يرجى الانتظار

إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه

  • تاريخ النشر:   2016-12-18 22:43:56
  • عدد الزيارات:   606

ذكر العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عنواناً في مساواة علي عليه السلام مع آدم وإدريس ونوح عليهم السلام نقله عن كتاب مناقب آل أبي طالب، ومن جملة ما ذكر الروايةَ التالية:
(بإسناده عن على عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله: يا على أنت بمنزله الكعبة تُؤتى ولا تأتي، آدم باع الجنة بحبّات حنطة فأُمر بالخروج منها قلنا اهبطوا منها جميعا وعليٌ اشترى الجنة بقرص فأُذن له بالدخول فيها وجزاهم بما صبروا جنة، علم آدم الأسماء كلها وكان اسم علي وأسماء أولاده عليه السلام فعلَّم اللهُ آدم أسماءهم).(1)
وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي: (عن أبي محمَّد العسكري عليه السلام.... فقال رسول الله وهل شرفت الملائكة إلا بحبِّها لمحمَّد وعليٍّ وقبولها لولايتهما انه لا أحد من محبِّي عليٍّ عليه السلام نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغل ونجاسة الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم إنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها إلا و هم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدين فضلا و أعلم بالله و بدينه علما، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم فخلق آدم و علمه الأسماء كلَّها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها و عرفهم فضله في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذريَّة منهم الأنبياء والرسل و الخيار من عباد الله أفضلهم محمَّد ثم آل محمَّد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمَّد وخيار أمه محمَّد، و عرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إلى آخر الحديث...).(2)
والرواية التالية المنقولة في الكافي خير شاهد على ذلك:
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن الله مثَّل لي أمتي في الطين و علمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها فمرَّ بى أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي و شيعته أن ربى وعدني في شيعة علي خصلة، قيل يا رسول الله و ما هي قال المغفرة لمن آمن منهم..).(3)
الظاهر أن قوله عليه السلام ( علَّمني أسمائهم ) ثم تشبيهه صلى الله عليه وآله هذا التعليم بتعليم آدم عليه السلام الأسماء كلّها يدلُّ على أنَّ الأسماء التِّي علمَّها الله آدم عليه السلام ليست هي أسماء الجمادات والنباتات والحيوانات فقط بل هي شاملة للإنسان أيضاً.

