والكلام في هذا البحث يتضمن:
2 - الصفات السلبية.
3 - صفات أفعاله.
وكما مرّ معنا إنه يستحيل على العقل الرشيد أن يدرك كنه الله سبحانه وماهيته لأن المحدود يستحيل عليه إحاطة اللامحدود والإنسان الحادث يستحيل عليه أن يحيط الله الأزلي الأبدي وقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله). وبالفعل إننا لا نستطيع أن نحيط إحاطةً كليةً حتى بالمحسوسات المادية فترانا نعجز عن إدراكها بشكلٍ معين فكيف نستطيع أن نحيط اللامحدود واللامحسوس.. وهكذا حينما تقصُرُ عقولنا المحدودة عن إدراك كنه وماهية الله سبحانه فهي - أيضاً - تقصر عن إدراك ماهية صفاته وواقعها. إنما كيف نَعْرفُه سبحانه ونعْرفُ صفاته فذلك من خلال آثاره فيتبين من آثاره إنه الخالق المبدع القادر العالم المدرك الحي الباقي الصادق العادل.. ويقسم المفكرون الإسلاميون صفات الله إلى الأقسام الثلاثة أعلاه.
فالصفات الذاتية الثبوتية هي عين ذاته فهو قادر بالذات وعالم بالذات وحيّ بالذات أي إنه ذاته وصفته شيء واحد لأنه لو قلنا بأن صفاته ليست عين ذاته لوقعنا في خطأٍ لا يغتفر والنتيجة تكون إما أنها طارئة على ذاته المقدسة زيدت عليه فإذن صارت ذاته مركبة وهذا خلاف ما اتفقنا عليه بأنه سبحانه أزلي بسيط حيث أن المركب حادث والحادث مخلوق وإلى آخر ما مر سلفاً.
وإما أن تكون صفاته قديمة بقدمه سبحانه فإذن سيكون هذا القديم (الصفات) شريكاً للقديم الأول (عين الذات) وهذا مما يخالف أصل الفرض والاتفاق الماضيين، ولا بأس أن نوضح الفكرتين قليلاً ممّا يلائم هذه الرسالة العقائدية فلو سلّمنا جدلاً إلى أن صفاته طارئة على الذات فستكون حادثة حيث طرأت على الذات فلذا يستلزم وجود المحدث فإن كان الله هو المحدث لزم أن تكون صفاته مكتسبة فيما بعد أي أنه لم يكن عالماً فصار عالماً بعد أن أحدث العلم أليس كذلك؟ وإن كان المحدث غير الله فإما هو مساوٍ له فيكون شريكاً لله وإما أن يكون أقوى منه فهو الله الحقيقي والمبدع الحقيقي لا هذا الإله الوهمي الضعيف الذي يتبين ضعفه وكنا مخدوعين به حيث وضعناه في موضع الخالق المبدع القدير.
وأما لو تماشينا مع الفرض الثاني في أن صفاته قديمة بقدم ذاته المقدسة فسنصل إلى نتيجة مشابهة لما سبق حيث ننتهي إلى الإيمان بتعدد القدماء بتعدد الأزليين أي بتعدد الآلهة وبمعنى آخر سنكتشف شركاء لله سبحانه وهاهنا يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته الرائعة: (أوّلُ الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة إنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف إنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه (أي جعل له قريناً شريكاً) ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال فيم فقد ضمّنه ومن قال علام فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم...)(1).
فإذن في مسألة صفات الذات نخرج بإيمان تام بأنها عين ذاته المقدسة فهو عالم من حيث إنه حيّ وهو حيّ من حيث إنه عالم.. وهو قدير من حيث إنه حكيم وهو حكيم من حيث إنه قدير وهكذا بقية صفاته.
