العامل فيه هو الفعل الثاني وليس معطوفاً على «عمرو»حتّى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.
وقد ذكر علماء العربية أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد، وهذا هو الأصل والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام، وإلاّربما يوجب اللُّبس واشتباه المراد بغيره.
فلنفرض أنّ رئيساً قال لخادمه: أكرم زيداً وعمراً واضرب بكراً وخالداً، فهو يميز بين الجملتين ويرى أنّ «عمراً» عطف على «زيداً»، وأمّا «خالداً» فهو عطف على «بكراً»، ولا يدور بخلده خلاف ذلك.
قال الرازي: يجوز أن يكون عامل النصب في قوله(أرجلكم) هو قوله : (وامسحوا) ويجوز أن يكون هو قوله (فاغسلوا) لكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله: (أرجلكم) هو قوله :(وامسحوا).
فثبت انّ قوله: (وأرجلكم) بنصب اللام توجب المسح.(17)
فإذا كانت الحال كذلك ولا يجوز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفية، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة كذلك.
وليس المثال منحصراً بما ذكرنا، بل بإمكانك الإدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.
فلو إنّك عرضت الآية على أيّ عربيّ صميم يجرّد نفسه عن المذهب الذي يعتنقه، وسألته عن دلالة الآية يجيبك:
إنّ هناك أعضاءً يجب غسلها، وهي الوجوه والأيدي.
واعضاءً يجب مسحها وهي الرؤوس والأرجل.
ولو أُلفت نظره إلى القواعد العربية تجده انّه لا يتردد انّ العامل في الرؤوس والأرجل شيء واحد وهو قوله: (فامسحوا) ولا يدور بخلده التفكيك بين الرؤوس والأرجل بأن يكون العامل في الرؤوس قوله (فامسحوا)والعامل في قوله (وأرجلكم) هو قوله: (فاغسلوا) .
فإذا اتّضحت دلالة الآية على واحد من المسح والغسل فلا نحتاج إلى شيء آخر، فالموافق منه يؤكّد مضمون الآية، والمخالف يعالج بنحو من الطرق أفضلها انّها منسوخة بالكتاب.
القراءتان والمسح على الأرجل إنّ اختلاف القرّاء في لفظة: (وأرجلكم) بالفتح والجر لا يؤثر في دلالة الآية على وجوب المسح، فالقراءتان تنطبقان على ذلك القول بلا أي إشكال.
توضيح ذلك:
إنّه قرأ نافع و ابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه قوله:(وأرجلكم) بالنصب، وهذه هي القراءة المعروفة التي عليها المصاحف الرائجة في كلّ عصر وجيل.
وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجرّ.
ونحن نقول:إنّ القراءتين تنطبقان على القول بالمسح بلا تريّث وتردد.
أمّا الثاني أي قراءة الجر، فهو أقوى شاهد على أنّه معطوف على قوله: (برءُوسكم) إذ ليس لقراءة الجرِّ وجه سوى كونه معطوفاً على ما قبله. وعندئذ تكون الأرجل محكومة بالمسح بلا شك.
وأمّا قراءة النصب فالوجه فيه أنّه عطف على محل (برءُوسكم) لأنّه منصوب محلاً مفعول لقوله: (وامسحوا)وعندئذ تكون الأرجل أيضاً محكومة بالمسح فقط، والعطف على المحل أمر شائع في اللغة العربية، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم.
أمّا القرآن فقال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ بَريءٌ مِنَ الْمُشرِكين وَرَسُولُه) (18) فقراءة: (ورسوله) بالضم هي القراءة المعروفة الرائجة و لا وجه لرفعه إلاّ كونه معطوفاً على محل اسم إنّ، أعني: لفظ الجلالة في (انّ اللّه) لكونه مبتدأ.
وقد ملئت مسألةُ العطف على المحل كتبَ الأعاريب، فقد عقد ابن هشام باباً خاصاً للعطف على المحل وذكر شروطه.(19)
وأمّا في الأدب العربي فحدِّث عنه ولا حرج، قال القائل: معاوي انّنا بـشر فاسجـح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فقول: «ولا الحديدا» بالنصب عطف على محل «بالجبال» لأنّها خبر ليس في قوله «فلسنا».
فخرجنا بالنتيجة التالية:إنّ اختلاف القراءتين لا يؤثّر في تعيّن القول بالمسح، وسوف يوافيك دراسة القراءتين على القول بالغسل.
المصادر :
1- المائدة:6.
2- 2الوسائل: 1، الباب1 من أبواب الوضوء.
3- المائدة:6.
4- المائدة:48.
5- الأنعام:114.
6- صحيح مسلم بشرح النووي:3/115، برقم 229.
7- صحيح مسلم بشرح النووي:3/115، برقم 230.
8- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير:3/252، ط سنة 1308 بمصر .
9- الدر المنثور:3/3ـ4.
10- نور الثقلين:1/483.
11- الدر المنثور:3/1، 4.
12- الدر المنثور:3/1، 4.
13- مصنف ابن أبي شيبة:1/213، باب من كان لا يرى المسح، الباب217.
14- مصنف ابن أبي شيبة:1/213، باب من كان لا يرى المسح، الباب217.
15- تفسير القرآن لابن كثير:2/25; تفسير القرآن للطبري:6/82.
16- مسند أحمد:5/342; المعجم الكبير :3/280 برقم 3412.
17- التفسير الكبير:11/161.
18- التوبة:3.
19- مغني اللبيب: الباب4، مبحث العطف. قال: الثاني: العطف على المحل ثمّ ذكر شروطه
source : rasekhoon