أوَّل ما خلق الله

إنهم عليهم السلام أوَّل ما خلق الله ولأجلهم خُلِقت سائر الموجودات (لولاك لما خلقت الأفلاك) وأيضاً (لولاك لما خلقت آدم).(4)
وهذه المسألة ثابتة عقلاً ونقلاً ففي الحديث: (عن جابر بن عبد الله قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أول شئ خلق الله تعالى ما هو؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقَه الله ثم خلق منه كلَّ خير).(5)
وقال مولى العارفين الإمام العظيم نوَّر اللهُ ضريحه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية(6):
(مطلَع: إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي والتنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام وطينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله وعليّ صلى الله عليهما وآلهما، وأرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة والرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أول الظهور هو أرواحهم عليهم السلام، والتعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإن مقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيء بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر)، وأن يُطلق عليه الخلق أيضا كما ورد منهم "خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها" وهذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعيُّنات الخلقية من العقل وما دونه. ونحن نذكر رواية دالّة على تمام المقصود الذي أقمنا البرهان الذوقي عليه بحمد الله تيمّناً بذكره و تبرّكاً به في الكافي الشريف:
أحمد بن إدريس عن الحسين بن عبد الله الصغير عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن على بن محمد بن عبد الله بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكان ? خلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعليّاً، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شئ كون قبلهما فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب عليهما السلام).(7)
توضيح كلام الإمام(قدس سره الشريف)
إنَّ الله شاء فخلق، فأول ما صدر منه تعالى هو المشيئة وبها خلق الأشياء ولهذا سميت الأشياءُ أشياءً لأنها تجلٍ للمشيئة الإلهية فكيف ظهرت تلك المشيئة بنفسها؟ وفي ماذا ظهرت؟ وبطبيعة الحال ذلك المظهر ليس هو شيئاً بل هو أعلى من مستوى الشيء وهو ما يُطلق عليه بالأمر كما تشير إليه الآية المباركة (ألا له الخلق و الأمر)(8) ومن خلاله خُلقت الأشياء فأصبح هو واسطة للأشياء و رابطة بينها وبين الله تعالى.
فلا مشيئة قبل المشيئة حيث لا يمكن القول بأنَّ الله شاء أن يشاء أن يخلق الأشياء لأنَّه سوف يستمِّر هذا السؤال بالنسبة إلى المشيئة الأولى فربَّ قائل يقول: هل شاء أن يشاء أن يشاء أن يخلق الأشياء؟
وهذا السؤال لا ينتهي فيجرَّ الإنسان إلى ما لا نهاية لها من الأسئلة فيتورَّط في التسلسل الباطل فلا بدَّ إذاً أن يتوقَّف.
عالم المشيئة ليس هو من عالم الخلق بل هو من عالم الأمر والمشيئة لم تُخلق كخلق الأشياء الأخرى، بل لو أطلق عليها الخلق فيراد بذلك نمطٌ خاصٌّ من الخلق يختلف عن خلق سائر الأشياء، والمشيئة قد تجلَّت في المخلوق الأوَّل وهم أنوار محمد وآل محمد، ولأجل ذلك يطلق عليهم "أولوا الأمر"، وهم واسطة الفيض كما يُشير إلى ذلك قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) ثمَّ إنَّه: قد ورد في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد والسيد والشهيد:
(أوَّل النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة و المنزلة الجليلة و الدرجه الرفيعة و المرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة ونقلته منها إلى الأرحام المطهرة..).(9)

لا يسبقونه بالقول

ثمَّ إنَّ الملائكة قد أظهروا عجزهم في قبال هذا الأمر:
(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم).(10)
وكلامهم هذا في غاية الأدب والخضوع حيث ابتدؤا بالتسبيح ثمَّ نفوا العلم بنحو مطلق عن أنفسهم ونَسبوه إلى ربِّهم وفي خصوص الأسماء حيث أنَّه تعالى لم يعلِّمهم ذلك فلا علم لهم، ثمَّ أكَّدوا على أنَّ الله هو العليم الحكيم وفي ذلك إشارة إلى أنَّهم كانوا يرغبون في معرفة تلك الأسماء إن اقتضت الحكمة الإلهية.