أما لو أدركنا أن مفهوم علمه يغاير مفهوم حياته مثلاً فهذا الحي يصير مخلوقاً آخر وليس عين ذاته وبالنتيجة ستكون ذاته مركبة من عدة صفات وذلك لأن مفهوم العلم محدود ومؤطر ومستقل عن مفهوم القدرة والحياة وهكذا فسنقف على عدة محاور تشكل دوائر مستقلة بعضها عن بعض كل محور بمثابة الصفة المستقلة عن أختها. بينما كل هذه الصفات مجتمعة تجسد صفات الله الثبوتية والله سبحانه منزّه عن الحدود والأطر كما أسلفنا في صفات الأزلي.
إذن فالعلم ذاته ولا معلوم والقدرة ذاته ولا مقدور فلا يكون العلم والقدرة ذاتاً لله تعالى مع تمايز مفهوميهما بحدود معينة والمفروض أن يكون ذلك العلم وتلك القدرة كلاهما حقيقة واحدة لا غير وهكذا بقية الصفات الثبوتية وإنها تعبير عن حقيقة واحدة. وهكذا نقرأ فيما ورد بالسنة الشريفة (وأسماؤه تعبير) فالذات المقدسة حقيقة واحدة نسميها بأسماء مختلفة فأسماؤه تعبير فلا تمايز ولا اختلاف ولا حدود بينها وإنما تعابير.. فهو القادر والعالم والحي والقيوم والمختار ولا ندّ له ولا حدّ له أي بمعنى لا أول له ولا آخر له بما يدل على أنه قبل كل شيء كان ومع كل شيء يكون مع كل شيءٍ كائن وهنا يكمن السر في رفع الفارق بين الاسم والصفة فقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الاسم قال: (صفة لموصوف). إذن لا فرق بين الأسماء والصفات لأن الاسم نفس الصفة بالنسبة للذات المقدسة والاسم عندنا غير المسمى ونعرف ذلك بالوجدان فالاسم شيء والمسمى شيء آخر أما في حديثنا عن الله عز وجل وصفاته وأسمائه لا نميّز بين هذه الأمور كلها إطلاقاً فالأسماء والصفات تعبيران عن الذات المقدسة لا غير لأنه في الاحتمال الآخر (أياً كانت سعتهُ أو ضيقه) فستكون المفاهيم مخلوقة طارئة عليه أو شريكة معه تعالى الله عن ذلك وعلى هذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من عبد الاسم فقد كفر ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك فمن عبد المعنى بإيقاع الأسماء التي وصف الله سبحانه وتعالى نفسه فهو شيعة آل البيت (عليهم السلام) وجاء في (الأنوار النعمانية) عن الصادق (عليه السلام): (كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ولعلّ النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فإن ذلك كما لها وتتوهم أن عدمها نقصان لمن لا يتصف بهما وهكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به)(2).
وقبل أن نعود إلى حديث الصفات التي يقسمها المفكرون الإسلاميون وعلماء الكلام كما ذكرنا ذلك في أول الحديث عن الصفات لابد من تسجيل الملاحظة التالية:
في الحقيقة إن هذه التقسيمات ما هي إلاَّ تقسيمات استيضاحية أراد المفكرون أن يوضحوا كمال الله عز وجل بطريقة مستساغة وملائمة للعقل الإنساني وبما أن اللغة هي الأخرى قاصرة عن التصوير المتكامل لصفاته تعالى فلابد أن نضع فوارق ذهنية بين هذه الصفات التي نطلقها على الذات المقدسة والتي قد تطلق على الإنسان نفسه فنقول محمد عالم ونفس كلمة عالم نطلقها على الله العظيم فنقول الله عالم ولكن هل نقصد نفس المعنى من اللفظ المشترك؟ بالتأكيد لا، فهي صفة واحدة ظاهراً ولكنها مختلفة واقعاً من حيث الحجم والاستيعاب ولكن اللوم يقع على اللغة التي تعجز أحياناً عن بيان هذه الدقة.
ومن هنا نكرر ما قلناه سابقاً (إن الذي خلقنا ليس مثلنا) ففي الواقع إن الأنبياء والأوصياء ورسالات السماء ما استطاعت أن تبين أكثر من هذا فقد جاء في القرآن الكريم:
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). [سورة الشورى: الآية 11].
