عربي
Friday 22nd of November 2024
0
نفر 0

هـنـاك ملاحظة بارزة تطرح نفسها امام المتتبع للتعريفات الواردة في مقام تحديدهوية ( البدعة ) ورسـم معالمها وخصوصا التعريفات التي اوردها ابنا العامة لهذا المفهوم تلك الملاحظة تتلخص في ان الكثير من هذه التعريفات قد طبعت بخاصيتين متميزتين

الفصل الثاني تـقسيم البدعـة

مع القائلين بالتقسيم .
انعكاسات القول بالتقسيم .
بطلان القول بالتقسيم .
مع النافين للتقسيم .
استدراك خائب

تقسيم البدعة

هـنـاك ملاحظة بارزة تطرح نفسها امام المتتبع للتعريفات الواردة في مقام تحديدهوية ( البدعة ) ورسـم معالمها وخصوصا التعريفات التي اوردها ابنا العامة لهذا المفهوم تلك الملاحظة تتلخص في ان الكثير من هذه التعريفات قد طبعت بخاصيتين متميزتين :
الخاصية الاولى : ان هذه الحدود قد جعلت تقسيم ( البدعة ) الى ممدوحة ومذمومة اساسا لتوضيح مفهومها , وتحديد هويتها , وانطلقت في بنا اصل التعريف على هذا الاساس .
والـخـاصـيـة الـثانية : ان هذه الحدود قد سيقت بطريقة لا تصطدم فيها مع قول عمر بشان صلاة التراويح : (( نعمت البدعة هذه )).
والـملاحظ ان هاتين الخاصيتين متداخلتان , اذ ان المؤشرات العلمية تدلل على ان السبب الذي الجا القائلين بالتقسيم الى انتهاج هذا السبيل انما يكمن في محاولة تخريج المقولة المتقدمة آنفا , ومحاولة تبرير اطلاق لفظ ( البدعة ) على ما يعتقد انه من الامورالممدوحة وهو ( التراويح ).
فقد ورد في امهات الكتب الحديثية لدى ابنا العامة , بما في ذلك صحيح البخاري ان عمر قد اطلع في زمـان خـلافـتـه عـلى الناس , وهم يتنفلون ليلا في المسجد النبوي , في شهر رمضان , فراى ان يـجمعهم على قارئ واحد , ليصلوا النوافل جماعة , بدلا من ان يصلوها فرادى , فجمعهم على ابي بـن كعب , ثم اطلع عليهم ليلة اخرى , وهم يصلون هذه النافلة في جماعة , فاعجبه ذلك وقال : (( نعمت البدعة هذه )).
وقد كان مفهوم ( البدعة ) قد اخذ بعده الارتكازي المستفاد من الشريعة في اذهان الاصحاب آنذاك , نتيجة لتناول النصوص النبوية له بكثرة وتكرار , وتاكيدهاعلى ذم الابتداع , وانتقادها له بشدة , ودعـوتـهـا الى ضرورة مواجهته , ومكافحته ,واستئصاله , وتنكيلها بالمبتدعين , ووعدهم باشد واقسى انواع العقوبات الدنيوية والاخروية .
وشان ( البدعة ) في ذلك شان المصطلحات الاسلامية المنقولة الاخرى , التي كانت لها مداليل لغوية مـعـينة قبل النقل , وفي الاصطلاح اللغوي العام , الا انها استعملت من قبل الشارع المقدس في معان اصـطـلاحـيـة جـديـدة , واتـخذت طابعا شرعيا محددا لاتربطه مع المعنى السابق في مجالات الاسـتـعـمال , الا تلك العلاقة التي جوزت عملية النقل ,ونتيجة لكثرة استعمال هذه المصطلحات الـمـنقولة الجديدة في حياة المسلمين في معانيهاالشرعية , فقد بدات الذهنية المتشرعة تهجر تلك المعاني اللغوية القديمة , وتنصرف تلقائيا الى المعنى الاصطلاحي الشرعي من دون حاجة الى ذكر القرائن والقيود.
فـالصلاة , والزكاة , والحج , والخمس وغير ذلك من المصطلحات الشرعية الاخرى , قد خضعت لعملية النقل هذه , واخذت بعدها الواضح في اذهان المسلمين , من خلال معانيها الشرعية الجديدة .
ومـفهوم ( البدعة ) واحد من تلك المفاهيم التي سلكت عين الطريق , وسارت في ذات المسار الذي ضم الاعداد الغفيرة من المنقولات .
ولم يكن ليشك احد بعد عملية النقل هذه في دلالة لفظ ( البدعة ) على الحادث المذموم , والممارسة المقيتة والمرفوضة في نظر الشريعة الاسلامية , ولم يكن ليترددشخص في طبيعة المورد الذي يستعمل فيه هذا المفهوم , بعد هذا التداول المتكرر والتاكيدالحثيث .
