عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

خامساً: الجهاز العقلي وطريق الاستدلال

العقل هو الجهاز الكاشف للحقائق وهذه الحقائق قد يستلمها بإيعازات الحواس أو يستلمها من الآثار المتعددة سواء كانت خارجية أو داخلية فيسلط عليها أشعته الكاشفة ليتبين بالتالي حقيقة الأمر فبالعقل نميّز الطريق المستقيم عن الطريق الملتوي وبالعقل نكتشف خطأ الأفكار وصحتها ومن العقل نستلم بطاقة الدعوة لفعل الخير والجمال وإطاعة الخالق المدبر ومن العقل نتلقى إشارات حمراء بعدم ممارسة الأعمال الشريرة المخالفة للفطرة الإنسانية.

قال تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). [سورة النحل: الآية 12].

فالعقل هو الأداة الكاشفة والمميزة والدالة على الله سبحانه وتعالى حيث القدرة الكاملة والملك التام المطلق.

وهنا يبرز سؤال مفاده: من دلّ العقل على الله ومن منحه هذه القابلية ليبحث عن الأسباب والعلل الماورائية؟ وفعلاً لا يستقر للعقل قرار حينما يبقى في إطار الشك والاحتمال فيسعى بكل قوته للتوصل إلى السبب الأول حيث تتوفر القناعة التي بدورها تجعل العقل مستقراً ومطئمناً ويمكن أن نقول إن هذه المسألة من المسائل الجديرة بالبحث والمناقشة وقد ازدادت الإجابات عنها حيث تتعدد الجهة التي تلهم العقل هذه القابلية على البحث والتمييز عن الخالق الأعظم بل السعي لمعرفة علة العلل وسبب الأسباب فمنهم من قال: إن القوة الملهمة قوة ذاتية كالآلة الميكانيكية تضعها على قانون معين فتستمر عليه دون توقف تبعاً لقانون الاستمرارية كدحرجة الكرة ومنهم من قال: إن القضية تكسبيه حيث تم اكتساب هذه القابلية من البيئة والمجتمع ونحن نسدل الستار على كل هذه النظريات التي هي بحاجة إلى كلام طويل لعرضها وتوجيهها فلنبرز الرأي الإسلامي الصحيح من منابعه الأصيلة، يقول مولانا أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في دعاء الصباح:

(يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار بمقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه يا من دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته..) تأمل في قوله (عليه السلام) يا من دلّ على ذاته بذاته فالله سبحانه هو الذي ألقى في روعنا وعقولنا هذه الغاية المقدسة وهذا الطموح الفطري كي يسعى الإنسان للتوصل إلى معرفته سبحانه بنور العقل.

والإمام السجاد (عليه السلام) في هذا الصدد يقول في دعائه: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك. ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت..).

والآن دعنا نتصور هل أن العقل باستطاعته أن يدرك كل الأشياء والوجودات بكنهها وماهيتها ودقة جزئياتها وأوصافها حتى نعمّم هذه الاستطاعة لتشمل بحثنا عن معرفة الله عز وجل وبكلمة أخرى هل استطاع العقل أو هل يستطيع أن يدرك ماهية الله وكنهه بالشكل المحسوس أو الملموس؟

وفي الإجابة على هذا الاستفهام نجزم بأن العقل الإنساني لابد أن يكون قاصراً وقابلياته محدودة وهذا الجهاز المخلوق والمحدود قطعاً لا يستطيع أن يحيط علماً وإدراكاً باللامحدود وهو الخالق العظيم بل أكثر من هذا إن العقل الإنساني قد لا يحيط علماً حتى ببعض الماديات والملموسات من الأشياء المتعارفة التي يقرّ بوجودها العلم فلا تظهر للإنسان إلاَّ أن يكون متخصصاً بالعلم المعين فيمكنه أن يحيط بالشيء أو بجزئه إحاطة شاملة نوعاً ما مثلاً الأطباء فإنهم لم يحيطوا بكل أمراض جسم الإنسان وليس باستطاعتهم أن يشخّصوا المرض ويصفوا الدواء لكل الأمراض المستعصية وهكذا يقف العلم الحديث والطب الحديث عاجزاً عن شفاء بعض الأمراض المستعصية والتي لازالت لغزاً يصعب حلّ رموزه فمن هنا نفهم أن العقل الإنساني رغم إنجازاته العملاقة في الحياة لكنه يعجز عن أمور قد تكون تافهة في نظر الإنسان العادي، صحيح أن العقل الإنساني توصل إلى صنع سفينة الفضاء وصنعَ العقل الإلكتروني ولكنه يعجز عن قتل الجرثومة التي تسبب الزكام مثلاً ولكنه يعجز عن معالجة مرض السرطان فضلاً عن عجزه المطلق إذا طلبوا منه إحياء ذبابة أو إعادة الروح إلى نملة ولتستخدم أضخم المختبرات الطبية لهذه العمليات.

يقول سبحانه في محكم كتابه الكريم: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقّ من ربهم وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين). [سورة البقرة: الآية 26].

وبالفعل: (وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً). [سورة الإسراء: الآية 85].

أحد العلماء الكبار صاحب نظريات علمية رائعة ترك وصية قبيل وفاته بعد أن سأله أحد عن إنجازاته العلمية قال: إني اكتشفت أننا لا نعلم شيئاً ومثلنا مثل ذلك الطفل الجالس على شاطئ البحر يتلاعب بالصدف والحصى الملقى على الساحل بواسطة الأمواج البحرية ونتصور بذلك أننا نعلم بكل شيء والحال أن أسرار البحر العظيمة وما يجري في الأعماق كلها مخفية عنا فبمجرد معرفة شيء بسيطٍ جداً عن البحر كالصَّدَف نتصور أننا عرفنا كل شيء!

