
یشکل بعضهم علی الشیعة بأنهم یقولون إن الله تعالى یستحیل أن یرى لا فی الدنیا ولا فی الآخرة ، ویردون الأحادیث التی تنص على أن الله تعالى یرى فی الآخرة .
الجواب قال الله تعالى ( لا تدرکه الأبصار وهو یدرک الأبصار وهو اللطیف الخبیر )(1). وقال تعالى خطابا لموسى علیه السلام ( لن ترانی )(2). قال الزمخشری فی کتابه ( الأنموذج ) : ( لن للتأبید ، وعلیه ، تدل الآیة على عدم رؤیته تعالى إلى الأبد )
وقال تعالى : ( وقال الذین لا یرجون لقاءنا لولا أنزل علینا الملائکة أو نرى ربنا ، لقد استکبروا فی أنفسهم وعتوا عتوا کبیرا . یوم یرون الملائکة لا بشرى یومئذ للمجرمین ویقولون حجرا محجورا ) (3)
تتضمن الآیة إخبارا عن أمور ثلاثة :
1 - أن لقاء الله أمر قطعی محتوم وإن کان لا یرجوه المستکبرون .
2 - قال المنکرون لقاء الله : لولا أنزل الملائکة أو نرى ربنا .
3 - أنهم یوم القیامة یرون الملائکة .
فالآیة تحکی أنهم لم یؤمنوا بالله وقالوا : أو نرى ربنا ، فأجابهم الله تعالى بأنهم یوم القیامة یرون الملائکة ، ولو کانت رؤیة الله تعالى مقدورة لأجابهم الله بها ، فما یحصل بها یوم القیامة هو لقاء الله ، دون رؤیته .
وأما ما دل بظاهره من الأحادیث على رؤیته تعالى یوم القیامة فهو أربعة أحادیث فقط فی کتب أهل السنة ، وهی : حدیث جریر ، وأبی هریرة ، وابن رزین ، وصهیب .
وهی فضلا عن الخدشة فی سندها أخبار آحاد لا تفید یقینا ، فلا یجوز بناء الاعتقادات علیها ، بل لا بد من الدلیل القطعی
على المعتقد ، وقد قال الله تعالى ( ولا تقف ما لیس لک به علم ، إن السمع والبصر والفؤاد کل أولئک کان عنه مسؤولا ) (4)
وقد ثبت بالقطع والیقین استحالة رؤیته تعالى ، وقامت البراهین العقلیة والنقلیة على نفی الجسمیة عنه وتنزیهه عنها سبحانه وتعالى
ومعنى لقاء الله یوم القیامة إدراکه بدون واسطة حتى واسطة البصر ، فإن اللقاء والملاقاة یصدقان بالنسبة إلى الأعمى الفاقد البصر .
وبعد ذلک توجد عدة براهین عقلیة على استحالة کون واجب الوجود تعالى جسما ، لأن الجسم محدود فی المکان والزمان . ما یدل على استحالة کون واجب الوجود جسما براهین عدیدة ، نذکر جملة منها .
البرهان الأول : أن الجسم ما کان له أبعاد ثلاثة من العرض والطول والعمق ، فهو مرکب من أبعاض ، والمرکب مفتقر فی وجوده إلى وجود أبعاضه ، وما کان مفتقرا فی وجوده فلیس واجب الوجود .
البرهان الثانی : تناهی الجسم وکونه محفوفا بالأعدام من الجوانب الستة والواجب یمتنع أن یتطرق العدم إلیه بوجه من الوجوه
، وقد ثبت ذلک من طرق عدیدة . منها أنه لو کان الجسم غیر متناهی الأبعاد نفرض فیه نقطة خرج منها خطان فحصل منها
زاویة وامتد الخطان بامتداد الجسم ، فلو کان الجسم غیر متناه لامتد الخطان إلى غیر النهایة . ولما کان مقدار الإنفراج بین خطی الزاویة بنسبة مقدار امتداد الخطین ، فإن کان الخطین غیر متناهیین یستلزم أن یکون الإنفراج بینهما أیضا غیر متناه ، وذلک یناقض کونه محصورا بین الخطین .
ومنها : أنه إذا فرض خط ممتد إلى غیر النهایة ، وفرضنا إلى جانبه کرة تدور حول محور الخط المتصل بین قطبی الکرة ، وأحد قطبیها فوق الخط الغیر المتناهی والآخر تحته ، وقبل شروعها فی الدوران نفرض خطا خارجا من الکرة عمودیا على خط المحور
موازیا للخط الغیر المتناهی ، یمتد معه إلى غیر النهایة ، فإذا دارت الکرة إلى جهة الخط الغیر المتناهی یتقاطع الخط الخارج من الکرة مع الخط الغیر المتناهی نقطة فنقطة .
فأول نقطة یتقاطع فیها الخطان فیها هی نقطة من الخطین لا نقطة للخطین قبلها ، وإلا لکان التقاطع فیها قبل تلک النقطة . فثبت أن أول نقطة التقاطع آخر نقطة من الخطین ، فالخطان متناهیان لا محالة ، فکیف فرض کونهما غیر متناهیین !
ومنها : برهان التطبیق ، وهو أنه لو فرضنا ست خطوط خرجت من نقطة من داخل الجسم إلى الجهات الست ، ممتدة بامتداد الجسم ، ثم قطعنا من کل خط قطعة من جانب تلک النقطة . فلو فرضنا تطبیق محل القطع من الخط على النقطة التی بداء
منها أصل الخط قبل القطع ، فأما أن یمتد إلى غیر النهایة ، فیکون الزائد مثل الناقص ، وهو ممتنع ، أو یقصر عنه بمقدار تلک القطعة فیکون متناهیا ، وکذا أصل الخط لزیادته علیه بمقدار تلک القطعة فقط لا أکثر ، فثبت تناهى أبعاد کل جسم .