الملائكة اقتنعوا

وهاهنا يأتي دور الخطاب الموَّجَه إلى آدم عليه السلام وهو نهاية المطاف وآخر مراحل الحديث مع الملائكة ومن خلال هذا الخطاب وجوابه وصل الملائكة إلى درجة الاطمئنان إن صح هذا التعبير بخصوص الملائكة!
(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأَهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).(11)
إنَّ الله سبحانه في هذه المرحلة يخاطب آدم عليه السلام ويطلب منه أن يُنبأ الملائكة بتلك الأسماء، والإنباء ليس هو مجرَّد الإعلام بل يُطلَق على خبرٍ ذي فائدةٍ عظيمة وذلك الذي يحصل منه علم أو غلبة الظن. قال الراغب الاصفهاني في مُفرداته
(النبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتَّى يتضمَّن هذه الأشياء الثلاثة..)
ومراجعة موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم أحسن دليل على ذلك قال تعالى:
(فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)(12) (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)(13) (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)(14) (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه)(15) (قل هو نبأ عظيم)(16) (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم)(17) ( تلك القرى نقص عليك من أنبائها)(18) (نَبِّأْ عبادي إنِّي أنا الغفور الرحيم)(19) (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا).(20)
ومن الواضح أنَّه تعالى كان يريد تثبيت شخصية آدم عليه السلام وبيان منزلته العظيمة لا كـآدم عليه السلام فحسب بل باعتبار أنَّه المَنشأ للخلق الجديد الذي يُطلَق عليه إنسان ذو الخصوصيّات المتميِّزة بين سائر الموجودات.
وهل الله سبحانه كان يريد أن يتعرف الملائكة على مستوى علم آدم عليه السلام وعلى ضوئه يخضعوا له بالسجود؟ هذا ما اعتقد به جمعٌ من المفسرين مع ما يتوجَّه إليهم من الملاحظات التي لا يمكن التخلُّص من الكثير منها.
هناك احتمال آخر أقوى ممّا ذُكر يتلاءم مع الأحاديث الشريفة أيضاً، وهو أنَّه سبحانه بعد أن عرض على الملائكة تلك الأنوار الطاهرة خلفائَه على البرية وحججه على خلقه ولم يتعرف الملائكة لا على أشخاصهم ولا على أسمائهم، فبطبيعة الحال لم يسكن غليلهم ولم يطمئنوا حيث لم تتمُّ لديهم فلسفة خلق الإنسان، فأراد سبحانه من آدم عليه السلام أن يُعرِّفهم للملائكة بذكر أسمائهم قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم أذعنوا بالأمر واستسلموا و انحلت تلك الشبهة الغامضة التي نشأت من رؤيتهم غير الصحيحة بالنسبة إلى خلق آدم وهي أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء!
ولا بأس بالإشارة إلى حديثين في هذا المجال:
1- ما نقله العلامة المجلسي عن كتاب إكمال الدين:
(عن الصادق عليه السلام أن الله تبارك وتعالى علم آدم عليه السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).(21)
ما نقله العلامة المجلسي عن تفسير فرات ابن إبراهيم الكوفي:
(عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى كان ولا شئ فخلق خمسة من نور جلاله واشتق لكل واحد منهم اسما من أسمائه المنزلة فهو الحميد وسمّاني محمَّدا وهو الأعلى وسمى أمير المؤمنين عليا وله الأسماء الحسنى فاشتق منها حسنا وحسينا وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه فلما خلقهم جعلهم الميثاق عن يمين العرش وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنّا لنحن المسبحون فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام نظر إليهم عن يمين العرش فقال يا رب من هؤلاء قال يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسما من أسمائي قال يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم قال يا آدم فهم عندك أمانة سرّ من سرِّى لا يطَّلع عليه غيرك إلا بإذني قال نعم يا رب قال يا آدم أعطني على ذلك العهد فاخذ عليه العهد ثم علمَّه أسماءهم ثم عرض على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال و أوفوا بولاية علي عليه السلام فرضا من الله أوف لكم بالجنَّة).(22)
يستفاد من هذا الحديث أنَّ الملائكة كانوا قد شاهدوا هذه الأنوار قبل أن يُخلق آدم عليه السلام و ذلك بعد أن خلقهم الله حيث ورد في الحديث:
(وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظَّموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون).
فكانوا يعرفون شأنهم ومرتبتهم عند الله ولكنَّهم لم يتوقَّعوا أنَّ هناك علاقة بينهم وبين خلق آدم عليه السلام ومن هنا نشاهد أنَّهم وبمجرَّد أن عَرفوا أسمائهم وصلوا إلى القناعة الكاملة وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم).
ولعلَّهم أشاروا بقولهم هذا أنَّه لا علم لنا أنَّ خلق آدم عليه السلام له علاقة بتلك الأنوار التي رأيناها سابقاً ولو كنّا نعلم ذلك لما اعترضنا أصلاً.
والجدير بالذكر أنَّه ورد حديث في الكافي الشريف يقول:
(محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير أو غيره عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم قال: ذلك إليَّ، إن شئتُ أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم ثم قال: لكنِّى أخبرك بتفسيرها قلت عمَّ يتساءلون قال: فقال هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول ما لله عز و جل آيه هي أكبر مني و لا لله من نبأ أعظم مني).(23)
والحديث ينطبق مع ما نحن فيه حيثُ أنَّ الولاية العظمى هي التِّي كانت السبب لخلق آدم عليه السلام ومن هنا قال: (أنبأهم بأسمائهم).