يقول الأستاذ بويس هامان أستاذ علم البيئة: عندما أرى قطرة من الماء تحت الميكروسكوب وحينما أشاهد أبعد النجوم بالتلسكوب تأخذني الحيرة الشديدة.

ويقول ويليام جيمس الفيلسوف الأمريكي (ت 1910):

(إن نسبة علمنا إلى جهلنا كنسبة قطرةٍ إلى محيط).

فإذن نحن لا نستطيع أن نحمّل عقولنا أكبر من قابليتها وإنما المفروض أن نوظفها في مجال اختصاصها كي تسير مسيرة طبيعية ولا تشذ عن طريقها بشكلٍ مريب وقلق.. فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب الإحاطة بصفته).

وجاء في الرواية: (لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته) فبما أن العقول قاصرة عن إدراك الإحاطة التامة بصفة الله سبحانه بالشكل الملموس فعليه أن الله سبحانه لم يوجب علينا هذه المعرفة باعتبار أنها خارجة عن قابلياتنا وقدراتنا فقابلياتنا محدودة وقاصرة ولهذا السبب نرى كثيراً من الأحاديث والروايات الناهية عن التفكير في ذات الله وكنهه فقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرّون قدره).

وقال أيضاً: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا)، (تفكروا في كل شيءٍ ولا تفكروا في ذات الله)(1).

وقال الإمام علي (عليه السلام): (.. والله هو المستور عن درك الأبصار المحجوب عن الأوهام والخطرات)(2).

وفي مرة كان الإمام الصادق (عليه السلام) يمرّ في المسجد فسمع أناساً يتكلمون في ذات الله فالتفت إليهم ونهاهم عن ذلك بقوله: (يا قوم لا تتكلموا في ذات الله فإن قوماً تكلموا في ذات الله فتاهوا)(3).

فإذن مسألة معرفة ذات الله وكنهه وماهيته مسألة مرفوعة عن العقل الإنساني لأنها خارجة عن قدرته وطاقته والمفروض أن نؤمن بالله سبحانه قوة خالقة مهيمنة بصورة متناسبة مع قدرة عقولنا ولا ندخل في التفصيلات التي لا تزيدنا إلا حيرةً وابتعاداً عن أصل المطلب والمسألة طبيعية جداً حيث أننا نؤمن بكثير من الأمور من حولنا في الحياة دون الدخول بالقضية التفصيلية وإنما نصل إلى التصديق العملي عبر المعرفة الإجمالية التي تجرنا إلى الإيمان والتصديق في النتيجة فمثلاً روح الإنسان هل من عاقل ينكرها؟ وبالمقابل هل من عاقل يدرك ذاتها وماهيتها؟ لا يدّعي ذلك أحد.

وإنما بصورة إجمالية نعرف تلك الروح ونعتقد بأثرها الواضح.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(الحمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبه خالق الخلائق بقدرته واستعبد الأرباب بعزته وساد العظماء بجوده وهو الذي أسكن الدنيا خلقه وبعث إلى الجن والإنس رسله ليكشفوا لهم عن غطائها)(4).

فمن هنا يبرز دور الأنبياء والرسل (عليهم السلام) جاؤوا ليبينوا للناس حقيقة الأمر ويأخذوا بأيديهم إلى الاستقامة والمعرفة الحقة عن طريق الآثار التي تدل عليه سبحانه وتعالى وتجدر الإشارة إلى أن هذا القصور الموجود في حواسنا المختلفة كالعين والسمع وكذلك القصور الموجود في عقولنا ليس كل هذا من باب النقص والعيب وإنما من باب التقدير الإلهي الحكيم الذي بواسطته تتحقق الحكمة الإلهية البالغة في أن تكون لكل أمر حدود معينة لا يمكن تجاوزها فالعين لها حدود كما للعقل حدود ليستقيم نظام الحياة فقد قال عز من قائل في محكم كتابه:

(ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً). [سورة الفرقان: الآية 2].

ولكن من خلال هذه الحدود المرسومة يستطيع الإنسان أن يتوصل إلى أبواب الحقيقة والمعرفة الحقة فيدخلها بأمان ونحن حينما نؤمن بأننا في دار امتحان واختبار في هذه الدنيا يمكن أن تكون هذه الحدود من جملة هذه الامتحانات المفروضة على الإنسان.

فإذن ذات الله وكنه وجوده وماهيته لا يمكن أن نتوصل إلى معرفتها تفصيلياً كما لا نتمكن من معرفة القوة الكهربائية والمغناطيسية والروح الحيوانية كذلك - ومن الطبيعي أن الأمثال تضرب لتقريب الفكرة ليس إلاَّ لأنها لا تقاس -.

فقد قال سبحانه: (ليس كمثله شيء). [سورة الشورى: الآية 11].

 

1 - ميزان الحكمة، ري شهري: ج 6 ص 165.

2 - ميزان الحكمة، ري شهري: ج 1 ص 132.

3 - الرواية مسموعة من محاضرة إسلامية عامة.

4 - تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون ص 39 باب وحدانية الله سبحانه.

 

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟
مفهوم البداء في عالم الخلق والتكوين
هل المعاد إعادة للمعدوم؟
الإمامة والخلافة بإختصار
كتاب الغيبة
عُبادة بن الصامت
موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال ...
مرجعية المسلمين بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم
مقدمة عامة في نبوة النبي محمد
الوضع النفسي لدي المراهق

 
user comment