ولـكـن بعد ان ورد لفظ ( البدعة ) في حديث التراويح بالذات , انقلبت تلك الموازين والمرتكزات , وتوقف اعمال الاسس العلمية التي يتم بموجبها التعامل مع المواقف والاحداث , وقامت الدنيا ولم تقعد , من اجل تبرير اطلاق لفظ ( البدعة )على هذه الصلاة , وتوجيه معناها الجديد وتحير القوم في هذا الامر فهم بين حشد كبير من النصوص الصريحة التي تناولت هذا المفهوم بالذم الـواضـح , والـتقريع الصريح , والتي ما فتئت حية وساخنة في وجدان المسلمين وقت اطلاق ذلك الـقـول وبين مقولة (( نعمت البدعة هذه )) التي عاكست ذلك الاتجاه , وسارت في طريق مضاد له تماما.
وكـان ان تـمـخــض الـحــل في راي هؤلا المبررين والمـدافعين بتشطير مفـهوم ( البدعة ) , وتـقـسـيـمـه الـى قسمين : بدعة مذمومة , وهي التي تناولتها احاديث الرسول الاكرم (ص ) بالذم والانـتقاد , وبدعة ممدوحة , وهي التي يمكن ان تندرج تحتها صلاة التراويح , فيتوجه بذلك القول السابق المذكور في الحديث .
ولنحاول في البداية ان نتناول الاقوال التي نصت على تقسيم البدعة , ثم ننظر بعدذلك في حقيقة هذا التقسيم .

مع القائلين بالتقسيم :

نرجو من القارئ الكريم ان يركز عند مطالعة الاقوال التالية على نقطة مهمة جدافي التقسيم , وهي بـنـا الـتـقـسـيمات المزعومة على اساس واحد , وهو عبارة عن مقولة (( نعمت البدعة هذه )) , وانطلاقها من هذا الاتجاه .
واهم هذه الاقوال هي :
1 ـ الشافعي : روى البيهقي باسناده عن الشافعي انه قال : (( المحدثات من الامورضربان : احدهما ما احدث مما يخالف كتابا , او سنة , او اثرا , او اجماعا , فهذه البدعة الضلالة , والثاني ما احدث من الخير , لاخلاف فيه لواحد من العلما , وهذه محدثة غيرمذمومة , وقال عمر(رض ) في قيام شهر رمضان : [ نعمت البدعة هذه ] ((382)) .
قال الربيع معقبا على ذلك :
(( وقـد اسـتند في كلا التعبيرين الى قول عمر(رض ) في صلاة التراويح : (( نعمت البدعة هذه )) ((383)) .
2 ـ ابن حزم : يقول بصدد التقسيم : (( البدعة في الدين : كل ما لم يات في القرآن ,ولا عن رسول اللّه , الا ان مـنـهـا مـا يـؤجر عليه صاحبه , ويعذر بما قصد اليه من الخير ,ومنها ما يؤجر عليه صاحبه , ويكون حسنا , وهو ما كان اصله الاباحة , كما روي عن عمر(رض ) عنه : نعمت البدعة هذه )) ((384)) .
3 ـ ابـن الاثير : يقول في ( جامع الاصول ) عن هذا التقسيم : (( فاما الابتداع من المخلوقين , فان كـان فـي خلاف ما امر اللّه به ورسوله , فهو في حيز الذم والانكار , وان كان واقعا تحت عموم ما ندب اللّه اليه , وحض عليه , او رسوله , فهو في حيز المدح , وان لم يكن مثاله موجودا , كنوع من الـجود , والسخا , وفعل المعروف ويعضد ذلك قول عمربن الخطاب (رض ) في صلاة التراويح :
نعمت البدعة هذه )) ((385)) .
4 ـ الجاكمودي : يقول في قصيدة له :
فبدعة فعلك ما لم يعهدفي عهد سيد الورى محمد.
قد قسمت كالخمسة الاحكام من الوجوب الندب والحرام .
كذاك مكروه وجائز تمام قد قاله عز بن عابد السلام .
فكل بدعة ضلالة حمل على التي قد حرمت فقط نقل .
من بدع واجبة تعلم النحو اذ به الكتاب يفهم .
ومثلوا الحرام في المكاتب كالقدرية من المذاهب .
وانما زخرفة المساجدمن بدع مكروهة للعابد.
ومثلوا المندوب كاجتماع عند التراويح بلا نزاع ((386)) .
