
لقطات ونماذج من الحبّ والعشق الإلهي
يجفّ القلم ويكلّ اللسان لو أراد أن يرسم للقرّاء الكرام شخصيات المحبّين في الله ولله سبحانه ، والمتفانون في هواه وعشقه ، وأكمل خلق الله في حبّه وأتمّهم هو الرسول المختار وعترته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فحياتهم المقدّسة وأرواحهم الزكيّة النورانيّة كلّها في محبّة الله وولهه ، فهم سادة المحبّين وعشّاق الله جلّ جلاله.
ومن اُولئك الأطياب الأخيار الأبرار سيّد الشهداء مولانا الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فثورته الخالدة ـ فصل من حياته ـ آيات في الحبّ الإلهي الحقيقي وبراهين ساطعة في عشق الله سبحانه وتعالى.
يخبرنا عن ذلك ما ورد عن مولانا أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) ، عن أبيه الإمام السجّاد علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال : مرّ عليّ (عليه السلام) بكربلاء فقال لمّـا مرّ به الصحابة وقد اغرورقت عيناه يبكي ويقول : هذا مناخ ركابهم ... إلى أن قال (عليه السلام) : حتّى طاف بمكان يقال له المقدّمات فقال : قُتل فيها مائتا نبيّ ومائتا سبط كلّهم شهداء ومناخ ركاب ومصارع عشّاق ، شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم[1].
فكربلاء المقدّسة رمز الثورة الخالدة ، رمز البطولة والتضحية والشهادة ،
ومناخ ركاب العاشقين ، ومصارع عشّاق الله ومحبّيه والمتفانين في صفاته وأسمائه الحسنى ، والمستشهدين من أجل دينه القويم الإسلام العظيم.
وستبقى كربلاء العشق مناراً لعشّاق أهل البيت (عليهم السلام) وشعلة وهّاجة في دروب الأحرار والمجاهدين الثوّار ، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم . وستبقى كربلاء المعلّى قرآن المحبّين ، ويبقى عاشوراء الحسين باب الهدى وطريق سفينة النجاة ، وتبقى ملحمة الطفّ نبراس الحبّ الإلهي الذي يتجلّى في حبّ رسول الله وأهل بيته عترته الطاهرين وسبطه سيّد الشهداء الإمام الحسين ابن علي (عليه السلام).
عابس الشاكري آية من آيات الحبّ :
ومن اللقطات الجميلة التي تُعدّ آية من آيات الحبّ الحسيني قتال الشهيد البطل عابس بن شبيب الشاكري ( رضوان الله تعالى عليه ) ، حتّى أصبحت مقولته المشهورة « حبّ الحسين أجنّني » رمزاً لعشّاق أهل البيت (عليهم السلام) ومن يتفانى في حبّ الحسين (عليه السلام) ويبذل النفس والنفيس في هواه وعشقه.
يذكر أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد المكّي أخطب خوارزم المتوفّى سنة 568 هـ[2] :
« وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر ، فقال : يا شوذب ، ما في نفسك أن تصنع ؟ قال : وما أصنع ! اُقاتل حتّى اُقتل . فقال له : ذلك الظنّ بك ، فتقدّم بين يدي أبي عبد الله ، أحتسبك ويحتسبك كما احتسب غيرك ، فإنّ هذا اليوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما قدرنا عليه ، فإنّه لا عمل بعد اليوم ، وإنّما هو الحساب.
ثمّ تقدّم فسلّم على الحسين ، وقال له : يا أبا عبد الله ، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليَّ منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلت ـ اُنظر أ يّها القارئ الكريم ما أروع منطق العشّاق ، فإنّ العاشق يكون موحّداً لا يرى إلاّ معشوقه ، وبمثل هذه الروح الخالصة والقلب الواله والفؤاد العاشق يخاطب عابس سيّده وحبيب قلبه قائلا : ( أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزّ عليّ ولا أحبّ إليِّ منك ) ثمّ يصدّق قوله ببذل نفسه ودمه الذي هو أعزّ شيء عنده ، وهذا منطق عشّاق الحسين (عليه السلام) ، وكفاهم بهذا شرفاً وكرامة وعزّة ، ثمّ قال عابس : ـ السلام عليك يا أبا عبد الله ، أشهد أ نّي على هداك وهدى أبيك . ثمّ مشى بالسيف نحوهم.
