قال تعالى: ﴿ما یُرِیدُ اللهُ لِیجْعل علیْكُم مِّنْ حرجٍ ولـكِن یُرِیدُ لِیُطهّركُمْ ولِیُتِمّ نِعْمتهُ علیْكُمْ لعلّكُمْ تشْكُرُون * واذْكُرُواْ نِعْمة اللهِ علیْكُمْ ومِیثاقهُ الّذِی واثقكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمِعْنا وأطعْنا واتّقُواْ الله إِنّ الله علِیمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾(1).
إنّ من أعظم النعم الإلهیّة على الإنسان نعمة الإسلام وولایة الله عزّ وجلّ، حیث صفاء القلوب وطهارة الأعمال، ولا سیّما إذا عرفنا أنّ من هذه النعمة العظمى تشعّ كلّ النعم الإلهیّة على العالمین.
ولذا أخذ الله سبحانه میثاقاً على الإنسان لكی یتذكّر هذه النعمة العظمى ویشكره علیها،﴿وسیجْزِی اللهُ الشّاكِرِین﴾(2)، وشكر الله سبحانه على هذه النعم یزید فی نماء النعم الإلهیة وتكاثرها على الإنسان ﴿لئِن شكرْتُمْ لأزِیدنّكُمْ﴾(3)، ولكن من المحزن أن یكون الشاكرون لله سبحانه هم قلّة بین الناس ﴿وقلِیلٌ مِّنْ عِبادِی الشّكُورُ﴾(4).
نِعمُ الله لا تُحصى
لقد منّ الله عزّ وجلّ بِنِعم یعجز الإنسان عن أن یُحصیها أو یعدّها، قال تعالى: ﴿وآتاكُم مِّن كُلِّ ما سألْتُمُوهُ وإِن تعُدُّواْ نِعْمت اللهِ لا تُحْصُوها إِنّ الإِنسان لظلُومٌ كفّارٌ﴾(5)، وقال تعالى:﴿وإِن تعُدُّواْ نِعْمة اللهِ لا تُحْصُوها إِنّ الله لغفُورٌ رّحِیمٌ﴾(6).
وعن الإمام علیّ علیه السلام: "الحمد لله الّذی لا یبلغ مدحته القائلون، ولا یُحصی نعماءه العادون"(7).
و عنه علیه السلام - أیضاً -: "أصبحنا وبنا من نعم الله وفضله ما لا نُحصیه، مع كثیر ما نُحصیه، فما ندری أیّ نعمة نشكر أجمیل ما ینشر أم قبیح ما یستر؟!"(8).
أنواع النِّعم الإلهیّة
تُقسم النِّعم الإلهیّة على الإنسان بین نِعمٍ ظاهریّة ونِعمٍ باطنیّة، قال عزّ وجلّ: ﴿ألمْ تروْا أنّ الله سخّر لكُم مّا فِی السّماواتِ وما فِی الْأرْضِ وأسْبغ علیْكُمْ نِعمهُ ظاهِرةً وباطِنةً ومِن النّاسِ من یُجادِلُ فِی اللهِ بِغیْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُّنِیرٍ﴾(9).
وورد عن ابن عبّاس فی تفسیر هذه الآیة الكریمة، "قال: سألت النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم عن قوله تعالى: (ظاهرة وباطنة). فقال: یا بن عبّاس! أمّا ما ظهر فالإسلام، وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض علیك من الرزق. وأمّا ما بطن فستر مساوئ عملك ولم یفضحك به. یا بن عبّاس إنّ الله تعالى یقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن ولم تكن له: صلاة المؤمنین علیه من بعد انقطاع عمله، وجعلت له ثلث ماله أُكفِّر به عنه خطایاه، والثالث: سترت مساوئ عمله ولم أفضحه بشیء منه ولو أبدیتُها علیه لنبذه أهله فمن سواهم.(10)...
