تنزيه يوسف عن محبة المعصية:
(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز أن يقول يوسف (عليه السلام): (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، ونحن نعلم أن سجنهم له معصية ومحنة، كما أن ما دعوه إليه معصية، ومحبة المعصية عند كم لا تكون إلا قبيحة.
(الجواب): قلنا: في تأويل هذه الآية جوابان:
أحدهما: إنه أراد بقوله (أحب إلي) أخف علي وأسهل، ولم يرد المحبة التي هي الإرادة على الحقيقة. وهذا يجري مجرى أن يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان (36) عليه، فيقول في الجواب كذا أحب إلي وإنما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة.
والوجه الآخر: إنه أراد أن توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن أحب إلي من مواقعة المعصية.
فإن قيل: هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد أضمرتم فيه.
قلنا: لا بد من مخالفة الظاهر، لأن السجن نفسه لا يجوز أن يكون مرادا ليوسف (عليه السلام)، وكيف يريده وإنما السجن البنيان المخصوص، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه، إذا قرأ: رب السجن (بفتح السين) وإن كانت هذه القراءة أيضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه، فكأنه أراد أن سجني نفسي عن المعصية أحب إلي من مواقعتها. فرجع معنى السجن إلى فعله دون أفعالهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، فليس للمخالف أن يضمر في الكلام أن كوني في السجن وجلوسي فيه أحب إلي، بأولى ممن أضمر ما ذكرنا، لأن كلا الأمرين يعود إلى السجن ويتعلق به.
فإن قيل: كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.
قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له أن يقول: هذا أحب إلي من هذا، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا، إذا كان في محبته، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، لأن المخير بين الشيئين في الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما. فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب أحدهما: هذا أحب إلي، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير، ويقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) (37) ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات. وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا. فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا، وقد قال قوم في قوله تعالى: (أذلك خير): أنه إنما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى: (خير مستقرا وأحسن مقيلا) (38) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله:
رب السجن أحب إلي، لأن الأمرين يعني: المعصية ودخول السجن مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا، وإن لم يكن مشتركا في تناول المحبة، فجعل اشتراكهما في دواعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها، وأجرى اللفظ على ذلك.
فإن قيل: كيف يقول وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين؟ وعندكم أن امتناع القبيح منه (عليه السلام) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع الكيد.
قلنا أنما أراد يوسف (عليه السلام) إنك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد، والكلام وإن تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال (عليه السلام) (وإلا تصرف عني كيدهن) فالمراد به إلا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن إنما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره، وما أجري به إليه، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا. ولمن فعل ما لا تأثير له: ما فعلت شيئا. وهذا بين والحمد الله تعالى.
تنزيه يوسف (عليه السلام) عن التعويل على غير الله:
(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل أن يعول في إخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك، في قوله للذي كان معه: (أذكرني عند ربك) حتى وردت الروايات إن سبب طول حبسه (عليه السلام) إنما كان لأنه عول على غير الله تعالى؟.
(الجواب): قلنا: إن سجنه (عليه السلام) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه أن يتوصل إلى إزالته بكل وجه وسبب، ويتشبث إليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه، ويجمع فيه بين الأسباب المختلفة، فلا يمتنع على هذا أن يضم إلى دعائه الله تعالى ورغبته إليه في خلاصه من السجن أن يقول لبعض من يظن أنه سيؤدي قوله: (أذكرني ونبه على خلاصي) وإنما القبيح أن يدع التوكل ويقتصر على غيره فإما أن يجمع بين التوكل والأخذ بالحزم فهو الصواب الذي يقتضيه الدين والعقل. ويمكن أيضا أن يكون الله تعالى أوحى إليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله.
تنزيه يوسف عن إلحاق الأذى بأبيه:
(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في طلب يوسف (عليه السلام) أخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن، وهل هذا إلا إضرارا به وبأبيه؟.
(الجواب): قلنا: الوجه في ذلك ظاهر لأن يوسف (عليه السلام) لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله إليه، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره، وتعريض للعالي من منزلة الثواب، ونظير لك امتحانه له (عليه السلام) بأن صرف عنه خبر يوسف (عليه السلام) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه، وإنما أمرهم يوسف (عليه السلام) بأن يلطفوا بأبيهم في إرساله من غير أن يكذبوه ويخدعوه.
فإن قيل: أليس قد قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون، والمراودة هي الخداع والمكر,قلنا: ليس المراودة ما ظننتم، بل هي التلطف والتسبب والاحتيال، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا، فإنما أمرهم بفعله على أحسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا عليهم.
تنزيه يوسف عن الكذب وتهمة إخوته:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى جعل السقاية في رحل أخيه وذلك تعريض منه لأخيه بالتهمة، ثم إن أذن مؤذنه ونادى بأنهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة؟.
