المتصوفة الذين طوروا أفكارهم الخاصة عن العدل، وحاولوا تحقيقه وفق منهج جديد مختلف تماماً عنه لدى جميع المؤمنين الآخرين، لم يكونوا أقل اهتماماً من غيرهم بالعدل الإلهي. فرفضوا العدل الكلامي شكلاً ومضموناً، وحاولوا بالاتصال المباشر مع الله تحقيق العدل الإلهي عبر التأمل والرياضة الروحية من دون وسيط. لذلك نجد العدل الصوفي تعبيراً عن ((تجربة روحية)) تُكتَسب مباشرة من الاتصال بالله لا من العمل الإنساني المعتاد، بينما يُعرَّف العدل الديني بأفعال إنسانية من خَلق الله (كما يذهب الأشاعرة)، أو بأفعال يقررها العقل (كما يرى المعتزلة).
تختلف فكرة الصوفية عن العدل عن أفكار غيرهم، وذلك جزئياً لأنها تعبر عن صفات الله برموز شعرية عالية التجريد، مثل النور والجمال والحب، لا بمفاهيم كلامية، مثل الإرادة والحكمة، ولا بعبارات تجسيمية أو تشبيهية. وحتى تلك الكلمات الغامضة التي يحب المتصوفة استعمالها ليس الغرض منها وصف الله، بل إظهار حقيقة نهائية تلخَّص في مفهوم ((الحق)) الذي تتجسد فيه أعلى القيم. ولهذا السبب يسمون أنفسهم ((أهل الحق)). وفكرتهم عن العدل الإلهي هي من فيض الحقيقة أو تعبير عنها. ولا يقول الصوفية أين يمكن أن نجد الله لنسعى إلى عدله، بل يضعون ثلاث قنوات للاتصال الروحي: ((القلب)) الذي يعرف الله، و ((الروح)) التي تحبه، و ((السر)) الذي يتأمله. وسبل الاتصال هذه، الغامضة وغير الملموسة، تختلف عن غيرها من السبل سواء كانت عقلية أم غير عقلية. ومردّها إلى مملكة النور الإلهي. لهذا يقول الصوفية: ((راجع في قلبك أنت، فمملكة الله في داخلك)).
ولا يستطيع أي فرد أن يحصل على العدل الإلهي بذكر اسم الله والصلاة له، لأنه ليس في مقدور أحد البحث عنه. إنما يستطيع ذلك الصوفي الحقيقي وحده. ولكي يصب الإنسان صوفياً يجب أن يمتلك بعض الصفات التي لا يستطيع امتلاكها إلا القلة النادرة من الناس، مثل التقى وطهارة القلب والفقر، ونبذ كل الشهوات الدنيوية، وحتى الرغبة في الحصول على الثواب في الحياة الأخرى. ولا يصب ((المسافر)) صوفياً إلا بعد رحلة طويلة في ((الطريق)) الموصلة إلى تحقيق هدف ا لاتحاد بالحقيقة النهائية. إنه نظام تقشفي قاسٍ يتطلب الصبر وعدم المبالاة بالصعوبات التي لا يستطيع احتمالها إلا قلة من الناس. ويورد الذين كتبوا عن الصوفية عدة ((مراحل)) تدعى (مقامات) يجب أن يحققها السالك (كالتأمل، والقرب من الله، والحب، والخوف، والشوق، والمودة، وغيرها). وإذا كان من الممكن الوصول إلى ((المراحل)) بإتقان نسبي فإن ((الأحوال)) نزعات روحانية لا يمكن التحكم فيها إلا نادراً. فهي ((تهبط من الله إلى قلبه))، كما يقول الصوفي، ((من دون أن يستطيع رفضها حين تأتي أو الإمساك بها حين تمضي)). ولا يمكن أن يصل المرء إلى درجة من درجات الوعي الصوفي أو أكثر إلا بعد حضور كل ((المراحل)) والحصول على خبرة في ((الأحوال))، وهو أمر قد يمنحه الله أو يحجبه. وهاتان الدرجتان هما: ((المعرفة)) و ((الحقيقة))، حيث يتحقق المرء أن ((المعرفة)) و ((العارف)) و ((المعروف)) ليست سوى واحد.