غيب السموات والأرض

وبعد أن أنباهم آدم بأسمائهم عليهم السلام: (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) والظاهر أنَّ علم الله بغيب السموات والأرض هو نفس العلم الذي جاء في الآية 30 حيث قال إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون.
ومن هنا يُعلم أنَّ تلك المسمَّيات الخاصَّة التِّي عرضت على الملائكة هي أمور غيبية عن العوالم المختلفة السماوية والأرضية، وهي على ما ذكرنا أرواحُ أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق، وأمّا تلك الأرواح فهي من عالم الأمر والمشيئة كما لاحظت في تعبير الإمام قدس سرُّه فتأمَّل في ذلك.
ولعلَّ الرواية الأولى تشير إلى هذا الأمر حيث جاء فيها:
(علم آدم الأسماء كلها ما هي قال أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض) وهذا التعبير يُشير إلى أنَّ تلك الأسماء لم تكن من الأرض بل هي غيب الأرض.

علم الغيب:

وينبغي لنا أن نتحدَّث ولو باختصار حول علم الغيب فنقول:
إنَّ هناك تعابير مختلفة في القرآن الكريم تتعلَّق بغيب السماوات والأرض.

ألف: أنّ الله عالم بغيب السماوات والأرض وهي ثلاث آيات:

1- (قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
2- (إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور).(24)
3- (إن الله يعلم غيب السماوات و الأرض والله بصير بما تعملون).(25)

ب: أنَّ غيب السماوات والأرض لله خاصَّة وهي أيضاً ثلاث آيات:

1 - (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون).(26)
2- (ولله غيب السماوات والأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إنَّ الله على كل شيء قدير).(27)
3- (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا).(28)
فهل يمكن للآخرين أن يطلِّعوا على علم الغيب أم لا؟ فماذا يعني إذاً قوله تعالى:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول فإنَّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا).(29)
لا يهمنا البحث عنه هنا حيث أنَّه لا يتعلق بما نحن بصدد بيانه.

ماذا كانت الملائكة تكتمه؟

وأمّا قوله تعالى وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون وما كانوا يبدونه فواضح وأمّا الذي كانوا يكتمونه فغير معلوم إلاّ أنَّ هناك حديث عن الإمام السجاد عليه السلام يبيّن لنا ذلك وهو:
(قال عليه السلام:.. وما كنتم تكتمون ظناً أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا).
وهذا الكلام لا يُنافي ما كانوا يعلمونه سابقاً من خلق الأنوار كما مرَّ لأنَّهم في كلامهم هذا يُشيرون إلى عالم الخلق لا عالم الأمر حيث أنَّ الملائكة من عالم الخلق فلم يكونوا يتوقَّعون أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منهم فيأمرهم بالسجود له ففوجئوا بذلك.