إذن فإذا أردنا أن نعرِفه كمال المعرفة يجب أن نعرف أنفسنا تمام المعرفة وإذا عرفنا أنفسنا وصفاتنا وقابلياتنا سنعرف ذات الله وصفاته لأن ذات الله هي غير ذواتنا وصفاته غير صفاتنا حتى لو كانت الألفاظ مشتركة في اللغة. وبيان الفروق بين المعنَيْين شيء نعتقده ونؤمن به، فعلى هذا لو عرفنا أنفسنا تماماً فكل ما كان فينا ليس في الله لأنه ليس مثلنا وقد جاء في الأثر الشريف عن الإمام علي (عليه السلام): (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(3).
وهكذا فنحن محدودون بزمان ومكان وبقابليات محدودة بينما الله سبحانه ليس له حد وهذا التعبير أدق وابلغ من قولنا (لا نهاية لله) لأن اللانهاية مفهوم يختلف عن مفهوم ليس له حد فاللانهاية لأمرٍ يمكن أن يكون له بداية كالعدد له بداية وليس له نهاية بينما اللاّحد ليس له بداية ولا نهاية.
ونحن لنا بداية أولى بينما سبحانه ليس له بداية ولنا آخِر وليس له آخِر ولنا ظاهر فليس له ظاهر ولنا باطن فليس له باطن...
وحينما نصفه سبحانه بالأول نعني قبل كل شيء لا بمعنى البداية وهو الظاهر يعني فوق كل شيء وقد قال الإمام علي (عليه السلام) - كما مر في الصفحات السابقة - : (ظاهر في غيب وغائب في ظهور... قَرُبَ فنأى وعلا فَدَنا وظهر فبطن وبطن فعلن...) فاللغة لابدّ أن تخضع بشكل من الأشكال لما يدور في أذهاننا من المعاني المجردة والدقيقة فلا نقول أن الله واحد ونقصد بذلك الواحد الذي يليه رقم الاثنين ورقم الثلاثة وإنما نقصد إنه أحد فرد صمد فالله سبحانه لا يعد فهو ليس واحداً بذلك المعنى بل إنه واحد لا نظير له ولا ضد له ولا ندّ له ولا مثيل له ولا شبيه له والآن لماذا كل هذا التوضيح الذي لابد منه؟ ولما كانت المسألة لغَوية فأين وجه المسألة من المعرفة الحقيقية. والجواب لأننا عادة نقيس الأمور على أنفسنا - هذه حدود معرفتنا - فنحن لنا ضد وند ومثيل وأول وآخر وحدود معينة أخرى ونقول: واحد واثنين وثلاثة.
وحينما نريد أن نعرف الله ونصفه بصفاتٍ ألفاظها مجردة لا توصلنا إلى عمق المعرفة وغاية التوحيد إلا بالتوضيح والفهم وهنا تطل علينا سورة التوحيد لتجسد المعتقد الحق فقد قال سبحانه: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) فهذه غاية التوحيد، وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا التي تعوّدناها أو عرفنا مضمونها لذا يقول الإمام علي (عليه السلام) - كما ذكرنا آنفاً -: (وتمام توحيده نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثناه فقد جزّأه ومن جزأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايله، فاعل لا بمعنى الحركات والآله، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه..)(4).
وهنا نتساءل بحريّة تامة ونقول إن الإمام علي (عليه السلام) يحصر غاية التوحيد في نفي الصفات عنه ونحن نقرأ في القرآن الكريم وهو كلام الله سبحانه عن صفات الله فهو سميع وبصير وعليم وحي وقيوم.. وفي الأحاديث الشريفة وروايات الأئمة (عليهم السلام) نقرأ هذه الصفات الكريمة المنسوبة إلى الله عز وجل فكيف نفسر ذلك؟ يمكن رفع هذا الإشكال من الأساس حينما نعود إلى الصفات التي قسمها علماء الكلام لندرسها بإمعان فيرتفع هذا الإشكال.