ویمکن تقریر البرهان بدون فرض التطبیق : بأنه إن کان باقی الخط بعد قطع قطعة منه مساویا لأصل الخط قبل القطع لزم مساواة الجزء مع الکل ، وهو محال ، وإن کان أقل منه لزم کونه متناهیا ، وکذلک أصل الخط لکونه أکثر منه بمقدار تلک القطعة فقط .
البرهان الثالث : إن کل جسم حادث ، فیستحیل أن یکون واجب الوجود جسما ، ویتضح ذلک ببیان أمور :
1 - لا ینفک الجسم عن الحرکة أو السکون بالبداهة ، فإن الجسم إما ساکن فی مکان أو متحرک من مکان إلى مکان آخر لا محالة .
2 - معنى الحرکة هو الکون فی الآن الأول فی مکان وفی الآن الثانی فی مکان آخر ، ومعنى السکون هو الکون فی الآن الأول فی مکان والکون فی الآن الثانی فی ذلک المکان بعینه .
فکل جسم قد تشکل من کونین : الکون فی الآن الأول فی مکان ، والکون فی الآن الثانی فی ذلک المکان أو فی مکان آخر .
3 - الکون فی الآن الأول فی مکان ، والکون فی الآن الثانی فی ذلک المکان أو مکان آخر ، وجودان متمایزان یمکن أن یوجد أحدهما ولا یوجد الآخر .
4 - کل جسم له وجود خاص وتشخص یتمایز به عن الأجسام الأخرى ویغایرها ، وذلک التشخص هو الکون فی زمان خاص فی مکان خاص . ولما کان منبع التشخص هو الوجود ، وکان تشخصه بذاته کانت اللوازم والمشخصات کلها منبعثة من وجود الجسم ، فیکون تبدل الکون فی زمان خاص فی مکان خاص مستلزما لتبدل وجود ذلک الجسم .
5 - الکون هو الوجود ، فتبدله هو تبدل الوجود ، فالجسم لا یزال یتبدل وجوده ، وله فی کل آن وجود غیر وجوده فی الآن السابق علیه ، وغیر وجوده فی الآن اللاحق علیه . فالحرکة والتبدل إنما هو فی وجوده لا فی أمر خارج عن وجوده ، فالحرکة فی ذاته وجوهره ، فثبت أن کل جسم له حرکة جوهریة .
6 - إن حقیقة الحرکة هی الانعدام والانوجاد ، الانعدام من الآن الأول والانوجاد فی الآن الآخر . فکل جسم ینوجد وینعدم آنا فآنا ، وکل وجود له فی آن ، مسبوق بعدمه وملحوق بعدمه . نعم لو لاحظنا ماهیة الجسم ، فلیست الحرکة والسکون داخلة فی ماهیته ، بل هما خارجتان ماهیة الجسم عارضتان علیها . أما أن وجود الجسم وکونه ، غیر مغایر لوجوده وکونه فی الآن الأول ، فلبداهة أنه لیس له وجودان فی آن واحد أحدهما وجوده والثانی وجوده فی ذلک الآن ، بل لیس له إلا وجود واحد ، فتبدله فی الآن الثانی هو انعدام وجوده فی الآن الأول وانوجاد وجود آخر له . . وهکذا فی الآنات المتوالیة إلى آخرها . ولا ینافی ذلک أن لوجوداته فی الآنات المتوالیة صورة متصلة ویقال له جسم واحد باعتبارها ، کما أن الصورة الاتصالیة للحرکة تقتضی إطلاق حرکة واحدة علیها من أولها إلى آخرها . فإن قلت : إن مقولة ( متى ) من المقولات العرضیة التسعة ، ولها طرفان طرفه الآخر هو الزمان ، والزمان ینتزع من حرکة الفلک .
قلت : نعم الزمان - أی اللیالی والأیام وأجزاؤها - منتزعة من حرکة الفلک الذی فیه الشمس ، أو من الحرکة الوضعیة لکرة الأرض ودورانها حول محور نقطة مرکزها ، کما انکشف ذلک فی القرون الأخیرة بالعیان . ولکنه لما ثبت بالبرهان المذکور
الحرکة الجوهریة والذاتیة للأجسام فإن نسبة الآنات التی ترکب منها الزمان إلیها وإلى حرکة الفلک مستویة ، فینتزع منها الآنات ، سواء کان للفلک حرکة مکانیة أم لا .
7 - فالجسم لا یزال حادثا یتجدد حدوثه فی کل آن ، والحادث فی کل آن غیر الحادث فی الآن المتقدم علیه .
8 - فثبت أن الجسم یستحیل أن یکون واجب الوجود ، وأنه تعالى لیس بجسم بالضرورة ، لأنه یمتنع علیه العدم ، وکیف یجوز علیه العدم ومنه وجود جمیع الموجودات ، وهو مکون جمیع الکائنات ، من المجردات والأجسام ، والأرضین والسماوات ، والأمکنة والأزمنة ، والسکنات والحرکات ، والحالات والآنات .
المصادر :
من کتاب شبهات حول الشیعة - أبو طالب التجلیل التبریزی
1- الأنعام / 103
2- الأعراف / 143
3- . الفرقان / 21 - 22
4- سورة الإسراء / 36
source : .www.rasekhoon.net