5 ـ عـز الـديـن بن عبد السلام : وقد بالغ في تقسيم ( البدعة ) , وسحب عليهاالاحكام الشرعية الخمسة , وهو الذي قصده ( الجاكمودي ) في ابياته المتقدمة , فيقول في اواخر ( القواعد ) :
(( البدعة : خمسة اقسام , فالواجبة : كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام اللّه ورسوله , لان حفظ الشريعة واجب , ولا يتاتى الا بذلك , فيكون من مقدمة الواجب ,وكذا شرح الغريب , وتدوين اصول الـفـقـه , والـتوصل الى تمييز الصحيح والسقيم ,والمحرمة : ما رتبه من خالف السنة من القدرية , والـمـرجـئة , والمشبهة , والمندوبة : كل احسان لم يعهد عينه في العهد النبوي , كالاجتماع على الـتـراويـح , وبنا المدارس والربط ,والكلام في التصوف المحمود , وعقد مجالس المناظرة , ان اريد بذلك وجه اللّه , والمباحة :كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر , والتوسع في المستلذات مـن اكـل , وشـرب ,ومـلبس , ومسكن , وقد يكون ذلك مكروها , او خلاف الاولى , واللّه اعلم )) ((387)) .
6 ـ الـغـزالي : يقول في الاحيا بصدد الاكل على السفرة ما يستفاد منه تبنيه للتقسيم المذكور : (( وقيل : اربع احدثت بعد رسول اللّه (ص ) : الموائد , والمناخل ,والاشنان , والشبع , واعلم انا وان قلنا الاكل على السفرة اولى , فلسنا نقول الاكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة او تحريم , اذ لم يثبت فيه نهي .
وما يقال انه ابدع بعد رسول اللّه (ص ) , فليس كل ما ابدع منهيا عنه , بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثـابـتـة , وتـرفـع امـرا من الشرع مع بقا علته , بل الابداع قد يجب في بعض الاحوال اذا تغيرت الاسباب )) ((388)) .
7 ـ الـشـيخ عبد الحق الدهولي : يقول في شرح المشكاة مصرحا بالتقسيم :(( اعلم ان كل ما ظهر بعد رسول اللّه (ص ) بدعة , وكل ما وافق اصول سنته وقواعدها , اوقيس عليها فهو بدعة حسنة , وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة )) ((389)) .

انعكاسات القول بالتقسيم :

ان الـقول بتقسيم ( البدعة ) لو كان قد توقف عند هذا الحد الذي استعرضناه قبل قليل , لكان الامر هـينا ويسيرا , ولكن بعض كتب اللغة التي يفترض انها تتناول المعاني بشكل توقيفي لا اجتهاد فيه , وتـستعرض اللغات بامانة ودقة متناهية قد تاثرت بهذاالتقسيم ايضا , وحملت مفهوم ( البدعة ) هذا المعنى الخاطئ في تسامع خطير , وتبع هذه الكتب اللغوية بعض دوائر المعارف المشهورة ايضا.
ومـمـا يـنـبـغي الالتفات اليه ان هذه الكتب لم تجعل تقسيم ( البدعة ) مختصا بمعناهااللغوي , لكي يـلـتـمـس لـهـا الـعـذر فيما قالت وادعت , وانما نصت على ان التقسيم من خواص ( البدعة ) في الاصطلاح الشرعي .
واليك ايها القارئ الكريم نماذج من ذلك :

1 ـ المصباح المنير : (( وابدعت الشي وابتدعته : استخرجته واحدثته , ومنه قيل للحالة المخالفة : ( بدعة ) , وهي اسم من ( الابتداع ) , كالرفعة من الارتفاع , ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الـديـن او زيـادة , لكن قد يكون بعضها غير مكروه فيسمى : بدعة مباحة , وهو مصلحة يندفع بها مفسدة , كاحتجاب الخليفة عن اخلاطالناس )) ((390)) .
فـمـن الملاحظ هنا ان ( المصباح المنير ) بعد ان يستعرض المعنى اللغوي للبدعة ,ينتقل الى بيان مـعـنـاهـا الـشرعي , فينص على انها يمكن ان تكون مباحة كذلك , ويمثل لهاباحتجاب الخليفة عن اخـلاط الـناس , الذي لم يكن موجودا في عصر التشريع الاول ,وانما احدث بعد ذلك في الازمنة المتاخرة , ويعد ذلك بدعة مباحة .
2 ـ تـهـذيـب الاسما واللغات : (( ( بدع ) : البدعة بكسر البا في الشرع هي احداث ما لم يكن في عهد رسول اللّه (ص ) , وهي منقسمة الى حسنة وقبيحة )) ((391)) .