قال ربيع بن تميم : فلمّـا رأيته مقبلا عرفته ـ وقد كنت شاهدته في المغازي ـ فكان أشجع الناس فقلت للقوم : أ يّها الناس ! هذا أسد الاُسود ، هذا ابن شبيب ، لا يخرجنّ إليه أحدٌ منكم ، فأخذ ينادي : ألا رجل ! ألا رجل ! فقال عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة ، فرمي بالحجارة من كلّ جانب ، فلمّـا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثمّ شدّ على الناس ـ ويقال هنا ناداه القوم : أجننت يا عابس ، فقال : إي والله أجنّني حبّ الحسين ـ فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مئتين من الناس ، ثمّ تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقتل ـ رضوان الله تعالى عليه ـ فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة ، هذا والله لم يقتله إنسان واحد ، ففرق بينهم بهذا القول ».
وليس هذا حال عابس وحسب ، بل كلّ أصحاب الحسين وأهل بيته كان هذا منطقهم كما يحدّثنا بذلك العلاّمة السيّد عبد الرزّاق الموسوي المقرّم[3] في حديث ليلة عاشوراء :
« ثمّ دخل الحسين خيمة زينب ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره ، فسمع زينب تقول له : هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم ، فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة.
فقال لها : والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني ، استيناس الطفل إلى محالب اُمّه.
قال نافع : فلمّـا سمعت هذا منه بكيت ، وأتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب.
قال حبيب : والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة . قلت : إنّي خلّفته عند اُخته ، وأظنّ النساء أفقن وشاركنها في الحسرة ، فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهنّ . فقام حبيب ونادى : يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة . فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية ، فقال لبني هاشم : ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم.
ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى ما شاهده وسمعه نافع ، فقالوا بأجمعهم : والله الذي منّ علينا بهذا الموقف ، لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة ! فطب نفساً وقرّ عيناً . فجزّاهم خيراً ، وقال : هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهنّ . فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح : يا معشر حرائر رسول الله ، هذه صوارم فتيانكم ، آلوا ألاّ يغمدوها إلاّ في صدور من يفرّق ناديكم.
فخرجن النساء إليهنّ ببكاء وعويل ، وقلن : أ يّها الطيّبون ، حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين . فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم.
وفي يوم عاشوراء عندما خطب زهير بن القين ونصح قوم عمر بن سعد ، فرماه الشمر بسهم وقال : اسكت أسكت الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك . فقال زهير : يا ابن البوّال على عقبيه ، ما إيّاك اُخاطب ، إنّما أنت بهيمة ، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم . فقال شمر : إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة . فقال زهير : أفبالموت تخوّفني ؟ فوالله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم ...[4].
وحينما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : رحمك الله يا مسلم ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا . ودنا منه حبيب وقال : عزّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة . فقال بصوت ضعيف : بشّرك الله بخير . قال حبيب : لو لم أعلم أ نّي في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بما أهمّك . فقال مسلم : اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ـ أن تموت دونه . قال : أفعل وربّ الكعبة . وفاضت روحه بينهما ...[5].
وهكذا يفعل العشق والحبّ بأهله ، فلو طالعنا ثورة الحسين ثورة العشّاق والمحبّين لاتّضح لنا ما كان عليه اُولئك الأبرار الأخيار من الثبات والتضحية والفداء ، وأ نّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح والرماح والسيوف والسهام ، ولعاً منهم بالغاية ، وحبّاً لهم بمولانا الحسين ودينه ، وشوقاً إلى جوار جدّه المصطفى ، وعشقاً لحضورهم بين يدي الله ، في مقعد صدق في الحضيرة القدسيّة ، ويا لها من سعادة لا توصف.
« ولا يستغرب هذا من يعرف حالة العشق وأ نّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بما يلاقيه من عناء وكبد . ولقد حكى المؤرّخون أنّ كُثيراً الشاعر كان في خبائه يبري سهاماً له ، فلمّـا دخلت عليه عزّة ( معشوقته ) ونظر إليها أدهشه الحال ، فأخذ يبري أصابعه ، وسالت الدماء وهو لا يحسّ بالألم »[6].
كما حدّثنا بذلك القرآن الكريم في قصّة النسوة ( قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ ) عندما شاهدن جمال يوسف لحظات :
( وَلَمَّـا رَأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وَقُلـْنَ حاشا للهِ ما هذا بَشَراً إنْ هُوَ إلاّ مَلَكٌ كَريمٌ )[7].
فكيف بأصحاب سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) وقد شاهدوا جماله يوم عاشوراء ، وهو جمال الله جلّ جلاله.