من مظاهر النِّعم الإلهیّة
إنّ نِعم الله عزّ وجلّ على الإنسان كثیرة لا تحصى- كما أشرنا مسبقاً- نذكر هنا بعض مظاهرها وتجلّیاتها فی حیاة الإنسان المؤمن، والّتی من أبرزها وأعظمها:
1ـ نعمة خلق الإنسان وأصل إیجاده فی عالم الوجود، فعن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم لعلیّ علیه السلام: "قل ما أوّل نعمة أبلاك الله عزّ وجلّ وأنعم علیك بها؟ قال: أنْ خلقنی جلّ ثناؤه ولم أك شیئاً مذكوراً، قال: صدقت"(11).
2ـ نعمة الولایة وهی من النِّعم العظیمة الّتی منّ بها الله تبارك وتعالى على شیعة أهل البیت علیهم السلام، وجعلها من تمام الدین: ﴿الْیوْم أكْملْتُ لكُمْ دِینكُمْ وأتْممْتُ علیْكُمْ نِعْمتِی ورضِیتُ لكُمُ الإِسْلام دِینًا﴾(12).
وقد جاء فی حدیث الغدیر أنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قال: "أیّها الناس ألستم تعلمون أنّی أولى بالمؤمنین من أنفسهم؟ ﴿النّبِیُّ أوْلى بِالْمُؤْمِنِین مِنْ أنفُسِهِمْ﴾(13). قالوا: بلى، قال: "من كنت مولاه فعلیّ مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره"(14).
وورد عن الإمام الصادق علیه السلام قال: "حدّثنا الحسن بن علیّ علیه السلام أنّ الله عزّ وجلّ بمنّه ورحمته لمّا فرض علیكم الفرائض لم یفرض ذلك علیكم لحاجة منه إلیه، بل رحمة منه، لا إله إلّا هو، لیمیز الخبیث من الطیّب، ولیبتلی ما فی صدوركم، ولیُمحِّص ما فی قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم فی جنّته، ففرض علیكم الحجّ، والعمرة، وإقام الصلاة، وإیتاء الزكاة، والصوم، والولایة، وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبیله، ولولا محمّد صلى الله علیه وآله وسلم والأوصیاء من ولده علیهم السلام كنتم حیارى كالبهائم، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تُدخل قریة إلا من بابها، فلمّا منّ علیكم بإقامة الأولیاء بعد نبیّكم صلى الله علیه وآله وسلم قال: ﴿الْیوْم أكْملْتُ لكُمْ دِینكُمْ وأتْممْتُ علیْكُمْ نِعْمتِی ورضِیتُ لكُمُ الإِسْلام دِینًا﴾ ففرض علیكم لأولیائه حقوقاً وأمركم بأدائها إلیهم، لیحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم، وأموالكم، ومآكلكم، ومشاربكم، ویُعرّفكم بذلك البركة، والنماء، والثروة، لیعلم من یطیعه منكم بالغیب، ثمّ قال عزّ وجلّ: ﴿قُل لّا أسْألُكُمْ علیْهِ أجْرًا إِلّا الْمودّة فِی الْقُرْبى﴾(15)
ولذا، فإنّ وجوب الإطاعة یدور مدار الولایة فی تفسیر قوله تعالى: ﴿یا أیُّها الّذِین آمنُواْ أطِیعُواْ الله وأطِیعُواْ الرّسُول وأُوْلِی الأمْرِ مِنكُمْ﴾(16).
كما إنّ الطاعة توجب النِّعم الإلهیّة والحشر یوم القیامة مع النبیّین والصدّیقین والشهداء والصالحین، قال تعالى: ﴿ومن یُطِعِ الله والرّسُول فأُوْلـئِك مع الّذِین أنْعم اللهُ علیْهِم مِّن النّبِیِّین والصِّدِّیقِین والشُّهداء والصّالِحِین وحسُن أُولـئِك رفِیقًا﴾(17).
ونحن نُردّد یومیاً فی صلواتنا: ﴿اهدِنــــا الصِّراط المُستقِیم * صِراط الّذِین أنعمت علیهِمْ غیرِ المغضُوبِ علیهِمْ ولا الضّالِّین﴾(18).