3 ـ الـنـهاية ((392)) : (( وفي حديث عمر(رض ) في قيام رمضان : نعمت البدعة هذه ,البدعة بـدعـتـان : بدعة هدى , وبدعة ضلال , فما كان في خلاف ما امر اللّه به ورسوله (ص ) ,فهو في حيز الذم والانكار , وما كان واقعا تحت عموم ما ندب اللّه اليه , وحض عليه اللّه ,او رسوله , فهو فـي حـيز المدح , ومالم يكن له مثال موجود , كنوع من الجود , والسخا ,وفعل المعروف , فهو من الافعال المحمودة ومن هذا النوع قول عمر(رض ) : نعمت ا لبدعة هذه , لما كانت من افعال الخير , وداخلة في حيز المدح سماها بدعة , ومدحها , لان النبي (ص ) لم يسنها لهم , وانما صلا ها ليالي ثم تـركـهـا ((393)) , ولـم يحافظ عليها , ولا جمع الناس لها , ولا كانت فى زمن ابي بكر , وانما عـمـر(رض ) جـمـع الـنـاس عليها , وندبهم اليها , فبهذاسماها بدعة , وهي على الحقيقة سنة , لقوله (ص ) : ( عليكم بسنتي , وسنة الخلفاالراشدين من بعدي ) , وقوله : ( اقتدوا بالذين من بعدي ابي بكر و عمر ) ((394)) .
وعلى هذا التاويل يحمل الحديث الاخر : ( كل محدثة بدعة ) , انما يريد ما خالف اصول الشريعة , ولم يوافق السنة واكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذم )) ((395)) .
وقد اصبح تقسيم ابن الاثير ل ( البدعة ) في هذا الكلام الى : مذمومة وممدوحة ,اساسا تناقلته كتب لغوية اخرى , وجعلته احد الارا المعتبرة للمعنى الشرعي لها , من دون ان تتبناه .
ومن تلك الكتب ( لسان العرب ) لابن منظور , حيث نقل كلام ابن الاثير هذابتمامه , ونسبه اليه من دون تعليق ((396)) , كما نقله بتمامه ايضا صاحب ( تاج العروس ) ,ونسبه الى قائله ((397)) , ونقل بعضه ايضا الطريحي في ( مجمع البحرين ) , ولم يصرح باسم قائله ((398)) .
ونحن لا نريد ان نسجل ملاحظة على هذه النقولات , وعلى هذا التسامح في طريقة عرض الارا , بـغثها وسمينها , اكثر من ان نقول بان للانسان ان يركن الى هذه الكتب في مجال تخصصاتها اللغوية , بـاعتبار انها اسفار علمية معتبرة , وخصوصا الكتب اللغوية المشهورة منها , ولا كلام لنا في ذلك , الا انـه من غير الصحيح ان ينساق المر مع كل مايطرح في هذه الكتب , على مستوى تقرير المعاني الاصـطـلاحـيـة للالفاظ , ويتلقاها من دون تثبت , وامعان نظر , وذلك لما ثبت عن طريق التتبع و الاسـتـقـرا , من عدم توفرالدقة الكافية في تحقيق هذه المعاني الاصطلاحية , والتي قد لا تضبط بـشـكـل كـامـل ودقيق حتى من قبل اصحاب الفن انفسهم , ومن جهة خروج هذا المطلب عن اصل التخصص الذي يدور حوله البحث في مثل هذه المصنفات .
4 ـ دائرة الـمـعـارف الاسلامية : (( وهناك تصنيف دقيق يفرق البدع على احكام الفقه الخمسة , والـبدع التي هي فرض كفاية على الجماعة الاسلامية : دراسة فقه اللغة العربية , توصلا الى فهم الـقرآن الخ , والاخذ بشهادة العدول او رفضها , وتمييز الحديث الصحيح من غيره , وترتيب احكام الـفـقه , والرد على الزنادقة , ومذاهب الزنادقة المخالفة للسنة حرام وانشا الرباطات والمدارس واشباهها من البدع المندوبة وتزيين المساجد, وتوشية المصاحف , من البدع المكروهة ومن امثلة البدع المباحة : الانفاق على المكل والمشارب وغيرها )) ((399)) .
5 ـ دائرة مـعارف القرن العشرين : (( البدعة : ما اخترع على غير مثال سابق ,وهي مؤنت بدع , وقـد اطـلـقت على الخصلة المحدثة في الدين , سوا اكانت حسنة ام سيئة , وقد كثر اطلاقها على المستحدثات السيئة في العقائد , والعوائد , والمعاملات )) ((400)) .
ومـن الانـعكاسات السلبية الاخرى للقول بتقسيم البدعة الى مذمومة وممدوحة ,هو ان بعض علما الـعامة اطلق لفظ ( البدعة ) على جملة من الاعمال الجائزة شرعا ,والمندرجة تحت الادلة العامة المقطوعة الصدور , وان لم تكن موجودة في العصر الاول للتشريع , كالاحتفال بيوم المولد النبوي مثلا , فهو عمل مشروع ومندوب من وجهة نظرالكثير من علما العامة , الا انا نجد ان هؤلا القائلين بمشروعية هذا العمل وجوازه , ابواالا ان يطلقوا عليه لفظ الابتداع وينعتوه بذلك , فقالوا بان عمل الـمولد بدعة , الا انهابدعة ممدوحة , وكان اللغة العربية , والتراكيب اللغوية المترامية فيها , قد ضاقت بسعتهاعن انجاب لفظ آخر ينطبق على الامور الحادثة المشروعة .
وكان ان سبب اطلاقهم للفظ البدعة في مثل هذه الموارد التباسا عند الاخرين ,فظنوا ان هذا العمل غـيـر مـشـروع باعتبار الارتكاز الحاصل في ذهنية المتشرعة عموماعلى رفض هذا المفهوم , وانـسـباق صورة مقيتة عنه بسبب الاحاديث الكثيرة الواردة في شجبه وذمه , ويزداد الامر تعقيدا والـتـبـاسـا عـنـدمـا تقتطع الالفاظ عن تتماتها ومكملاتها ,وتعرض بصورة ناقصة بترا , من باب الاختصار , او التسامح , او التمويه .
ولـعل هذا الاطلاق يهي مخرجا سهلا لاولئك الذين اصروا على تحاشي الاصطدام مع من يرمي مثل هذا العمل بالابتداع , ويخرجه عن دائرة التشريع , باعتبارالاشتراك الموجود بين اللفظين .
فـبـدلا من التصريح بجواز هذا العمل ومشروعيته , يقال بان هذا العمل بدعة ممدوحة , في الوقت الذي يطلق الاخرون القول عنه بانه بدعة ايضا وبصورة قاطعة , من دون شك او ترديد.
وهناك نماذج كثيرة لاستخدام لفظ ( البدعة ) في مثل هذه الموارد , على الرغم من القول بجوازها , ومشروعيتها , فمن تلك الموارد :
مـا قاله ابن حجر حول المولد النبوي : (( عمل المولد بدعة , لم تنقل عن احد من السلف الصالح من الـقرون الثلاثة , ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها , فمن تحرى في عملها المحاسن , وتجنب ضدها , كان بدعة حسنة , والا فلا )) ((401)) .
وقـال الـحلبي الشافعي حول نفس الموضوع ايضا : (( جرت عادة كثير من الناس اذا سمعوا بذكر وصـفـه (ص ) ان يـقـومـوا تـعـظيما له , وهذا القيام بدعة لا اصل لها , اي ولكن هي بدعة حسنة )) ((402)) .

بطلان القول بالتقسيم :

وبعد هذه الجولة السريعة في مجمل الارا التي تعرضت لتقسيم ( البدعة ) الى مذمومة و ممدوحة , ومـلاحـظـة الـخـلفيات التي دعت الى القول بهذا التقسيم , من خلال صراحة النصوص المتقدمة , واعـتمادها بشكل واضح على مقولة : (( نعمت البدعة هذه )) ,ومع هذا , فسوا اكان التقسيم مبنيا عـلـى هذا الاساس وصح هذا الامر , ام لم يكن مبنياعلى ذلك فسوف نذكر ادلتنا على بطلان القول بتقسيم البدعة الى مذمومة وممدوحة , اوالى الاحكام الخمسة التي ادعيت في بعض الكلمات .
ثم نتعرض بعد اتمام ذلك الى اقوال النافين للتقسيم من اعلام الفريقين .
وقـبـل ان نـسـتعرض ادلة نفي التقسيم , يجدر بنا ان نشير الى ان القول بتقسيم ( البدعة ) يستند اساسا على الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم .
فـانـا لـو كنا مع مفهوم ( البدعة ) بمعناها المجرد عن مراد الشريعة وقصدها , فانهاتعني : الامر الـمـحدث الذي ليس له سابق مثال , وهذا المعنى يتحمل ان يكون مذموما , وان يكون ممدوحا , لان هـنـاك امـورا كـثيرة تحدث وتبتدع بعد عصر التشريع , مما لم تنلهاالاحكام , والادلة الخاصة , فتتصف بالمدح تارة , وبالذم اخرى , بل يمكن ان تتصف بالعناوين الشرعية الخمسة ايضا.
ولـكن بعد ان تضيقت دائرة دلالة هذا المفهوم , واصبح شاملا لخصوص الامرالمحدث الذي يدخل في الدين من دون ان يكون له اصل شرعي فيه , فلا يمكن حينئذ ان نتصور له قسما ممدوحا بشكل مطلق .
واما ادلة نفي التقسيم فهي :
الـدلـيـل الاول : هـو ان الضرورة العقلية تقضي وتحكم بعدم امكانية طرووعروض التقسيم على مفهوم ( البدعة ) , فمن خلال التدقيق في المعنى الاصطلاحي الواردلتحديد مفهوم ( البدعة ) في النصوص الشرعية , نلاحظ ان هذا المفهوم غير قابل للتقسيم بحد ذاته اصلا , ولا يمكن ان يعتريه اي استثنا او استدراك اساسا , اذ ان معنى ( البدعة )في الاصطلاح الشرعي هو : (( ادخال ما ليس مـن الدين فيه )) كما تقدمت الاشارة اليه ,وهذا يعني ان ( البدعة ) تشريع وضعي ينصب نفسه في مقابل التشريع الالهي المقدس ,ويضاهي السنة الشريفة , ويتحدى تعاليم السما , فهل يعقل ان نتصور قـسما ممدوحا لمثل هذا اللون من الادخال ؟ وهل يمكن ان يتصف مثل هذا التشريع بالمدح والاطرا ؟ ان شـان الابـتداع في المصطلح الشرعي شان الكذب على اللّه ورسوله (ص ) , افهل يعقل ان يكون هـنـاك قـسـم مـمـدوح لـهـذا الـلون من الكذب ؟ وهل يقول احد بان هناك كذباوافتراا على اللّه ورسوله (ص ) يتصف بالمدح , او الاباحة , او حتى بالكراهة والعياذباللّه ؟ الـدلـيـل الـثـاني : ان اللغة التي تحدثت بها النصوص الشرعية حول مفهوم ( البدعة ) تابى التقسيم المذكور ايضا , فقد مر معنا ان هذه النصوص المستفيضة جعلت ( البدعة ) ندا مقابلا للسنة , وضدا لا يـلـتـقـي مـعها ابدا , وذمت المبتدع واكالت له انواع الذم , والتوبيخ والتقريع , واوعدت بعذاب الـمـبتدع باقسى انواع العقوبات الدنيوية ,والاخروية , ودعت الى مقاطعته , وهجرانه , واطلقت الـقـول بعدم قبول توبته فكيف يمكن مع كل هذا ان يكون هناك قسم ممدوح للابتداع ؟ وكيف يمكن لـهذا القسم ان يتخطى هذا الحجم الغفير من النصوص الصريحة , ويحيد عنها نحو اتجاه آخر , لا اثر له ولا دليل عليه ؟.
الـدلـيـل الثالث : ورد في الحديث المتفق عليه بين الفريقين ان النبي (ص ) قال : (( الا وكل بدعة ضلالة , الا وكل ضلالة في النار )) ((403)) , وورد بلفظ :
(( فان كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة تسير الى النار )) ((404)) .
فدلالة هذا الحديث على استيعاب جميع انواع البدع بالذم والضلال , لا تحتاج مناالى مزيد بيان , ولا تقبل الجدل والانكار.
الدليل الرابع : ان المورد الوحيد الذي تناولته النصوص الشرعية المتقدمة على اختلاف مضامينها , وتـنـوع مـدالـيلها , هو المورد المذموم , الذي يعد ( البدعة ) خصوص الامر الحادث الذي يقابل الـكـتـاب , والـسنة , والتشريع الالهي المقطوع , وبهذا فقدتعرض هذا المورد الى الذم والانتقاد الشديد , ولو كان هناك نحو من انحا الاستثنا في موارد معينة مفترضة , وحتى لو كانت تلك الموارد الـمـسـتثناة موارد جزئية ومحدودة , لماكان بوسع الشريعة المقدسة ان تتجاهلها , وتغض النظر عـنها بشكل من الاشكال , في الوقت الذي نترقب حصول مثل هذا الاستثنا من قبل الشريعة , فيما لو وجـد امـر مـن هـذاالـقـبيل , باعتبار ان لسان بيان التشريع يتحدث من موقع استيفا جميع شؤون الاحكام والتعاليم .
فـمـفهوم ( الكذب ) مثلا , وردت في شانه نصوص صريحة وقاطعة , تناولته بالذم الشديد , حتى اصـبح الايمان بقبحه من مسلمات الاعتقاد , وضروريات الدين , الا ان الشريعة لم تتجاهل في نفس الـوقـت بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم , ولا تسيرفي نفس الاتجاه الاصلي المذكور , وانـمـا نـرى ان هناك نصوصا شرعية مماثلة في الصراحة ,وقوة الدلالة على استثنا بعض انواع الـكذب من اصل التحريم , اذ قد يخرج من دائرة التحريم الى دائرة الوجوب , فيما لو توقف عليه حفظ نفس مؤمنة من القتل والهلاك مثلا.