« وإذا لم تشعر النسوة بمضض الجراح ، فليس من الغريب ألاّ يجد أصحاب الحسين (عليه السلام) وهم زبدة العالم كلّه ألم مسّ الحديد عنه ، نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي ، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداء (عليه السلام) »[8].
ويقول العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنية[9] في ذيل الآية الشريفة :
( قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأبْناؤُكُمْ وَإخْوانُكُمْ وَأزْواجُكُمْ وَعَشيرَتُكُمْ وَأمْوالٌ اقْتَرَفْتُموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنَ تَرْضَوْنَها أحَبُّ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسولِهِ وَجِهاد في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتَّى يَأتِيَ اللهُ بِأمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدي القَوْمَ الفاسِقينَ )[10].
إنّ هذه الآية الكريمة نصّ صريح في صفات عمر بن سعد ، حتّى كأ نّها نزلت فيه بالذات . فلقد دعاه الحسين إلى أن يكون معه ويدع ابن زياد ، فقال ابن سعد : أخاف أن تهدم داري . وهذا مصداق قوله تعالى :
( وَمَساكِنَ تَرْضَوْنَها ).
قال الحسين : أنا أبنيها لك.
قال ابن سعد : أخاف أن تؤخذ ضيعتي . وهذا ما دلّ عليه قوله سبحانه :
( وَأمْوالٌ اقْتَرَفْتُموها ).
قال الحسين : أنا أخلف عليك خيراً منها.
قال ابن سعد : إنّ لي بالكوفة عيالا أخاف عليهم ابن زياد . وهذا ما أشار إليه قوله تعالى :
( وَأبْناؤُكُمْ وَأزْواجُكُمْ وَعَشيرَتُكُمْ ).
هذا هو مبدأ ابن سعد الذي عليه يموت ويحيا : ضيعته وداره وأهله وعشيرته ، أمّا الدين والضمير ، أمّا الله ورسوله ، فألفاظ يجترّها ما دامت تحفظ له الضيعة والدار والأبناء والأقارب.
حارب ابن سعد حسيناً بدافع المنفعة الشخصيّة وحبّ الدنيا.
وكلّ من آثر المال والأهل على طاعة الله والرسول ، فإنّه على مبدأ ابن سعد ودينه . وإن بكى على الحسين حتّى ابيضّت عيناه ، ولعن ابن سعد في اليوم ألف مرّة ، ما دام لا يفعل إلاّ بنفس الباعث الذي بعث ابن سعد على قتل الحسين.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين.
وإذا عطفنا هذا الحديث الشريف على الحديث الذي رواه السنّة والشيعة : « حسين منّي وأنا من حسين » تكون النتيجة الطبيعية أنّ العبد لا يؤمن حتّى يكون الحسين أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين.
وقد وجد بين المسلمين من الرجال والنساء من أحبّ النبيّ هذا الحبّ وفدوه بالأرواح والأولاد.
وتجمّع الناس مع الحسين وهو سائر في طريقه إلى العراق ، ولمّـا جدّ الجدّ تفرّقوا عنه ، كما تفرّقوا عن جدّه في يوم اُحد إلاّ قليل القليل ، ولم يبقَ معه إلاّ صفوة الصفوة من الذين أحبّوا الله والرسول وآله ، وآثروا الموت من أجلهم على الأهل والمال ، كما قالها عابس الشاكري وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وأبطال كربلاء المقدّسة ...
وكان غلام مع اُمّه في كربلاء قُتل أبوه في المعركة ، فقالت له اُمّه : إخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي الحسين ، فخرج ، ولمّـا رآه الحسين (عليه السلام) قال : هذا شابّ قُتل أبوه ، ولعلّ اُمّه تكره خروجه ، فقال الغلام : اُمّي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :
أميري حسينٌ ونعم الأمير *** سرور فؤاد البشير النذير
عليٌّ وفاطمةٌ والداه *** فهل تعلمون له من نظير
وقاتل حتّى قُتل . فأخذت اُمّه رأسه وقالت : أحسنت يا بني ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني.
أرأيت إلى هذه ! ... اُمّ لا ترضى عن ولدها وأعزّ من كبدها ، إلاّ أن تراه مضرّجاً بدمائه ، جثّة بلا رأس.
ولا عجب ، إنّه حبّ الله ورسوله وعترته ، وليس كمثل الله ورسوله وعترته شيء . فكذلك حبّهم عند المؤمنين حقّاً لا يعادله شيء ، حتّى الأرواح والأبناء.