3- ومن نِعم الله تعالى على الإنسان الرزق والسعة فی المال "اللّهمّ اعطنی السعة فی الرزق". وهنا لا بدّ أن یقطع الإنسان بأنّ مصدر الرزق هو الله تعالى ﴿وما مِن دآبّةٍ فِی الأرْضِ إِلاّ على اللهِ رِزْقُها﴾(19)، بالتالی لا بدّ أن یسعى الإنسان نحو الرزق الحلال الطیّب وأن یكون السؤال والطلب من الله سبحانه، ونحن نقرأ فی تعقیب صلاة العشاء: "اللّهُمّ إِنّهُ لیْس لِی عِلْمٌ بِموْضِعِ رِزْقِی، وإِنّما أطْلُبُهُ بِخطراتٍ تخْطُرُ على قلْبِی، فأجُولُ فِی طلبِهِ الْبُلْدان، فأنا فِیما أنا طالِبٌ كالْحیْرانِ، لا أدْرِی أفِی سهْلٍ هُو أمْ فِی جبلٍ، أمْ فِی أرْضٍ أمْ فِی سماءٍ، أمْ فِی برٍّ أمْ فِی بحْرٍ، وعلى یدیْ منْ ومِنْ قِبلِ منْ، وقدْ علِمْتُ أنّ عِلْمهُ عِنْدك وأسْبابهُ بِیدِك، وأنْت تقْسِمُهُ بِلُطْفِك وتُسبِّبُهُ بِرحْمتِك.اللّهُمّ فصلِّ على مُحمّدٍ وآلِهِ، واجْعلْ یا ربِّ رِزْقك لِی واسِعاً، ومطْلبهُ سهْلًا، ومأْخذهُ قرِیباً، ولا تُعنِّتْنِی بِطلبِ ما لمْ تُقدِّرْ لِی فِیهِ رِزْقاً، فإِنّك غنِیٌّ عنْ عذابِی، وأنا فقِیرٌ إِلى رحْمتِك، فصلِّ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ، وجُدْ على عبْدِك بِفضْلِك، إِنّك ذُو فضْلٍ عظِیمٍ"(20).
ولكنّ الأفضل من الرزق والسعة فیه هو "الصحّة فی الجسد والقوّة فی البدن"، قال الإمام الصادق علیه السلام: "العافیة نعمة خفیّة إذا وُجدت نُسیت، وإذا فُقدت ذُكرت والعافیة نعمة یعجز الشكر عنها"(21).
وأمّا أفضل من كلّ ذلك وأهمّ هو (السلامة فی الدین)، أی تقوى القلوب وإخلاصها إلى الباری عزّ وجلّ. وهذا ما أكّد علیه الإمام علیّ علیه السلام حینما قال: "إنّ من النِّعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلب"(22).
4ـ نعمة الأمان فی الوطن، وهی من النِّعم الأساس فی حیاة الفرد والمجتمع. وإذا كانت نعمة الأمان فی الدنیا هی نعمة مطلوبة ومهمّة، فإنّ أمان یوم القیامة ویوم الفزع الأكبر هو أكثر أهمیّة من أمان الدنیا والوطن. وهنا نسأل أنفسنا: هل تهیّأنا واستعددنا لذلك الیوم؟ وما هو المطلوب منّا لننال نعمة الأمان والرحمة الإلهیّة یوم القیامة؟
إن أهل الأمان یوم القیامة هم المحسنون فی الدنیا، وأهل العمل الصالح، قال تعالى: ﴿من جاء بِالْحسنةِ فلهُ خیْرٌ مِّنْها وهُم مِّن فزعٍ یوْمئِذٍ آمِنُون﴾(23).
روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال: "لمّا كلّم الله عزّ وجلّ موسى بن عمران علیه السلام، قال موسى: إلهی، ما جزاء من شهد أنّی رسولك ونبّیك، وأنّك كلّمتنی؟ قال: یا موسى، تأتیه ملائكتی فتبشّره بجنّتی.
قال موسى علیه السلام: إلهی، فما جزاء من قام بین یدیك یُصلّی؟
قال: یا موسى، أُباهی به ملائكتی راكعاً وساجداً، وقائماً وقاعداً، ومن باهیت به ملائكتی لم أُعذِّبه.