(الجواب): قلنا: أما جعله السقاية في رحل أخيه، فالغرض فيه التسبب إلى احتباس أخيه عنده، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى، وقد روي أنه (عليه السلام) أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به، فقد خرج على هذا القول من أن يكون مدخلا على أخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة، لأن وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة، وليس يجب صرفه إليها إلا بدليل.
وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه، ولا ظاهر أيضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة، لأن الاشتراك في ذلك قائم، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه التي يحتملها على حد واحد. فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره (عليه السلام)، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك أحد القوم لما فقدوا الصواع، وسبق إلى قلوبهم أنهم سرقوه، وقد قيل إن المراد بأنهم سارقون أنهم سرقوا يوسف (عليه السلام) من أبيه وأوهموه أنهم يحفظونه فضيعوه، فالمنادي صادق على هذا الوجه، ولا يمتنع أن يكون النداء بإذنه (عليه السلام). غير أن ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضي أن يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الذي تقدم ذكره وأحسوا فقده، وقد قيل إن الكلام خارج مخرج الاستفهام، وإن كان ظاهره الخبر كأنه قال: (إنكم لسارقون) فاسقط ألف الاستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدم ذكرها في قصة إبراهيم (عليه السلام). وهذا الوجه فيه بعض الضعف لأن ألف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام، مثل قول الشاعر:
غلس الظلام من الرباب خيالا كذبتك عينك أم رأيت بواسط
تنزيه يوسف (عليه السلام) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه:
(مسألة): فإن قيل: فما بال يوسف (عليه السلام) لم يعلم أباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه؟.
(الجواب): قلنا في ذلك وجهان:
أحدهما: إن ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى أن يصعب التكليف وأن يسهله.
والوجه الآخر: إنه جائز أن يكون (عليه السلام) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه.
تنزيه يوسف (عليه السلام) عن الرضا بالسجود له:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) (39) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله تعالى؟.(الجواب): قلنا في ذلك وجوه:
منها: أن يكون تعالى لم يرد بقوله إنهم سجدوا له إلى جهته، بل سجدوا لله تعالى من أجله، لأنه تعالى جمع بينهم وبينه، كما يقول القائل:
إنما صليت لوصولي إلى أهلي، وصمت لشفائي من مرضي. وإنما يريد من أجل ذلك.
فإن قيل: هذا التأويل يفسده قوله تعالى: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) (40)
قلنا: ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة، لأنه (عليه السلام) لما رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى الدرجات ونيله أمانيه وأغراضه، فلما اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال ما كان يتمناه من اجتماع الشمل، كان ذلك مصدقا لرؤياه المتقدمة. فلذلك قال: (هذا تأويل رؤياي من قبل). فلا بد لمن ذهب إلى أنهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة، لأنه ما كان رأى في منامه أن إخوته وأبويه سجدوا له، ولا رأى في يقظته الكواكب تسجد له. فقد صح أن التطابق في المعنى دون الصورة.
ومنها: أن يكون السجود لله تعالى، غير أنه كان إلى جهة يوسف (عليه السلام) ونحوه، كما يقال: صلى فلان إلى القبلة وللقبلة. وهذا لا يخرج يوسف (عليه السلام) من التعظيم، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها.
ومنها: أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الأفعال ما يكون عبادة، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام، ولا يكون ذلك منكرا لأنه لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح.
تنزيه يوسف (عليه السلام) عن طاعة الشيطان:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام) من بعد أن نزغ الشيطان (41) بيني وبين أخوتي، وهذا يقتضي أن يكون قد أطاع الشيطان ونفذ فيه كيده ونزغه؟.
(الجواب): قلنا هذه الإضافة لا يقتضي ما تضمنه السؤال، بل النزغ والقبيح كان منهم إليه لا منه إليهم. ويجري قول القائل: جرى بيني وبين فلان شر، وإن كان من أحدهما ولم يشتركا فيه.
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام للعزيز (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) (42) وكيف يجوز أن يطلب الولاية من قبل الظالمين.
(الجواب): قلنا إنما التمس تمكينه من خزائن الأرض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها إلى مستحقها، وكان ذلك له من غير ولاية. وإنما سئل الولاية للتمكن من الحق الذي له أن يفعله. ولمن لا يتمكن من إقامة الحق أو الأمر بالمعروف أن يتسبب إليه ويتصل إلى فعله، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه السلام ولا حرج.
المرحلة الثانية:عصمة الاَنبياء عن المعصية
لقد وقفت على دلائل عصمة الاَنبياء في تلقى الوحى وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. ونبحث في ذلك عن وجهتين: العقلية والقرآنية: