عربي
Tuesday 24th of December 2024
0
نفر 0

ان مسالة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال الحكما والفلاسفة منذ عصور قديمة , وكانت مطروحة على بساط البحث بين حكما الاغريق

مقدمة البحث

وقد ذكر (دام ظله ) قبل الخوض في المقصود امورا ناتي بهاواحدا تلو الاخر.

الاول : السير التاريخي للمسالة

ان مسالة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال الحكما والفلاسفة منذ عصور قديمة , وكانت مطروحة على بساط البحث بين حكما الاغريق ((2)) الى ان طلعت شمس الاسلام وبزغ نوره , فـتـداولـت الـمـسـالـة بـيـن حـكـمـا الاسـلام ومتكلميه , نجم عنها فيما بعد, آرا ونظريات بين الافراطوالتفريط.
فـمـن ذاهـب الـى الـجبر وان افعال العباد مخلوقة للّه تبارك وتعالى , كخلق اجسامهم وطبائعهم , ولـيـس للعباد فيها صنع حتى قيل بعدم الفرق بين حركة يد الكاتب والمرتعش , الى آخرذاهب الى الـتـفويض وان افعال العباد مفوضة اليهم مخلوقة لهم ,لا صلة لها باللّه سبحانه سوى انه اقدر العبد على العمل , وليس له تعالى ارادة ومشيئة متعلقة بافعالهم بل هي خارجة عن نطاق ارادته ومشيئته .
وقد اقام كل من الطائفتين دلائل وبراهين على مذهبه سوف نقوم باستقصائها ان شا اللّه تعالى .
والـمذهب الحق هو مذهب ائمة اهل البيت (ع ) من نفي الجبر والقدر
((3)) , وان الحقيقة في افعال الـعـباد هو الاخذ بالامربين الامرين , فلا جبر حتى تسلب المسؤولية عن الانسان ليكون بعث الانبيا سـدى , وجهود علما التربية وزعماالاصلاح عبثا, ولا تفويض حتى يقوض اصل التوحيد في الخالقية ويـؤله الانسان ويكون خالقا ثانيا في مجال افعاله ,يخرج بذلك بعض ما في الكون عن اطار ارادة اللّه ومشيئته .

الثاني : صفاته تعالى عين ذاته

اتـفـق الحكما والمتكلمون على ان له سبحانه صفات جمال وكمال , ويعبر عنها بالصفات الجمالية والـكـمـالية والثبوتية , كالعلم والقدرة والحياة وغيرها, ولكن اختلفوا في كيفية وصفه سبحانه بها, وملاك الاختلاف هو:
ان بـسـاطة الذات وعدم تركبها عقلا وخارجا تابى عن وصفهاباوصاف كثيرة في مرتبة الذات , فان حـيـثـية العلم غير حيثية القدرة كما انهما غير حيثية الحياة , فكيف يمكن ان يجتمع وصف الذات بالبساطة مع وصفها بالعلم والقدرة والحياة في مقام الذات ؟.
وقد تخلصت كل من الاشاعرة والمعتزلة عن هذا المازق بنحو خاص .
فـذهـبـت الاشـاعـرة الى ان هذه الصفات ليست صفات ذاتية وانما هي من لوازم الذات , ففي مقام الذات لا علم ولا قدرة ولاحياة , وانما تلازمها هذه الاوصاف دون ان يكون بينهما وحدة في الوجود والتحقق .
ولما استلزم ذلك القول بوجود القدما الثمانية المركبة من الذات والاوصاف الثبوتية السبعة , ذهبت الـمـعـتزلة الى نفي الصفات عنه تعالى بتاتا لا في مرتبة الذات ولا في مرتبة الفعل ,بل قالوا ان ذاته نائبة مناب الصفات , بمعنى ان خاصية العلم تترتب على الذات دون ان يكون هناك علم وراها, كما ان اثـرالقدرة التي هي اتقان الفعل يترتب على ذاته دون ان يكون هناك قدرة وراها, فما يتوقع من الـصـفـات كـالـكـشـف فـي الـعـلـم واتـقان الفعل في القدرة يترتب على ذاته من دون ان يكون لتلك الاوصاف وجود وتحقق في مرتبتها, وقد اشتهر عنهم قولهم :((خذ الغايات واترك المبادئ )).
لنذكر شيئا حول النظريتين وان كانتا خارجتين عن محطالبحث .
امـا الاشاعرة , فقد حاولوا الحفاظ على بساطة الذات باخراج الصفات الثبوتية عن حد الذات وجعلها فـي مـرتـبـة تالية لازمة لها قديمة مثلها الا انهم وقعوا في ورطة القول بالقدماالثمانية , فصار الاله الواحد تسعة آلهة , وهو اشبه بالفرار من محذور الى آخر افسد منه .
اضف اليه ان لهذا القول مضاعفات نشير الى اثنين منها:
1 لو كانت زائدة على الذات كانت مرتبة الذات خالية عنهاوالا لكانت مرتبة الذات عين تلك السلوب لـهـذه الـكـمـالات ,والـخلو ان كان موضوعه الماهية كان امكانا ذاتيا, لكن لا ماهية للواجب تعالى , فـمـوضـوع ذلـك الـخـلـو وجـود صـرف هـو حـاق الـواقـع وعين الاعيان , وان كان موضوعه هو الامـكـان الاسـتعدادي القائم بالمادة , والمادة لابد لها من صورة والمركب منهما جسم ,يلزم كونه سبحانه جسما تعالى عن ذلك علواكبيرا
((4)) .
2 ما اعتمد عليه سيدنا الاستاذ (دام ظله ) وحاصل ما افاد ان الوجود في اي مرتبة من المراتب فضلا عـن الـمـرتبة العليا لاينفك عن الكمال , اي العلم والشعور والقدرة والارادة , فكل مرتبة من مراتب الوجود, تلازم مرتبة من مراتب الكمال , فاذاكانت الذات في مرتبة تامة من الوجود يستحيل انفكاك الكمال التام عنها.
بـرهـانـه : ان الـكمالات المتصورة من العلم والارادة والقدرة والحياة اما من آثار الوجود او من آثار الـمـاهية او من آثار العدم ,ولا شك في بطلان الثالث , فدار الامر بين رجوعه الى الماهية اوالوجود, وحيث ان الماهية امر اعتباري لا تتاصل الا بالوجود,فتنحصر الواقعية بالوجود.
وعـلـى صعيد آخر: ان الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة , فكل مرتبة من مراتب الوجود غير خالية عن اصل الحقيقة (الوجود) وانما تختلف فيه شدة وضعفا, فيستنتج من هذين الامرين :
1 اصالة الوجود واعتبارية الماهيات .
2 ان الوجود حقيقة واحدة سارية في جميع المراتب .
عدم انفكاك الكمالات عن حقيقة الوجود في عامة المراتب خصوصا في المرتبة التامة , اعني : صرف الوجود وبحته
((5)) .
وبـذلك يظهر وهن نظرية المعتزلة ايضا حيث انكرواصفاته تعالى من راس تخلصا من ورطة القدما الثمانية , بيدانهم وقعوا في محذور آخر وهو: خلو الذات عن الصفات وقيامها مناب الصفات , اذ يردها كلا الامرين ايضا:
ا ان موضوع الخلو اما الامكان الماهوي او الامكان الاستعدادي .
ب الوجود لا ينفك عن العلم وسائر الكمالات .
ثـم ان الـمراد من عينية الصفات للذات ليس اتحاد مفاهيمهامع الذات او اتحاد مفاهيم بعضها مع الاخـر, لان الـمفاهيم من مقولة الماهيات وهي مثار الكثرة , كما ان الوجود مدار الوحدة ,بل المراد وحدة واقعية هذه الصفات مع واقعية الذات , وان الذات بوحدتها كافية في انتزاع هذه الصفات عنها وانهابصرافتها وخلوها عن اي شي غير الوجود, كاف في الحكم عليها بالعلم والقدرة والحياة .

الثالث : الارادة الذاتية للّه سبحانه

اتـفق اهل الحديث على نفي الارادة الذاتية وان ارادته سبحانه هي احداثه وايجاده تمسكا بالروايات الواردة عن ائمة اهل البيت (ع ).
ولـكـن سـلـب الارادة الذاتية عنه سبحانه يستلزم خلو الذات عن الكمال المطلق للموجود بما هو مـوجـود, وتـصـور ما هواكمل منه ژتعالى , لان الفاعل المريد, افضل واكمل من الفاعل غير المريد, فيكون سبحانه كالفواعل الطبيعية غير المريدة التي تعد من مبادئ الاثار.
وامـا مـوقـف الـروايات التي رويت عن ائمة اهل البيت (ع ),فالامعان فيها يعرب عن انها بصدد نفي الارادة الحادثة المتدرجة عنه سبحانه .
روى صـفوان بن يحيى قال : قلت لابي الحسن (ع ): اخبرني عن الارادة من اللّه ومن الخلق ؟ فقال : ((الارادة مـن الخلق :الضمير, وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل , واما من اللّه تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك , لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر,وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق , فارادة اللّه : الـفعل لا غير ذلك , يقول له كن فيكون بلا لفظ, ولا نطق بلسان , ولاهمة ولا تفكر ولا كيف لذلك , كما انه لا كيف له ))((6)).
تـرى ان الراوي يسال الامام عن واقع الارادة في الواجب والممكن , فبما ان واقعها في الممكن هي الارادة الـحـادثـة ,فنفاها الامام عن اللّه سبحانه وفسرها بالاحداث والايجاد, فلواثبت الامام في هذا الـمجال ارادة ذاتية له سبحانه مقام الذات ,لاوهم ذلك ان ارادتها كارادة الانسان الحادثة , مثلا انه سـبـحانه كالانسان يروي ويهم ويتفكر, فمثل هذه الرواية واضرابهاليست بصدد نفي الارادة الذاتية بتاتا, بل بصدد نفي الارادة الحادثة ـ كالارادة البشرية ـ في مقام الذات .

شبهة نفاة الارادة الذاتية

ثـم ان نـفـاة الارادة فـي ذاتـه سبحانه تمسكوا ببرهان عقلي مفاده ان القائلين بالارادة الذاتية للّه سـبـحـانه يفسرونها بعلمه المحيط,ولكن ارادته لا تصح ان تكون عين علمه , لانه يعلم كل شي ولا يـريـد كل شي , اذ لا يريد شرا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والاثام , فعلمه متعلق بكل شي وارادته ليست كذلك ,فعلمه عين ذاته , اما ارادته فهي صفة زائدة على ذاته .
فـهـذه شـبهة قد احتج بها بعض مشايخنا الامامية (رضوان اللّه عليهم ) على اثبات ان الارادة زائدة على ذاته تعالى .
وقد اجاب عنها صدر المتالهين واوضحها سيدنا الاستاذبماحاصله :
ان فـي الـقبائح والاثام كالشر والظلم والكفر جهتين : جهة وجود, وجهة عدم , وان شئت قلت : جهة كـمـال وجـهة نقص ,وارادته كعلمه يتعلق بجهة الوجود والكمال , ويستحيل ان يتعلق بجهة العدم والـنقص , فذاته سبحانه كشف تام عن الجهة الاولى وهي ايضا مراده , ويستحيل ان تكون ذاته كشفا تاما عن العدم والنقص , فان الاعدام والنقائص ليست بشي , لانهابطلان محض .
وبعبارة اخرى : ان العلم يكشف عن المعلوم بما هو موجود ولايكشف عن الاعدام وما في وزانها من الـنـقـائص والـشـرور, بل يكون كشفه عنها بالتبعية والعرض , فصرف الوجود ـ الذي هوكل الاشيا, وبـسـيـط الـحـقـيـقة التي بوحدتها وبساطتها جامعة لكل الاشيا ـ انما يكشف في مقام الذات عن الاشـيـاوالـموجودات دون الاعدام والنقائص المحضة , وقد ثبت في محله ان واقع القبائح من الشر والظلم والكفر, عدم وبطلان محض , فلا يتعلق بها العلم ولا الارادة الا تبعا وعرضا.
اقول : قد اشار الى هذا الجواب صدر المتالهين , وقال : ان فيض وجوده يتعلق بكل ما يعلمه خيرا في نـظـام الـوجود, فليس في العالم الامكاني شي مناف لذاته ولا لعلمه الذي هو عين ذاته ولا امر غير مـرضـي بـه , فـذاتـه بذاته كما انها علم تام بكل خيرموجود, فهي ايضا ارادة ورضا لكل خير, الا ان اصـنـاف الـخـيـرمتفاوته وجميعها مرادة له ـ الى ان قال : ـ فالخيرات كلها مرادة بالذات , والشرور الـقـلـيـلـة الـلازمة للخيرات الكثيرة ايضا انمايريدها بما هي لوازم تلك الخيرات لا بما هي شرور, فـالـشـرورالـطـفيفة النادرة داخلة في قضا اللّه بالعرض , وهي مرضي بهاكذلك , فقوله تعالى : (ولا يـرضـى لـعـبـاده الـكفر)
((7)) وما يجري مجراها من الايات معناه ان الكفر وغيره من القبائح غير مرضى بها له في انفسها وبما هي شرور ولا ينافي ذلك كونها مرضيابها بالتبعية والاستجرار ((8)) .
فـتلخص من ذلك : ان علمه تعالى انما يتعلق بالموجود بماهو موجود الذي يساوق الخير والكمال , فـلابـد ان يـكـون كشفه عن نقيضه الموسوم بالعدم والشر بالتبع والعرض فيكون وزان العلم وزان الارادة , وبالعكس يتعلق كل بما يتعلق به الاخربالذات وبالعرض .
الى هنا تبين ان الشبهة غير مجدية في سلب الارادة عن مقام الذات .
نـعـم لا نـشـاطـر القوم الراي في ارجاع الارادة الى العلم بالمصالح ,وذلك لان اصل الارادة كمال , وارجاعه الى العلم الذي هو من مقولة الكيف , يستلزم سلب كمال عن ذاته وتصور اكمل منه .
وبه يظهر عدم تمامية القولين في باب الارادة :
ا ـ ارجاع ارادته الى الفعل والاحداث , كما عليه اهل الحديث .
ب ـ ارجاع ارادته الى العلم بالمصالح .
فان القولين يشتركان في سلب كمال عنه .
واما ما هي حقيقة ارادته , فهذا خارج عن موضوع البحث موكول الى ابحاث عليا.

الرابع : في كلامه سبحانه

اتـفـق الـمـسـلـمون تبعا للذكر الحكيم على كونه سبحانه متكلما, قال سبحانه : (وكلم اللّه موسى تـكـليما) ((9)) وقال سبحانه :(وما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا او من ورا حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشا انه علي حكيم ) ((10)) .
ولكنهم اختلفوا في تفسير كلامه .
فـذهـبـت المعتزلة والامامية الى انه من صفات الفعل وان كلامه هو فعله , واستشهدوا عليه ببعض الايـات والـروايات , قال سبحانه : (ولو ان ما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات اللّه ان اللّه عزيز حكيم )
((11)) .
وقـال امـيـر الـمؤمنين (ع ) : ((يخبر لا بلسان ولهوات , ويسمع لابخروق وادوات , يقول ولا يلفظ, ويـحـفـظ ولا يـتحفظ, ويريدولا يضمر, يحب ويرضى من غير رقة , ويبغض ويغضب من غير مشقة , يـقول لمن اراد كونه كن فيكون , لا بصوت يقرع ولابندا يسمع , وانما كلامه سبحانه فعل منه انشاه ومثله , ولم يكن من قبل ذلك كائنا, ولو كان قديما لكان الها ثانيا))((12)).
وما ورد عنه (ع ) يبين نوعا من كلامه والنوع الاخر منه ايجاد الكلام في الشجر والجبل .
وحاصل تلك النظرية ان وصفه سبحانه بكونه متكلما,بمعنى قيام الكلام به قياما صدوريا لا حلوليا, كـمـا ان اطلاقه علينا كذلك , الا ان الفرق ان ايجادنا بالالة دونه تعالى , فاللّه سبحانه يخلق الحروف والكلمات في الحجر والشجر اونفوس الانبيا بلا آلة فيصح وصفه بالتكلم .
اقـول : الكلام في وصفه سبحانه بفعل يصلح ان يصدر عنه بلاتوسط شي , ومن الواضح ان العقل دل عـلـى امـتـناع وصفه سبحانه بهذا الملاك , فان الكلام امر حادث متدرج متصرم ,والتصرم والتجدد نـفس ذاته , وجل جنابه ان يكون مصدرا لهذاالنوع من الحدث بلا واسطة , لان سبب الحادث حادث كمابرهن عليه في الفن الاعلى في مسالة ربط الحادث بالقديم ,فكيف تكون ذاته القديمة البسيطة الثابتة مبدا لموجود حادث متصرم متجدد؟ وبذلك يظهر انه لا يصح وصفه بالتكلم بهذا الملاك , لان الكلام في وصفه سبحانه بما يصح صدوره عنه بلا توسيط,والمتجدد بما هو متجدد لا يصح صدوره عنه بلا واسطة .
نعم يمكن ايجاد الكلام المتصرم في الشجر والحجروالنفس النبوية لكنه بحاجة الى توسط شي آخر كما هو الحال في صدور كافة الموجودات الطبيعية التي جوهرها التصرم والتجدد
((13)) .
وامـا مـا هـو معنى نزول الوحي وانزال الكتب على الانبياوالمرسلين , فهو من العلوم البرهانية التي قلما يتفق لبشر ان يكشف مغزاها؟ فالبحث عنه متروك لاهله ومحله .
اذا وقفت على عقيدة المعتزلة في نفي الكلام عنه سبحانه ,فحان حين البحث عما عليه الاشاعرة .

نظرية الاشاعرة في تكلمه سبحانه

ذهبت الاشاعرة الى ان التكلم من صفات الذات لا من صفات الفعل , وفسروا كلامه بالكلام النفسي وبالمعنى القائم بذاته في الازل .
الـكـلام النفسي عندهم غير العلم في الاخبار, وغير الارادة والكراهة في الانشا ففي الجمل الخبرية مثل قولك : زيد قائم ,امور ثلاثة :
ا ـ الكلام اللفظي .
ب ـ المدلول اللفظي (من التصور والتصديق ).
ج ـ الكلام النفسي .
وفي مثل الانشائيات كقولك : كل , او لا تشرب الخمر, امورثلاثة :
ا ـ الكلام اللفظي .
ب ـ المدلول اللفظي (الارادة والكراهة ).
ج ـ الكلام النفسي .
والـحـاصل انهم اعتقدوا ان في جميع الموارد معنى قائما بالنفس غير المدلول , من دون فرق بين الجمل الخبرية او الانشائية ,واطلقوا عليه : الكلام النفسي , بيد انهم خصصوا باب الاوامرباسم خاص واسـمـوه : الـطـلـب , فالارادة مدلول لفظي والطلب كلام نفسي , وبذلك ذهبوا الى مغايرة الارادة والطلب .
ومـن هـنا ظهر منشا عنوان هذه المسالة اي وحدة الارادة والطلب او مغايرتهما, فانها نتيجة القول بالكلام النفسي المغاير للمدلول اللفظي في الاخبار (التصديق ) والانشا(الارادة والكراهة ).
ثم انهم عجزوا عن تفسير الكلام النفسي على وجه يجعله مغايرا للعلم في الاخبار والارادة والكراهة في الانشا, ومع ذلك اصروا على وجود ذلك الامر في كل متكلم من غير فرق بين الواجب والممكن , الا انه في الواجب قديم وفي الممكن حادث .
وقد استدلوا على ذلك بوجوه :

ادلة الاشاعرة على وجود الكلام النفسي :