قال موسى علیه السلام: إلهی، فما جزاء من أطعم مسكیناً ابتغاء وجهك؟
قال: یا موسى، آمر منادیاً یُنادی یوم القیامة على رؤوس الخلائق: إنّ فلاناً بن فلان من عتقاء الله من النار.
قال موسى علیه السلام: إلهی، فما جزاء من وصل رحمه؟
قال: یا موسى، أُنسئ(24) له أجله، وأهوّن علیه سكرات الموت، ویُنادیه خزنة الجنّة: هلمّ إلینا فادخل من أیّ أبوابها شئت…
إلى أن یقول علیه السلام:
"إلهی، فما جزاء من صبر على أذى الناس وشتْمِهم فیك؟
قال: أُعینه على أهوال یوم القیامة.
قال: إلهی، فما جزاء من دمعت عیناه من خشیتك؟
قال: یا موسى، أقی وجهه من حرّ النار، وأومنه یوم الفزع الأكبر..."(25).
وعن أمیر المؤمنین علیه السلام - أیضاً - قال: "قال لی رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم:.. یا علیّ، أنت وشیعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم، وأنتم الآمنون یوم الفزع الأكبر فی ظلّ العرش، یفزع الناس ولا تفزعون، ویحزن الناس ولا تحزنون، فیكم نزلت هذه الآیة: ﴿إِنّ الّذِین سبقتْ لهُم مِّنّا الْحُسْنى أُوْلئِك عنْها مُبْعدُون﴾(26) وفیكم نزلت ﴿لا یحْزُنُهُمُ الْفزعُ الْأكْبرُ وتتلقّاهُمُ الْملائِكةُ هذا یوْمُكُمُ الّذِی كُنتُمْ تُوعدُون﴾ (27)
5- نعمة الزوجة والأولاد والحیاة الأُسریّة السعیدة كما یدعو الإمام زین العابدین علیه السلام: "اللّهمّ وأعطنی… قرّة العین فی الأهل والمال الولد". ومعنى قرّة العین: أنّ الإنسان تكون عینه هادئة مسرورة، وهو كنایة عن الحیاة السعیدة بین الزوج والزوجة والأولاد. وهذا ما أكّد علیه المولى عزّ وجلّ: ﴿.. ربّنا هبْ لنا مِنْ أزْواجِنا وذُرِّیّاتِنا قُرّة أعْیُنٍ واجْعلْنا لِلْمُتّقِین إمامًا﴾(28)
وهنا لا بدّ أن نسأل: كیف تكون الحیاة الزوجیّة والأُسریّة سعیدة بنظر الإسلام العزیز؟
نُلاحظ أنّ روایات أهل البیت علیهم السلام جاءت بالعدید من النصائح والتوجیهات لكلا الزوجین، ودعتهم للأخذ بها عند الإقبال على بناء بیت الزوجیة، بُغیة التمتّع بنعمة الحیاة الأُسریّة الملیئة بالحبّ والعاطفة والسعادة. فعلى سبیل المثال ورد عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ خیر نسائكم الولود الودود العفیفة، العزیزة فی أهلها، الذلیلة مع بعلها، المتبرِّجة مع زوجها، الحصان على غیره، الّتی تسمع قوله وتُطیع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما یُرید منها"(29).
وعنه صلى الله علیه وآله وسلم: "من سعادة المرء الزوجة الصالحة"(30).
وفی المقابل قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "إذا جاءكم من ترضون خُلقه ودینه فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة فی الأرض وفساد كبیر"(31).
وممّا سبق نستنتج: أنّ رؤیة الإسلام للحیاة السعیدة فی الأُسرة لا تقوم على المال فقط ولا على الجمال فقط، بل الحیاة السعیدة هی الّتی تجمع بین الجانب المادیّ والجانب الأخلاقیّ معاً. فعن
الإمام الصادق علیه السلام قال: "إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وُكِل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدینها رزقه الله الجمال والمال"(32)، ولذا كان دعاء سیّد الساجدین علیه السلام جامعاً: " اللهم وأعطنی… قرّة العین فی الأهل والمال الولد".