يقال إن هدف الصوفي ((إدراك الحق)). لكن الهدف يكمن عميقاً في رغبة أعمق في تحقيق الكمال عبر التمارين الروحية بحثاً عن الإلهي. وتبلغ هذه العملية الذروة عند العتبة التي تصبح فيها النفس بمنأى عن كل ما هو غريب عنها، عن كل ما هو ليس بإلهي. وعندما تتحد النفس بالإلهي في نهاية المطاف يتحول الصوفي من حال ((الفناء))، وهي واقع الوجود، إلى حال ((الحق)) التي هي الواقع النهائي أو واقع الاتحاد مع الإلهي. وكان الصوفي حسين بن منصور الحلاج (المتوفى 309/ 922) الذي أعلن أنه حقق الاتحاد مع الله يقول: ((أنا الحق)). فاتهم بالهرطقة، وحُكم عليه بالموت، وأُعدِم بقطع رأسه وصلبه.
كان الصوفية أهل تقيّ واستقامة، يئسوا من ظلم المجتمع وفساده وشروره، فحاولوا حثّ أمثالهم في التفكير على سلوك طريق التصوف في الحياة، وضرب المثل في كيفية البحث عن العدل في مملكة الله. إلا أن العدل الإلهي، في نظر الصوفية، ليس ثواباً في الحياة الأخرى، لكن الثواب هو الحصول على حب الله ونوره وجماله. وبالحصول على هذه الصفات يحقق الصوفي رضىً داخلياً مقابل سلوكه طريق الحق، طريق العدل الطهارة. وعقل الصوفي مشغول دائماً بذكر الله، وقلبه معذّب غالباً بمزيج من الحب والشوق. ولعل الحلاج هو أكثر المعلنين عن حبهم لله في قوله: سأظل أحوِّم حول حُبّ الله ما دمت أتنفس وسأبقي متيماً بعشق الله ما دمت حياً.
وقال الحجويري (المتوفى حوالي 450\\1057) عن الحب إنه كمال الله الذي يسعى كل الناس إليه كقانون عام: إن حب المرء لله صفة تبدو، في قلب المؤمن التقي، بصورة تعظيم وإجلال، لذلك يسعى إلى إرضاء (محبوبه) ويصبح نافد الصبر حائراً وراغباً في رؤيته، ولا يجد الراحة مع أحد (غيره)، ويصبح معتاداً على ذِكره، وينبذ تذكر أي شيء معه. وتصبح الاستراحة مرمة عليه فيهجر الراحة. وينقطع عن كل العادات والصلات، ويرفض الشهوة الحسية، ويتجه نحو محراب الحب، ويخضع لشريعة الحب ويعرف (الله) بصفاته الكاملة.
أما المرأة المتصوفة رابعة العدوية (المتوفاة 185\\801) فكانت تتحدث عن حبها لله وكأن حب لرجل، حين تقول: ((إلهي، كل ما قدّرته لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائك، وكل ما قدّرته لي في الجنة امنحه لأوليائك، لأني لا أسعى إلا إليك أنت وحدك ... )).
((إلهي إذا كنت أعبدك خوفاً من النار فأحرقني بالجحيم، وإذا كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمنيها، أما إذا كنت أعبدك من أجلك فحسب، فلا تحرمني يا إلهي وجهك الكريم)).
وليس حب الله وجماله اللذان يعبر عنهما دائماً بعبارات شعرية (إذ معظم الصوفية سبحوا بحمد الله شعراً) إلا رمزين يشيران إلى حب الإنسانية جمعاء، ذلك أن مملكة الله ليست مشرعة الأبواب للقلة فقط وإنما لجميع، ولا يتحقق العدل الإلهي إلا في مملكة الله. إنه يكمن فيما يتمتع به الإنسان من نور وجمال وحب.
ولكن ماذا عن العدل والظلم؟ هل يمكن أن يوجدا في مملكة الله حيث لا مكان إلا للحب والجمال؟
الواقع أن هذا السؤال لم يُطرح بين المتصوفة قبل خضوعهم لتأثير الفلاسفة والمتكلمين. وكان المتكلمون والفقهاء ينظرون إليهم بعين الشك وعدم الرضا ويعدّونهم ضالين عن تعاليم الإسلام الأساسية. كما أن المتصوفة لم يكونوا معنيين بأسئلة المتكلمين والفلاسفة، لأنهم كانوا يعدون طريق الاتحاد المباشر بالله أضمن للوصول إلى الحقيقة من تأملات الفلاسفة والمتكلمين. لكن المذهب الصوفي أخذ يقع تحت تأثير المتكلمين والفلاسفة عند منعطف القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، وأخذ الاضطهاد الذي كان يتعرض له المتصوفة في الحلقات الفلسفية والكلامية بالزوال. ويعود الفضل في المصالحة بين التصوف وفروع المعرفة الإسلامية الأخرى إلى المتكلم أبي حامد الغزالي (المتوفى 504\\1111) الذي كان هو نفسه متصوفاً بحق، وبيّن بما لا يقبل الشك أن الفروع جميعها تسعى إلى هدف واحد هو الحقيقة، كلّ على طريقته الخاصة، على الرغم من نواقص كل فرع على حدة. وأشهر مَن أسهم، بعد الغزالي في هذه المصالحة بين الصوفية والفروع الأخرى، السهروردي (المتوفى 587\\1191)، ومحيي الدين بن العربي (المتوفى 638\\1240)، وصدر الدين الشيرازي (المتوفى 1050\\1640). وبين هؤلاء كان الغزالي وابن العربي وحدهما مهتمين بصورة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع العدل، بينما كان اهتمام الآخرين منصباً على مذاهب كلامية شديدة التجريد لا علاقة لها بموضوع العدل. ومع أن الغزالي تناول موضوع العدل بالتفصيل أكثر مما فعل ابن العربي، ولا سيما العدل في جانبيه الفلسفي والأخلاقي، فقد تناول ابن العربي العدل من منظور صوفي فقط.
ولعل ابن العربي قد عبّر أكثر من أي متصوف آخر عن موقف من الدين من زاوية وحدة الوجود ووحدة الأديان، وهي وجهة نظر عمومية في طبيعتها أكثر منها خصوصية. وكان يقول إن جميع الأديان من عبادة الأوثان إلى أعلى شكل لها هي طرق تؤدي إلى طريق عام ومستقيم، (طريق أمام) يقود في نهاية الأمر إلى طريق الآحَديّة. وتحدّث ابن العربي عن وحدة الوجود كتجلٍّ كلي معتقداً أن تجاربه الروحية لا تنطبق على المؤمنين الذين يدينون بدينه فقط بل تنطبق على غيرهم من المؤمنين وغير المؤمنين. ولخص وجهة نظره في الأديان بما يلي: فهذه طرق لله مختلفة ... والحقيقة عين واحدة هي غاية لهذه الطرق.
فالعدل الإلهي، الذي هو تعبير عن الذات الإلهية (جهر الله)، لا يشمل المؤمنين فقط، بل هو عدل جميع الذين يبحثون عن العدل، كل بحسب نهجه الروحي الخاص. وإذا كان المتصوفة بشكل عام يعدون العدل الإلهي هدف حب الله، فإن ابن عربي يرى أن هدف جميع الأديان هو الحب، الذي يربطها جميعاً ويعبر عن رغبتها الداخلية في الحب، فيقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى
ولولا الهوى في القلب ما عُبد الهوى
وشرحه: (أقسم بحق الحب أن الحب سبب كل حب، فلولا الحب في القلب لما عُبِد الحب (الله) ).
يضاف إلى ذلك أن ابن عربي يذهب إلى أن جمال الله هو القاعدة الأساسية للحب، فجماله هو مصدر كل أشكال الحب وهو التعبير عن كماله. كما أنه سبب الخَلق وسبب عبادة الإنسان له. ويتفق المتصوفة على مقولة أن جمال الله وحبه هما التعبير عن جوهر الله وكماله. إلا أن ابن عربي هو الوحيد الذي يعتبر أن الجمال هو أساس الحب. وإذا كان المتصوفة يذهبون إلى أن العدل الإلهي هو تعبير عن الحب والجمال، فإن ابن عربي يرى أن المصدر الأساسي للعدل الإلهي يجب أن يكون الجمال.