ان الانسان قد يامر بما لا يريده كامتحان عبده وانه هل يطيعه اولا؟ فالمقصود هو الاختبار فحسب , فثمة طلب دون ارادة ((14)) .
وبـعبارة اخرى : ان صدور الاوامر الامتحانية يتوقف على وجود مبدا في النفس تترشح منه , وبما انه لـيـس هناك مبدا باسم الارادة , فلا يصلح له الا الطلب القائم بالنفس , وهو الكلام النفسي في مورد الانشا.
والـجـواب : ان البحث عن حقيقة الارادة ومبدئها موكول الى الفن الاعلى , والذي يناسب ذكره في المقام هو ما يلي :
ان كـل فـعل اختياري , مسبوق بالتصور ثم التصديق بفائدة وغاية , اذ لايتصور صدور الفعل بلا غاية , كـيف , وهي من العلل الاربعة : وربما يتمسك في نفيها بالافعال العبثية , ولكنه استدلال باطل , لان المنتفي فيها هو الغايات العقلائية , لاالغايات المسانخة للافعال الجزافية .
فـاذا حـصـل الـتصديق بفائدة الفعل فتارة تجدها النفس ملائمة لطبعها فتشتاق اليه لاجل الفائدة وكثرة الحاجة , يعقبهاتجمع
((15)) وتصميم من قبل النفس فتحرك الاعضا نحو الفعل .
واما اذا لم تجده النفس ملائما لطبعها فلا تتحرك نحوه ,لكن لو حكم العقل بصلاح الفعل فتعزم بلا اشتياق , كشرب الدوا المر, او قطع اليد الفاسدة .
وبـهـذا يـعـلـم ان الـشوق ليس من مبادئ الاختيار والارادة ,على وجه الاطلاق فالاوامر الصورية والحقيقية بما انها من الافعال الاختيارية رهن سبق امور منها:
التصور والتصديق بالفائدة والشوق , والتصميم والجزم ,فالبعث , غير انهما يختلفان في الغاية .
توضيحه : انه لا فرق بين الاوامر الامتحانية في ان الهيئة في كلاالموردين مستعملة في البعث نحو الـشـي وانما الاختلاف في الغاية , فهي في الاولى عبارة عن تحصيل ما يترتب على وجودالفعل من فوائد وعوائد, ولكنها في الثانية تحصيل العلم بحال العبد من خير وصلاح او شر وفساد, والاختلاف في الغاية لايكون منشا للاختلاف في استعمال الهيئة ومدلولها.
وامـا الارادة فان اراد الاشعري من انتفائها في الامرالامتحاني عدم تعلقها بوقوع الفعل خارجا, فهو امـر مـسلم , من غير فرق بين الاوامر الصورية والاوامر الحقيقية , فانه يمتنع تعلق الارادة على فعل الغير بما هو خارج عن سلطان المريد.
وان اراد انتفا تعلق الارادة بالبعث الذي يستفاد من التلفظبلفظ الامر, فلا نسلم انتفاها, وذلك لان البعث فعل اختياري فلابد ان تسبقه الارادة بمبادئها.
وحـصـيـلـة الـكـلام انـه لو اراد من انتفا الارادة , الارادة المتعلقة بفعل الغير, فهي منتفيه في كلا القسمين , لان ارادة الانسان لاتتعلق الا بفعل نفسه لا بفعل الغير, لانه خارج عن سلطانه .
وان اراد مـن انـتـفـائهـا, الارادة الـمـتعلقة بالبعث والزجر اللذين يعدان من فعل الفاعل , فالارادة مـوجـودة في كلا المقامين , كيف بمسبوقيتهما بالارادة .
ثـم ان المحقق الخراساني اجاب عن الاشكال ـ وقسم الارادة والطلب ـ بعد الحكم بوحدتهما ـ الى قـسـمـيـن : حـقيقية وانشائية , فقال بوجودهما حقيقة في الاوامر الحقيقية , وبعدمهما حقيقة في الاوامر الاختبارية , وبوجودهما فيهما انشا.
وقـد اشـار الـى هـذا الـجـواب بـقـولـه ((فانه كما لا ارادة حقيقة في الصورتين (صورتي الاختبار والاعـتـذار) لا طـلـب كـذلـك فـيهما,والذي يكون فيهما انما هو الطلب الانشائي الايقاعي الذي هومدلول الصيغة او المادة ((16)).