وقد قدّم الإمام علیّ والسیّدة فاطمة علیه السلام نموذجاً جمیلاً یعكس جمالیّة الحیاة السعیدة فی الإسلام، حیث كانت فاطمة علیه السلام تعجن وتطبخ وتطحن، فی حین كان علیّ علیه السلام یحتطب ویكنس البیت. روی عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام قال: "كان أمیر المؤمنین علیه السلام یحتطب ویستقی ویكنس، وكانت فاطمة علیه السلام تطحن وتعجن وتخبز"(33).
من الأمور التی تُدیم النِّعم وتزیدها:
لقد سخّر الله تعالى جمیع مخلوقاته فی خدمة الإنسان والرقیّ به نحو الكمال، وهی نِعم لا تدوم ولا تزید إلا بوجود أسبابها وأداء الواجب نحوها، كما یقول أمیر المؤمنین علیه السلام فی صفة الإسلام: "فیه مرابیع النِّعم(مرابیع:جمع مِرباع، بكسر المیم:المكان ینبت نبته فی أوّل الربیع.)، ومصابیح الظُلم، لا تُفتح الخیرات إلّا بمفاتیحه، ولا تُكشف الظلمات إلّا بمصابیحه"(34).
لذا كان لا بدّ للإنسان من أن یقوم بما یفی لهذه النِّعم الإلهیّة ولو بالقلیل، كالقیام على سبیل المثال بـ:
1- أداء الشكر لله على هذه النِّعم، لأنّ الشكر یزید فی النِّعم والبركات. قال تعالى: ﴿ولوْ أنّ أهْل الْقُرى آمنُواْ واتّقواْ لفتحْنا علیْهِم بركاتٍ مِّن السّماء والأرْضِ ولـكِن كذّبُواْ فأخذْناهُم بِما كانُواْ یكْسِبُون﴾(35)، ﴿ولوْ أنّهُمْ أقامُواْ التّوْراة والإِنجِیل وما أُنزِل إِلیهِم مِّن رّبِّهِمْ لأكلُواْ مِن فوْقِهِمْ ومِن تحْتِ أرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمّةٌ مُّقْتصِدةٌ وكثِیرٌ مِّنْهُمْ ساء ما یعْملُون﴾(36). وعن أبی عبد الله الصادق علیه السلام قال: "من أُعطی الشكر أُعطی الزیادة یقول الله عزّ وجلّ: ﴿لئِن شكرْتُمْ لأزِیدنّكُمْ﴾".
2- الدوام على ذكر نِعم الله وعدم الغفلة عنها، قال تعالى: ﴿یا أیُّها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمت اللهِ علیْكُمْ هلْ مِنْ خالِقٍ غیْرُ اللهِ یرْزُقُكُم مِّن السّماء والْأرْضِ لا إِله إِلّا هُو فأنّى تُؤْفكُون﴾(37).
وعن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فی قوله تعالى: ﴿وذكِّرْهُمْ بِأیّامِ اللهِ﴾ (أی): "بنعم الله وآلائه"(38)، وعن الإمام الصادق علیه السلام فی قوله تعالى: ﴿وأمّا بِنِعْمةِ ربِّك فحدِّثْ﴾(39): "الّذی أنعم علیك بما فضّلك، وأعطاك وأحسن إلیك، ثم قال: فحدّث بدینه وما أعطاه الله وما أنعم به علیه"(40).
- أیضاً: معناه اذكر نعمة الله وأظهرها وحدِّث بها، وفی الحدیث: "من لم یشكر الناس لم یشكر الله، ومن لم یشكر القلیل لم یشكر الكثیر، والتحدُّث بنعمة الله شُكر وتركه كُفر"، وعن الإمام الحسن علیه السلام: "تُجهل النِّعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرِفت"(41)، وعن الإمام علیّ علیه السلام: "أحسنوا صحبة النِّعم قبل فِراقها، فإنّها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فیها"(42).
3- القناعة بنِعم الله تعالى وعدم الإسراف فیها، قال الإمام الكاظم علیه السلام: "من اقتصد وقنع بقیت علیه النِّعمة، ومن بذّر وأسرف زالت عنه النِّعمة"(43).