ومـفـهـوم ( الـغيبة ) كذلك , يخضع لنفس التعامل الذي صدر من الشريعة بشان الكذب , فهو مذموم ممقوت في نظر الشريعة , ويعد من كبائر الذنوب , الا ان هناك مواردذكرتها النصوص الاسلامية تـحـت عـنـوان ( جـواز الاغتياب ) , يتم الانتقال بموجبها من الحكم الاولي بالتحريم , الى احكام اخرى كالجواز مثلا , فيما لو كان المغتاب متجاهرابالفسق , ومعلنا له .
وهكذا الامر في الكثير من المفاهيم الاسلامية المذمومة الاخرى , حيث يردالاستثنا صريحا فيها , فـتـتحول بواسطة هذا الاستثنا من الحكم الاولي المحرم , الى احكام ثانوية اخرى , كالاباحة , او الـنـدب , او الوجوب , او الكراهة , بحسب مقداردائرة وحدود ذلك الاستثنا , ونوع القيود التي وضعتها الشريعة له .
ومـا دمنا نتفق على انه لا يوجد اي لون من الوان الاستثنا الشرعي الصريح في خصوص الادلة التي تـناولت باجمعها ذم الابتداع وانتقاده الشديد , وما دام لا يمكن لاي احد ان يدعي ذلك , وحتى اولئك الـذيـن يـقولون بالتقسيم , اذ انهم لا يبنونه على النص الشرعي الصريح وانما على التنظير العقلي المحض , او على استفادات بعيدة المنال من بعض النصوص الشرعية فما دمنا نتفق على ذلك , فلابد ان نتفق ايضا على ان مفهوم ( البدعة )لا يمتلك الا قسما واحدا مذموما , والا لو وجد له قسم آخر , لاعـربـت عـنه الشريعة , ولماتجاهلته واهملته , كما هو الشان في جميع المفردات التشريعية الاخرى .
وربـمـا يـعترض على ما قررناه من بيان بان ( البدعة ) قد وردت مقيدة بـ(الضلالة ),وهذا يعني وجود قسم آخر لها لا يتصف بالضلالة , فقد ورد في الحديث :
(( ان الـنـبي (ص ) قال لبلال بن الحارث : اعلم بلال مـن الاجـر مـثـل مـن عمل بها , من غير ان ينقص من اجورهم شيئا , ومن ابتدع بدعة ضلالة , لا تـرضـي اللّه ورسـولـه , كـان عـلـيـه مثل آثام من عمل بها , لا ينقص ذلك من اوزار الناس شيئا )) ((405)) .
فقيد ( الضلالة ) كما يدعي هؤلا المقسمون في قوله (ص ) : (( ومن ابتدع بدعة ضلالة )) , يفيد في مفهومه ان هناك لونا من البدع لا يتصف بالضلالة , والا فما هي فائدة ذكر القيد في الحديث ؟.
والجواب على ذلك انا لو سلمنا صحة هذا الحديث , فان منطوق قوله (ص ) : (( كل بدعة ضلالة )) الدال على الاستيعاب والعموم بالاداة ( كل ) يعارض المفهوم المستفاد من (( بدعة ضلالة )) ويتقدم عليه , هذا اولا.
وثـانيا : ان مثل هذا المفهوم غير ثابت عند اهل التحقيق والنظر من علماالفريقين , ولو سلمنا ثبوته فـانه لا ينفعنا في المقام شيئا , لان الادلة الصريحة والمستفيضة قد دلت بصراحة وبالاطلاق على لـزوم الضلالة لـ ( البدعة ) من دون انفكاك , فيكون القيد في هذا الحديث , من قبيل القيد في قوله تعالى :
( يا ايها الذين آمنوا لا تاكلوا الربا اضعافا مضاعفة ) ((406)) .
كما قد يعترض على ما تقرر من ان ( البدعة ) في الاصطلاح الشرعي لم تستعمل الا مذمومة , ولم تـطـلـق الا عـلـى خصوص الحادث المذموم , بورود الاستثنا المستفاد من قوله (ص ) في الحديث الشريف :
(( عمل قليل في سنة , خير من عمل كثير في بدعة )) ((407)) .
فـيـدل الـحـديث كما يدعى على المفاضلة بين قليل السنة وكثير ( البدعة ) , وهذايعني ان لكثير البدعة نحوا من القبول والصحة , والا لما وقعت هذه المفاضلة المذكورة .