السجود لآدم عليه السلام

والظاهر أنَّ كل ما جرى بين الله والملائكة لم يكن إلاّ تمهيداً لأمرٍ واحدٍ وهو السجود لآدم عليه السلام، لا لأنَّه آدم بل لأنَّه مَجرىً للخلافة الإلهيَّة ومحلاً للفيض الربّاني، فالسجود في الواقع كان لله سبحانه وتعالى فإنَّ أحاديثنا الشريفة تُبَيِّن لنا حقيقةَ الأمر في ذلك:
(ففي رواية عن إمامنا موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام (في رواية طويلة حول أسئلة سألها يهودي من أمير المؤمنين عليه السلام فقال علي في جواب إحدى تلك الأسئلة) ولئن اسجد الله آدم ملائكته فان سجودهم لم يكن
سجود طاعة أنَّهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل ولكن اعترفوا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له).(30)
ولم يأمر الله ملائكته بالسجود لآدم إلاّ بعد أن سوّاه ونفخ فيه من روحه حيث يقول:
(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأٍ مسنون فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين).(31)
ففي الواقع لم يكن السجود لجسم آدم بل إنَّما هو لروحه المنتسب إلى الله تعالى وهو من أمر الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).(32)
وهناك أحاديث دالَّة على ذلك قد ذكرها المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه ننقل ثلاثة منها:
1- (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بحر عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته فقال هي صوره محدثه مخلوقه واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه و الروح إلى نفسه فقال بيتي ونفخت فيه من روحي).
2- (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن عروه عن عبد الحميد الطائى عن محمد بن مسلم قال سالت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ونفخت فيه من روحي كيف هذا النفخ؟ فقال إن الروح متحرك كالريح و إنما سمى روحا لأنه اشتق إسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الأرواح مجانسة الريح و إنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت بيتي ولرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبَّر).(33)
والظاهر أنَّ المراد من التصوير أيضاً ذلك حيث أنّه لا يُطلق على الإنسان إنسان إلاّ بعد أن تكتمل صورته الإنسانيَّة (لأنَّ شيئيَّة الشيء بصورته لا بمادته تأمَّل) وهذه الصورة تمثِّل ذلك الروح ومن هنا قال سبحانه وتعالى:
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين).(34)
ومن هنا تعرف السرّ في الحديث الأوَّل من الأحاديث الثلاثة التِّي ذكرناها من كتاب الكافي الشريف:
(...محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته..).
وللإمام قدِّس سرُّه شرح عميق ومختصر لهذا الحديث في كتابه القيِّم الأربعون حديثاً الحديث 38 فراجع.
ولا بأس بذكر بعض النقاط التِّي ذكرها إمام الأمَّة هناك مع تلخيص:
قال: (ويستفاد ممّا ذكرناه أنَّ الإنسان الكامل مظهر الاسم الجامع، ومرآة تجلِّي الاسم الأعظم).
ثمَّ ذكر آية الأمانة التِّي شرحناها سابقاً وقال:
(وتكون الأمانة لدى العرفاء الولاية المطلقة التِّي لا يليق بها غير الإنسان، وقد أشير إليها في القرآن الكريم بقوله تعالى: كلُّ شيء هالك إلاّ وجهه)
وفي كتاب الكافي بسنده:
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن محمد بن حمران عن أسود بن سعيد قال كنت عند أبي جعفر عليه السلام فانشأ يقول ابتداء منه من غير أن أساله نحن حجه الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده).(35)
وفي دعاء الندبة :(أين وجه الله الذي يتوجَّه إليه الأولياء؟ أين السبب المتصل بين الأرض والسماء)
وفي زيارة الجامعة :(والمثل الأعلى)
وهذا المثل الأعلى وذلك الوجه الإلهي هو الوارد في الحديث الشريف: (إنَّ الله خلق آدم على صورته) ومعناه أنَّ الإنسان هو المثل الأعلى للحق سبحانه، وآيته الكبرى، ومظهرها الأتم، وأنَّه مرآةٌ لتجلِّي الأسماء والصفات وأنَّه وجه الله وعين الله ويد الله وجنب الله.