4- السعی فی قضاء حوائج الناس، قال الإمام علیّ علیه السلام: "من كثُرت نِعم الله علیه كثُرت حوائج الناس إلیه، فمن قام لله فیها بما یجب فیها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم یقم فیها بما یجب عرّضها للزوال والفناء"(44).
5- الامتناع عن ظلم الناس والاستعانة بنعم الله على معاصیه لا سیّما التكبُّر على عباده، قال الإمام علیّ علیه السلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم فیها، إلّا كان حقیقاً أن یُزیلها عنه"(45).
وورد فی زبور داود علیه السلام: یقول الله تعالى: "یا بن آدم! تسألنی وأمنعك لعلمی بما ینفعك، ثمّ تُلحّ علیّ بالمسألة فأُعطیك ما سألت، فتستعین به على معصیتی"(46).
وعن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "یقول الله تبارك وتعالى: یا بن آدم ما تنصفنی! أتحبّب إلیك بالنِّعم وتتمقّت إلیّ بالمعاصی، خیری علیك منزل وشرّك إلیّ صاعد"(47)، ویقول الإمام علیّ علیه السلام: "بالتواضع تتمّ النِّعمة"(48).
6- إظهار النِّعم الّتی أنعم الله بها على الإنسان، قال الإمام علیّ علیه السلام: "إنّ الله جمیل یُحبُّ الجمال، ویُحبُّ أن یرى أثر النِّعمة على عبده"(49).
وعن الإمام الصادق علیه السلام: "إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت علیه سُمّی حبیب الله محدِّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر علیه سُمّی بغیض الله مُكذِّباً بنعمة الله"(50)، وعنه علیه السلام: "إنّ الله تعالى یُحبُّ الجمال والتجمیل، ویُبغض البؤس والتباؤس، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن یرى علیه أثرها، قیل: وكیف ذلك؟ قال: یُنظِّف ثوبه، ویُطیِّب ریحه، ویُجصِّص داره، ویكنس أفنیته، حتّى أنّ السراج قبل مغیب الشمس ینفی الفقر ویزید فی الرزق"(51).
المفاهیم الأساس
إنّ نِعم الله تبارك وتعالى على الإنسان كثیرة لا تُعدّ ولا تُحصى، سواء كانت نِعماً باطنة كستر عیوب الإنسان وعدم فضحه، أم كانت ظاهرة كنعمة الإسلام وولایة النبیّ وأهل بیته علیهم السلام وهی الولایة المتّصلة بالله سبحانه. ومن مظاهر النِّعم: السعة فی المال، الأمن فی الوطن، الراحة فی الحیاة الزوجیّة.
هناك العدید من الأمور التی تُدیم النِّعم وتزیدها:
- شكر الله تعالى وحمده على هذه النعم.
- الدوام على ذكر نِعمِ الله وعدم الغفلة عنها.
- القناعة بنعم الله تعالى وعدم الإسراف فیها.
- السعی فی قضاء حوائج الناس وعدم ظلمهم والتكبّر علیهم.
- إظهار النِّعم الّتی أنعم الله بها على الإنسان.
خادم الإمام الصادق علیه السلام والتاجر الخراسانیّ
كان للإمام الصادق علیه السلام خادم یُمسك له الفرس إذا أراد أن یركب أو یمشی. وفی یوم من الأیام جاء تاجر خراسانیّ، فقال للخادم: أنا تاجر فی خراسان عندی بساتین عدیدة وكثیر من الجواری والأموال، أُعطیك إیاها كلّها على أن تجعلنی مكانك وتهبنی مهنتك وأُصبح خادم الإمام الصادق علیه السلام بدلاً عنك.
فابتهج الخادم فرحاً وقال له: قبِلت.
ثم دخل على الإمام الصادق علیه السلام وقال له: جُعلت فداك تعرف خدمتی، وطول صُحبتی، فإن ساق الله إلیّ خیراً تمنعنیه؟ قال علیه السلام: أنا أُرید لك الخیر من نفسی، فإذا جاءك الخیر من غیری كیف أمنعك؟! ولكن ما هی القضیّة؟
أخبره الخادم بما حصل بینه وبین التاجر الخراسانیّ، فقال علیه السلام: إذا رغبت عنّا اذهب، وإذا رغب فینا غیرك فلیأت.
