عربي
Tuesday 24th of December 2024
0
نفر 0

لا بدعة في ما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً

عرفت أنّ حقيقة البدعة هي الافتراء على الله والفرية عليه، بإدخال شيء في دينه أو نقصه منه، ونسبته إلى الله ورسوله. فإذا كان هذا هو الملاك فكلّ مورد يدلّ عليه الدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً. والدليل على قسمين:
لا بدعة في ما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً

عرفت أنّ حقيقة البدعة هي الافتراء على الله والفرية عليه، بإدخال شيء في دينه أو نقصه منه، ونسبته إلى الله ورسوله. فإذا كان هذا هو الملاك فكلّ مورد يدلّ عليه الدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً.
والدليل على قسمين:
الأوّل: أن يكون هناك نصّ في القرآن يشخص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئياته، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، والاجتماع في عرفة ومنى، فعندئذ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة، بل سنّة قد أمر بها الشارع بالخصوص، فيكون إتيان العمل امتثالا، لا ابتداعاً.
الثاني: أن يكون هناك دليل عام في المصدرين الرئيسين يشمل بعمومه المصداق الحادث، وإن كان الحادث يتّحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقة وماهية، ويختلف معه شكلا، ولكن الدليل العام يعمّ المصداقين ويشمل الموردين ويكون حجّة فيهما. وإليك بعض الأمثلة:
1 ـ قال سبحانه: {وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْآنَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) والآية تأمر باستماع القرآن عند قراءته والإنصات له، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد أو في البيت، ولكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقاً آخر لم يكن موجوداً في ظرف الرسالة، كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية، فالآية حجّة في كلا الموردين، وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني، بحجّة أنّه لم يكن في ظرف الرسالة. وذلك لأنّ العربي الصميم عندما يتدبّر في مفهوم الآية لا يرى فرقاً بين القراءتين، فلو قلنا حينئذ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولا بغير دليل، أو بدعة في الدين.
2 ـ قال النبيّ الأكرم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"(2) ومن الواضح أنّ العلوم حتى ما يمت إلى الشرع، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنّة، كعلم اللغة
والصرف والنحو والبلاغة، بل والفقه المدوَّن عبر العصور، وذلك لأنّ الحديث بصدد تأسيس قاعدة كليّة، فليس لمسلم أن يصف هذه العلوم بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الرسالة، لأنّ شأن الشارع الصادق إلقاء الأُصول وبيان القواعد والضوابط لا بيان المصاديق، وبالأخص ما لم يكن في عصره.
3 ـ لا شك أنّ من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنّة النبويّة من الضياع، لأنّ الإسلام ليس ديناً اقليميّاً بل ديناً عالمياً وليس ديناً مؤقتاً بل خاتماً، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنّته حتى ترجع إليها الأجيال اللاحقة.
وعندما لحق النبيّ إلى الرفيق الأعلى ورأى المسلمون أنّ من واجبهم حفظُ القرآن من الضياع خصوصاً بعدما لحقت بالمسلمين في الحروب; خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القرّاء، فصار الحكم الكلي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، وكلّها أُمور دينية مستمدّة من الحكم الكلي، أي لزوم حفظ القرآن والسنّة فعمدوا إلى كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كلمه وجمله، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء، وأخيراً طباعته ونشره، وتشجيع حفّاظه وقرّائه وتكريمهم في احتفالات خاصّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي تعتبر كلّها دعماً لحفظ القرآن وتثبيته، وإن لم يفعل بعضها رسول الله ولا أصحابه ولا التابعون، إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلة.
4 ـ إنّ من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفّار، وأخذ الحيطة والحذر في كلّ ما يحتمل خطره عليهم، يقول
سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} (3) ففي الآية نوعان من الدليل: خاصان في مورد رباط الخيل، فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي، كما إذا تسحلّت بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع فقد جسّدت الآية وطبّقتها على مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبي، وإنّما حدثت بعده. فهذه الموارد كلّها أُمور شرعية غير عادية، بشهادة أنّ الإنسان يقوم بها بنيّة امتثال ما ورد في الشرع، وليس للمتزمّت أن يرفضها بحجّة أنّه ليس هنا دليل خاص عليها، وذلك لأنّ اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عاماً أو خاصّاً، لا وجود دليل خاص، فالدليل العام بعمومه حجة في جميع الأجيال على جميع الناس في كلّ الموارد التي تجسّد الضابطة الكليّة.
5 ـ قال رسول الله: "إنّ أفضلكم مَن تعلّم القرآن وعلّمه"(4).
وغير خفيّ على القارئ النابه أنّ كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيرة عن عصرنا، فكلا العملين يعدّان تعليماً وتجسيداً لكلام الرسول يقصد به رضا الله سبحانه وتقرّبه، وليس للمتزمّت رفض الأساليب الحادثة لتعلّم الكتاب والسنّة.
والحقّ أنّ هذا الموقف موضع زلّة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة، بحجة عدم وجود دليل خاص
عليه، فقد ضلّوا ولم يميّزوا بين الدليل الخاص والدليل العام. وخصّوا الدليل بالأوّل، مع أنّ الكتاب والسنّة مليئان بالضوابط والقوانين العامة وإليك بعض الأمثلة:
أ ـ قال سبحانه: {لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (5) فالآية تنفي أي سبيل للكافر على المؤمن، ومن المعلوم أنّ السبل تختلف حسب تطور الحضارات، وكثرة المواصلات، و تشعّب العلاقات بين الناس. ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلّط الفرد الكافر على المسلم، ككون العبد المسلم رقّاً للكافر، أو تمليك المصحف منه وما قاربهما، وأمّا في عصرنا هذا; فحدّث عن السبيل ولا حرج، فأين هو من تدخل الكفّار في مصير المسلمين حكومة وشعباً حتى صار رؤساء الحكومات الإسلامية أسرى بيد الاستكبار العالمي.
ب ـ يقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (6) فإنّ التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدوداً في إطار ضيّق، وأكثر ما كان يتحقّق منه هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معيّنة على أن يتعاونوا فيما بينهم، وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم على ضرب حكومة إسلامية فتيّة خوفاً على كراسيهم ومناصبهم.
ولو أنّ المتزمّتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربّما خمدت ثورتهم ضدّ المسلمين، الذين يعملون الخير امتثالا لحكم الدين.
كان في التاريخ الإسلامي أُناساً يفهمون ـ بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم ـ أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أُسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربّه بأوصاف جميلة وإن لم ترد حرفياً في الكتاب والسنّة.
روى الطبراني: "انّ النبيّ عليه الصلاة والسلام مرّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: "يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا توارى سماء منه سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحرٌ ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، إجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك".
فوكّل رسول الله بالأعرابي رجلا، وقال: إذا صلّى فأتني به، وكان قد أُهْدِي بعض الذهب إلى رسول الله، فلمّا جاء الأعرابي، وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك؟
قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك.
قال الرسول الكريم: إنّ للرحم حقّاً، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله"(7).
وأين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال يقول: "من دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدع"(8).
المصادر :
1- الأعراف/204
2- الهيتمي، مجمع الزوائد 1: 19
3- الأنفال/60
4- البخاري، الصحيح 2: 158 ـ ولاحظ سنن الترمذي رقم 3071 وغيرهما
5- النساء/141
6- المائدة/2
7- محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: 102
8- إسماعيل البروسوي، روح البيان 9: 385


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تعزيز الوازع الديني
ثالثاً: الله خارج عن حدّ التشبيه والتعطيل
المهدي المنتظر في كلمات محي الدين بن عربي/ ق2
تنزيه يوسف عن محبة المعصية:
اثبات وجود الله
ما هو معني عبادة الله تعالي؟
دراسة متون الروايات
حكم الوقف عند السنة
البدعة باختصار
عدم التناسخ بين النفس والبدن

 
user comment