وقد حاول ابن عربي، كمفكر يتناول المسائل الصوفية والكلامية، أن يقدم رأياً صوفياً عن مذهبي الإرادة والجبر اللذين كانا قد شغلا مدة طويلة عقول المؤمنين من دون أن يقدم الأشاعرة أو المعتزلة جواباً شافياً فيهما. وفي تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) آل عمران/ 182، يجيب ابن عربي عن السؤال بما يلي: أنا (الله) لم آمرهم بالشرك الذي يسبب لهم الشقاء، ثم أكلفهم ما لا يطيقونه. لا، بل عاملتهم كما عرفتهم. وإنما عرفتهم بما ((أعطوني)) من أنفسهم، مما جُبِلت عليه أنفسهم. لهذا إذا أخطأوا كانوا هم المخطئين. لم أقل لهم سوى ما تقتضيه ذاتي .. وأنا أعرف ذاتي على حقيقتها ... لي أن أقول ولهم أن يطيعوا أو لا يطيعوا.
ولكن على الرغم من أن ابن عربي يسلم بوجود مجال أوسع أمام المؤمن للاختيار، تراه يؤكد أن دائرة أفعال الإنسان الاختيارية، بالمعنى الواسع لهذه العبارة تقع بالضرورة ضمن دائرة أفعال الجبر الأوس المقدرة من الله. وعليه فإن إجابة الصوفي عن مسألة الجبر والاختيار في مملكة الله حيث يتحد الإنسان بالله لا تذهب أبعد مما ذهب إليه الأشعريان الأخيران، الباقلاني والغزالي: يقول الغزالي إن الله خلق كل أفعال الإنسان ومنحه القدرة (القَدَر) على الفعل وفق العقل.
حاول ابن عربي التعبير عن أفكاره بعبارات فلسفية مجردة من دون الإشارة إلى المذاهب الكلامية المألوفة، وشعر قبل كل شيء بضرورة تحرير نفسه من كل مفاهيم القيم التقليدية، كالخير والشر، والخطأ والصواب، والعدل والظلم، معتبراً إياها مفاهيم ذاتية بشأن المعرفة الإنسانية. فالخير الموضوعي الوحيد هو خير الله وهو حضوره ووجوده. وكل ما عدا ذلك، بل كل القيم من خير وشر، وعدل وظلم، تأتي من الله. إنها انكشاف أفعاله، لكن الإنسان يدعوها أفعالاً خاطئة وصائبة أو عادلة وظالمة. إلا أن صلاح الله وإرادته يقفان ساميين تعبيراً عن وجوده المنزه والمطلق.
ويمكن النظر إلى الحركة الصوفية، التي تشترك مع الحركات الطوباوية في بعض أهدافها، على أنها، بصورة جزئية على الأقل، احتجاج رجال التقى والاستقامة على الشر والظلم السائدين، ومحاولة لضرب المَثَل للمؤمنين الآخرين في كيفية التغلب على الشر والظلم. كما يمكن أن نعُدها ردة فعل على الخطاب الكلامي وغيره من أشكال الخطاب الفكري التي أخفقت في حل المسائل الأساسية المتعلقة بمصير الإنسان وتحقيق العدل الإلهي على الأرض. إلا أن المتصوفة أثاروا، باتباعهم أسلوباً من التجارب الروحية مختلفاً عن الأسلوب المتعارف عليه، غضب جميع العقائد، وغضب السلطات، وجلبوا الكوارث والموت لعدد من أتباعهم قبل أن يصبح مذهبهم مقبولاً في آخر المطاف.
وتكمن أهمية الحركة الصوفية في تحررها من القيود التقليدية التي وضعها أنصار مذهب العقل وأنصار مذهب الوحي عن طبيعة العدل الإلهي ومكوناته. ومفهوم العدل الصوفي هو مفهوم الكمال. ويختلف المتصوفة عن المعتزلة الذين تحدثوا أيضاً عن العدل الإلهي على أنه كمال، بأنهم لم يكتفوا بأن رفعوا العدل الإلهي إلى درجة أعلى من التدين بل توسعوا فيه ليشمل جميع بني الإنسان. فحين يسعى الإنسان إلى العدل لا يتوقع منه مجرد الصلاة والدعاء من أجله، بل يجب أن يحققه بتجارب روحية صارمة. لكن ما إن يُقبَل الإنسان في بيت العدل ـ بيت الله ـ حتى يصبح حتماً في حضرة القاضي الكامل، قاضي الحب والجمال والحق.
وهذا الشكل من العدل ليس للمؤمنين فقط، فعدل الله المتجسد في كل الشرائع الخالدة هو لكل البشر. وبكلمات المتصوفة:
يجعل الشريعة ثوبَه الخارجيَّ
ومسلَك الصوفي ثوبه الداخليَّ.