تهلّل وجه الخادم فرحاً، وعندما همّ بالخروج دعاه الإمام علیه السلام قائلاً: لك علینا حقّ لطول صحبتك والمدّة الّتی خدمتنی، ولا بُدّ أن أؤدی حقّك وهو النصیحة، ولك الخیار.
فقال الخادم: قل یا ابن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم.
قال علیه السلام: إعلم إذا كان یوم القیامة كان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم متعلّقاً بنور الله، وكان أمیر المؤمنین علیه السلام متعلّقاً بنور رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم، وكان الأئمّة متعلِّقین بأمیر المؤمنین، وكان شیعتنا متعلّقین بنا یدخلون مدخلنا، ویردون موردنا.
وإذا شئت الآن أن تذهب فاذهب.
فقال له الخادم: یا ابن رسول الله لا أوثر الدنیا على الآخرة، بل أُقیم فی خدمتك وأوثر الآخرة على الدنیا. وخرج الخادم إلى التاجر الخراسانیّ حزیناً خجولاً، فقال له الخراسانیّ: أراك الآن خجولاً حزیناً وقد كنت دخلت فرحاً! قال الخادم: أنا لا أُفضّل الدنیا على الآخرة، ولا أقبل المبادلة دعنی فی خدمة الإمام الصادق علیه السلام(52).
المصادر:
1- المائدة:6 - 7.
2- آل عمران:144.
3- إبراهیم:7.
4- سبأ:13.
5- إبراهیم:34.
6- النحل:18.
7- نهج البلاغة، الخطبة 1.
8- تحف العقول، ابن شعبة الحرانی، ص210.
9- لقمان:20.
10- تفسیر مجمع البیان، الشیخ الطبرسی، ج8، ص 88.
11- تفسیر نور الثقلین، الشیخ الحویزی، ج4، ص 214.
12- المائدة:3.
13- الأحزاب:6.
14- غایة المرام، السید هاشم البحرانی، ج1، ص 157.
15- الشورى:23. - الأمالی للشیخ الطوسی، ص 655.
16- النساء:57.
17- النساء:69.
18- الحمد:6 - 7.
19- هود:6.
20- مفاتیح الجنان، عبّاس القمی، ص 70.
21- روضة الواعظین، النیسابوری، ص472.
22- نهج البلاغة، ج4، ص 93.
23- النمل:89.
24- نسأ الشیء:أخّره.
25- أمالی الصدوق، ص 276.
26- الأنبیاء:21.
27- أمالی الصدوق، ص657.
28- الفرقان:74.
29- الكافی، الشیخ الكلینی، ج5، ص324.
30- م. ن، ص327.
31- الكافی، الشیخ الكلینی، ج5، ص347.
32- م. ن، ج5، ص333.
33- م. ن، ج5، ص86.
34- نهج البلاغة، الخطبة 152.
35- الأعراف:96.
36- المائدة:66.
37- فاطر:3.
38- الدر المنثور، للسیوطی، ج4، ص 70.
39- الضحى:11.
40- الكافی، الشیخ الكلینی، ج2، ص 94.
41- بحار الأنوار، العلّامة المجلسیّ، ج 75، ص 115.
42- علل الشرائع، الشیخ الصدوق، ج2، ص 464.
43- میزان الحكمة، ج4، ص 3313.
44- نهج البلاغة، الحكمة 372.
45- عیون الحكم والمواعظ، الواسطی، ص 482.
46- بحار الأنوار، العلّامة المجلسیّ، ج70، ص 365.
47- م. ن، ج70، ص 352.
48- میزان الحكمة، الریشهری، ج4، ص 3318.
49- الكافی، الشیخ الكلینی، ج6، ص 438.
50- الكافی، الشیخ الكلینی، ج6، ص 438.
51- أمالی الطوسی، ص 275.
52- الخرائج والجرائح، للراوندیّ، ج1، ص391. (بتصرّف)
source : rasekhoon