يلاحظ عليه بامرين :

الاول : ان الارادة مـن الامـور الـتـكـوينية الحقيقية , ولا تقع مثل هذه الامور في اطار الانشا, وانما يتعلق الانشا بالامورالاعتبارية , فتقسيم الارادة الى حقيقية وانشائية ليس بتام .
الـثاني : قد عرفت وجود الارادة الحقيقية في الصورتين ,وهو تعلقها حقيقة بالبعث والطلب , وان لم تتعلق بنفس الفعل الخارجي , الذي هو خارج عن سلطان الامر.

اكمال :

مـا ذكـرنـا من ان تعلق الارادة بشي فرع وجود الغاية فيه , لايهدف الى لزوم وجود غاية زائدة على الـذات مـطـلـقـا بـل اعـم منهاومن غيرها, فالغاية في المريد الممكن هي التي تناسب مقام الفعل ومرتبته فهي زائدة عليها, وانما ارادته سبحانه تعلقت بايجاد الاشيا او ببعث الناس الى افعال خاصة , فـالـغـايـة هي ذاته لا شي خارج عنها, لما حقق في محله من ان العلة الغائية , هي ما تقتضي فاعلية الـفـاعـل , وتـؤثـر فـيـه وتخرجه عن مرحلة القوة الى مرحلة الفعل , على وجه لولا الغاية لما كانت مصدراللفعل .
والـغـايـة بـهذا المعنى تستحيل على اللّه سبحانه , بان يريدايجاد شي او بعث الناس نحو شي لغاية خـارجـة عن ذاته مكملة لها في مقام الايجاد والانشا, لان كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته , فهو فقير مستفيض محتاج الى ما يستكمل به , وهويناسب الفقر والامكان , لا الغنى والوجوب .
اضـف الـيه انه لو كان لفعله سبحانه في مجال التكوين والتشريع غاية ورا ذاته لزم تاثيرها فيها, وهو يـلازم كـون الـذات حـامـلة للامكان الاستعدادي , فيخرج بحصول الغاية عن مرحلة الاستعداد الى مـرحـلـة الـفـعلية , فيكون مركبا من مادة وصورة , وهو يلازم التركيب والتجسيم والجهة , الى غير ذلك من النواقص .

الدليل الثاني للاشاعرة :

اسـتدلت الاشاعرة على تغاير الطلب والارادة ـ لغاية اثبات الكلام النفسي في الانشاات ـ بان العصاة كـافـريـن كـانـوا ام مـسـلمين , مكلفون بما كلف به اهل الايمان , لان استحقاق العقاب فرع وجود الـتـكليف , ومن المعلوم ان التكليف الحقيقي فرع وجود مبدا مثبت له , وعندئذ يقع الكلام فيما هو المبداللتكليف , اهي الارادة ام الطلب .
فـان قيل بالاول , يلزم تفكيك مراده سبحانه عن ارادته , وهومحال , وان قيل بالثاني فهو المطلوب فثبت ان ورا الانشائيات امرا نفسانيا باسم الطلب غير الارادة وهو المصحح لتكليف العصاة .
وقـد اجـاب عـنه المحقق الخراساني بالتفريق بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية , بان امتناع التفكيك يختص بالاولى دون الثانية .
يـلاحـظ عـلـيـه : بما ذكرنا من ان الارادة من الامور التكوينية ,ولها حكم واحد, فان كان التفكيك ممتنعا, فلا فرق حينئذ بين التكوينية والتشريعية , والا فيجوز في كلا الموردين .
والـجـواب : ان الارادة فـي جـميع المصاديق غير منفكة عن المراد,غير انه يجب تمييز المراد عن غيره , ففي غير مقام البعث تتعلق ارادته سبحانه بالايجاد والتكوين فلا شك ان تعلقها به يلازم تحقق المراد, قال سبحانه : (انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون )
((17)) .
واما في مقام البعث فتتعلق ارادته بنفس البعث والطلب وهو امر متحقق لا ينفك عنه , وقد تقدم ان ارادة الفاعل لا تتعلق الا بفعل نفسه لا بفعل غيره , لان فعل الغير خارج عن سلطانه فكيف تتعلق به ؟.
هـذه بـعض ما استدل به الاشاعرة على مغايرة الطلب والارادة , ولهم ادلة اخرى , فمن اراد فليرجع الى كتبهم الكلامية
((18)) .
هذا بعض الكلام حول اتحاد الطلب والارادة استعرضناه ليكون مقدمة لمسالة الجبر والتفويض .
اذا عـرفت هذه الامور الاربعة التي ذكرناها تحت عنوان المقدمة , اعلم ان لكل من الجبر والتفويض مباني مختلفة وهذاهو الذي سنتناوله في الفصل اللاحق :