إبليس ليس من الملائكة

إنَّ الخصال الباطنيَّة لإبليس هي التِّي جرَّته إلى عدم إطاعة أمر الله بالسجود لآدم عليه السلام وأساس ذلك هو الكفر بالله سبحانَّه فهو الذي أدَّى إلى الاستكبار والإباء من السجود والفسق عن أمر ربِّه، وبذلك يمكننا الجمع بين الآيات الثلاثة وهي:
ألف: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين).(36)
ب: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى).(37)
ج: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه).(38)
الظاهر أنَّ الآية الأخيرة لا تريد القول بأنَّ كلَّ من كان من الجنِّ فهو فاسق، كيف وهناك نفرٌ منهم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وقد تحدَّث عنهم القرآن بالتفصيل في سورة الجنّ، بل أنَّه تعالى حيث ذكر الملائكة قبل ذلك وبيَّن أنَّهم أُمروا بالسجود للإنسان ومن خصوصيّاتهم أنّهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، حيث أنَّهم عقول محضة لا تعتريها الهوى والشهوة، فربّما يستغرب السامع من عدم إطاعة إبليس فأراد الله سبحانه أن يدفع هذا الوهم المُقدَّر فقال: (كان من الجنّ ففسق عن أمر ربِّه) وقد فرَّع سبحانه الفسوق على كونه من الجنّ حيث أنَّه كان مخيَّراً بين الإطاعة وعدمها. فالاستثناء ليس مُتصِّلاً بل هو منفصل فيه لطافةٌ أدبيَّة يصل إليها المتأمِّل، والحديث التالي دليل على ذلك:
(ففي تفسير على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال.. كان إبليس منهم بالولاء و لم يكن من جنس الملائكة).
والحاصل أنَّ جميع الملائكة بلا استثناء سجدوا لآدم عليه السلام إلاّ إبليس حيث كان كافراً من قبل إلاّ أنَّه كان يكتُم كفره فأبى واستكبر حينما أُمر بالسجود:
(وعن أبي عبد الله عليه السلام قال فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد).(39)
ومن ثمَّ صار الكفر أقدم من الشرك (ففي الكافي الشريف بإسناده عن مسعدة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام... إلى أن قال وسئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم فقال الكفر أقدم و ذلك إنَّ إبليس أوَّل من كفر و كان كفره غير شرك لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله و إنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك).
وأوَّل ما عصي به الله من الذنوب هو الكبر(فقال على بن الحسين عليه السلام… فأوَّل ما عصى الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبي و استكبر وكان من الكافرين).(40)
المصادر :
1- بحار الأنوار ج 39 ص 48 رواية 15 باب73.
2- بحار الأنوار ج 11 ص 137 رواية 1 باب 2، ج 21 ص 227 رواية 6 باب 29، ج 26 ص 338 رواية 4 باب 8.
3- الكافي ج 1 ص 443 رواية 15.
4- بحار الأنوار ج 16 ص 406 رواية 1 باب 12، ج 40 ص 20 رواية 36 باب 19.
5- بحار الأنوار ج 15 ص 24 رواية 43 باب 1، ج 25 ص 21 رواية 37 باب 1، ج 57 ص 170 رواية 116 باب 1.
6- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص 105.
7- الكافي ج 1 ص 441 رواية 9.
8- الأعراف 54.
9- بحار الأنوار ج 100 ص 183 رواية 11 باب 2.
10- البقرة 32.
11- البقرة 33.
12- الشعراء 6.
13- الأنعام 34.
14- الأنعام 67.
15- يونس 71.
16- ص: 67.
17- التغابن 5.
18- الأعراف 101.
19- الحجر 49.
20- الكهف 78.
21- بحار الأنوار ج 11 ص 145 رواية 15 باب 2، ج 26 ص 183 رواية 38 باب 6.
22- بحار الأنوار ج 37 ص 62 رواية 31 باب 50.
23- الكافي ج1 ص207 رواية3.
24- فاطر 38.
25- الحجرات 18.
26- هود 123.
27- النحل 77.
28- الكهف 26.
29- الجن 26.
30- بحار الأنوار ج10 ص29 رواية1 باب2.
31- الحجر 28،29.
32- الإسراء 85.
33- الكافي ج 1 ص 133 رواية 3. ج 1 ص 134 رواية 4.
34- الأعراف 11.
35- الكافي ج 1 ص 145 رواية 7. ج 1 ص 134 رواية 4.
36- البقرة 34.
37- طه 116.
38- الكهف 50.
39- بحار الأنوار ج63 ص234 رواية73 باب3-ج63 ص273 رواية160 باب3. ج 63 ص 234 رواية 73 باب 3.
40- الكافي ج 2 ص 386 رواية 8. ج 2 ص 317 رواية 8.

العلامات :
آراء المستخدمين (0)
إرسال الرأي