بهذا الحبّ ، بهذا الإخلاص لأهل البيت ، بهذه التضحية ، بهذه الروح وحدها يستعدّ المؤمنون الخلّص لما بعد الموت.
وبهذا الزهد في العاجل يقفون غداً مرفوعي الرؤوس أمام جبّار السماوات والأرض . لقد ترك الحسين وأصحابه الدنيا وما فيها لله وفي الله سبحانه وتعالى ، وضحّوا بالأرواح والأزواج والأبناء والأموال في حبّ الله وفي حبّ الحسين (عليه السلام)ومودّة القربى وإعلاء كلمة الحقّ وإدحاض كلمة الباطل . فكانوا مع الحسين وجدّه في الآخرة ، كما كانوا معه في الدنيا ، وحسن اُولئك رفيقاً.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) :
إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ، ويبغض أهل معصيته ، فإنّ فيك خيراً . وإن كان يحبّ أهل معصية الله ويبغض أهل طاعته ، فليس فيك خيراً ، والله يبغضك . والمرء مع من أحبّ.
عجباً لقلبي وهو يألف حبّكم *** لِمَ لا يذوب بحرقة الأرزاءِ
وعجبت من عيني وقد نظرت إلى *** ماء الفرات فلم تسل في الماءِ
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** لكنّما عيني لأجلك باكية
هذا والنفس الإنسانية في جوهرها عاشقة بالفعل للكمال المطلق ومطلق الكمال ، فلا بدّ أن يكون المعشوق فعليّاً كذلك ، كما يكون العشق الرابط بينهما فعليّاً ، فيتّحد العاشق والمعشوق والعشق ، ثمّ عشق الكمال في وجود الإنسان من جبلّته وفطرته ، ولا يشبعه ولا يملي فراغه ، ولو ملك ما ملك من أقطار السماوات والأرض ، إلاّ حبّ الله سبحانه وتعالى ، فيرجع الإنسان إلى ربّه ، ويفنى فيه ، وتصل نفسه المطمئنّة بذكر الله إلى غايتها ، فيأتيه الخطاب من مصدر الجلالة ( فَادْخُلي في عِبادِ ) أي العباد المنسوب إلى ( هو ) إليه سبحانه ، فيختلف عن خطاب عباد الله وعباد الرحمن ، كما يأتيه خطاب ( وَادْخُلي في جَنَّتي ) لا في جنّة عرضها السماوات والأرض بل في جنّة ( هو ) فيقف على الأسرار والعلوم الإلهية التي هي في جُنّة وحصن عن الغير ، فيدخل في جَنّته اللامتناهية ، بعد أن يخرق حُجب النور والظلام ، فيصل إلى معدن العظمة ومصدر الجلالة ، ومن حجب النور وجود الإنسان نفسه ، فإنّ الوجود نور ، كما أنّ من حجب النور الصفات الحميدة ، فلا بدّ للإنسان المتكامل أن يتجاوز عن وجوده وعن صفاته المجيدة ، فيتجاوز عن الإخلاص ليصل إلى مقام المخلَصين ـ بفتح اللام ـ الذين انتهت مجاهداتهم مع النفس ، وتجاوزوا مراحل الإخلاص ، وكذلك باقي الصفات الكريمة بعد تخلّيهم من الصفات الذميمة وحجب الظلام ، بعد نزع لباس الماهية الظلمانية من وجودهم النوراني ، ووصولهم إلى قاب قوسين أو أدنى ، فلا يرون إلاّ الحقّ وأنّ ما سواه باطل ، وإنّ وجوده من وجود ربّه ، فيتصبّغ بصبغة الله ، ولا يرى في الدير ديّاراً إلاّ هو ، ولا يرى شيئاً إلاّ ورأى الله قبله ومعه وبعده ، فإنّه داخلٌ في الأشياء لا كدخول شيء في شيء ، وخارج عنها لا كخروج شيء عن شيء ، فيرى الإنسان وجوده حقّاً بعد سيره في القوس النزولي والصعودي ، وظهوره إلى ميدان الموجودات بعدما لم يكن شيئاً مذكوراً ، فتأمّل وتفكّر فلا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]سفينة البحار 2 : 197.
[2]في كتابه ( مقتل الحسين ) 2 : 22.
[3]في كتابه ( مقتل الحسين ) : 219.
[4]مقتل الحسين ; للمقرّم : 232.
[5]المصدر : 241.
[6]مقتل الحسين ; للمقرّم : 71.
[7]يوسف : 31.
[8]المصدر : 73.
[9]في كتابه ( الحسين وبطلة كربلاء ) : 48.
[10]التوبة : 23.