وفـي الحقيقة ان من له ادنى اطلاع على طبيعة الخطابات الشرعية , ومن يمتلك ولومقدارا يسيرا مـن الـتـعـامل والتماس مع النصوص الاسلامية , يدرك بان المقصود من الحديث هنا مجاراة الخصم ومسايرته , اي لو كان في البدعة خير , فقليل السنة خير من كثير البدعة , لا سيما اذا ضممنا الى ذلك تلك النصوص الشرعية المصرحة بذم البدعة ,وانتقادها بشكل مطلق , واذا ما التفتنا الى ان هذه الـصـيغة من الخطاب , اي الصيغة المذكورة في حديث : (( قليل في سنة , خير من كثير في بدعة )) جارية في جملة من النصوص الشرعية الاخرى , وفي المحاورات العرفية العامة .
الـدلـيـل الـخـامس : ثبت معنا ان كلمة ( البدعة ) في الاصطلاح الشرعي لم تستعمل الا مذمومة , والـروايـات الواردة عن النبي الاكرم (ص ) واهل بيته (ع ) تصل في كثرتها الى حد الاستفاضة في هـذا الـنحو من الاستعمال , وهذه الاحاديث اما ان نكون قداستعرضناها سابقا ضمن بحث ( مواجهة الابـتداع ) , واما سوف نتعرض لها تحت عنوان ( البدعة في النصوص الاسلامية ) , او بين طيات البحث , والمهم في الامر ان الاستقراوالتتبع لهذه الاحاديث , يوقفنا على النتيجة التي انتهينا اليها , وهي ان ( البدعة ) لم تستعمل في اصطلاح الشارع الا مذمومة .
ويـمـكـن ان يـضاف الى هذا المقدار من الاستعمال , قرائن ظنية قوية , مستفادة من تتبع واستقرا اسـتعمالات المتشرعة الذين رافقوا الزمن الاول للتشريع , ومن بعدهم بقليل , والوصول من خلال ذلك الى عين النتيجة السابقة , وهي ان المتشرعة لم يستعملواالبدعة الا مذمومة ايضا , فنحن نرى من خلال استعراض استعمالات هذه الطبقة التي كانت تتلقى المفاهيم الاسلامية من قرب , ان تطبيق هـذا الـمـفهوم لم يكن يتجاوز الحادث المذموم بشكل عام , واما قصة التقسيم فهي قضية حدثت في فترة متاخرة عن بدايات عصر التشريع , وكانت لها خلفياتها ودواعيها الخاصة , ومنطلقاتها التي قد نكون المحناللبعض منها فيما مضى من دراستنا هذه .
والان نـحـاول ان نستعرض بعض التطبيقات التي قد استعملت ( البدعة ) فيهامذمومة , مع اعتقادنا بان الاستعمال بحد ذاته لا يكشف ذاتيا عن حقيقة الوضع الشرعي لهذا المفهوم في معناه الحقيقي , الا انـنـا حـيـن نـضـم الـى ذلـك الاسـتـعـمال الواردة على لسان صاحب الشريعة (ص ) , واهل بيته الـطـاهـريـن (ع ) , والـتي لم تخرج عن هذا الاطار ,وباعتبار انهم (ع ) في مقام بيان كل تفاصيل التشريع , ومن جهة النظر الى الادلة المتقدمة التي قضت ببطلان التقسيم المزعوم فبالنظر لكل هذا وذاك , تشكل هذه الاستعمالات بمجموعها قرينة مؤثرة في الحسابات العلمية , وتؤيد بطلان القول بالتقسيم .
ونـود ان نـذكـر انــا لـسـنا بصدد تقويم هذه النصوص المعروضة , او بيان صحة اوعدم صحة مـواردهـا واسـتـعمالاتها , او مناقشة مؤدياتها , وانما نحن بصدد الاستشهاد بنحواستعمال لفظ ( البدعة ) الوارد فيها , ومن خلال النظر الى هذه الزاوية ليس غير.
وامـا الـكـلام فـي مـعنى الحادث المذموم , وفي حقيقة التطبيق وحدوده , فهذا ماسوف نعالجه في موضعه الخاص من هذه الدراسة باذن اللّه تعالى .
وسوف نذكر ما يتيسر مما ورد في استعمال لفظ ( البدعة ) مذمومة ضمن مرحليتن :
المرحلة الاولى : ما ورد من ذلك على السنة الصحابة وبالاخص بعد وفاة الرسول الكريم (ص ).
والمرحلة الثانية : ما ورد من ذلك على السنة من يلي اولئك بقليل .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

سيروا في الارض
تحرم البحث و المناظرة مع الشیعة
في القدم والحدوث وأقسامهما
قالوا حسبنا كتاب الله ولم يستشهدوا بكتاب الله
العدل
عقيدتنا في البعث والمعاد
كيف نفهم القدر؟!
البدعة الحسنة والسيئة
موقف ابن تيمية من حديث خلق الله آدم على صورته ق(6)
الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :

 
user comment