مباني

الجبر والتفويض وابطالهما

ربـمـا يغتر الانسان ويزعم ان اختلاف المنهجين يختص بفعل الانسان وعمله , وان الاشعري يسند جـمـيـع افعال الانسان الى اللّه سبحانه دون الفاعل , والمعتزلي ينسبه الى نفس الفاعل الاختياري دون اللّه سبحانه , ولكن التحقيق ان كلا القولين مبنيان على منهجين مختلفين في عامة العلل .
فـالاشـعـري لا يعترف بمؤثر في دار الوجود غيره سبحانه ,ويعتقد بانه المؤثر التام وليس لغيره من الـعـلـل اي دور فـيه ,وعلى ذلك ينسب شروق الشمس ونور القمر وبرودة الماواحراق النار الى اللّه سبحانه وانه جرت عادته على خلق الاثاربعد خلق موضوعاتها ولا صلة بينها وبين آثارها لا استقلالا ولاتبعا.
وعـلـى ذلـك الـمنهج انكر قانون العلية والمعلولية في عالم الامكان واعترف بعلة واحدة , وهو اللّه سـبحانه , حتى صرحوابان استنتاج الاقيسة من باب العادة والاتفاق , فاذا قال القائل :الانسان حيوان وكـل حـيـوان جـسـم , فلا ينتج قولنا كل انسان جسم الا بسبب جريان عادته سبحانه على حصول النتيجة عندحصول المقدمات فلولاها لما انتج .
وفـي مـقـابل هذا المنهج منهج المفوضة , الذين هم على جانب النقيض من عقيدة الاشاعرة حيث اعـترفوا بقانون العلية والمعلولية بين الاشيا لكن على نحو التفويض , بمعنى انه سبحانه خلق الاشيا وفوض تاثيرها الى نفسها من دون ان يكون له سبحانه دور في تاثير العلل والاسباب .
وبـعبارة اخرى : هذه الموضوعات والعلل الظاهرية ,مستقلا ت في الايجاد غير مستندات في تاثيرها الى مبدا آخر,واللّه سبحانه بعدما خلقها وافاض الوجود عليها انتهت ربوبيته بالنسبة الى الاشيا, فهي بنفسها مديرة مدبرة مؤثرة .
ان الاشعري انما ذهب الى ما ذهب , لحفظ اصل توحيدي هو التوحيد في الخالقية , فبما انه لا خالق الا اللّه سبحانه لذااستنتج منه انه لا مؤثر اصليا ولا ظليا ولا تبعيا الا هو.
ولكن المعتزلي اخذ بمبدا العدل في اللّه سبحانه , وزعم ان اسناد افعال العباد الى اللّه سبحانه ينافي عدله وحكمته , فحكم بانقطاع الصلة وان الموجودات مفوض اليها في مقام العمل .
فالمنهج الاول ينتج الجبر والثاني ينتج التفويض , والحق بطلان كلا المنهجين واليك ابطال منهج التفويض اولا, ثم منهج الجبر ثانيا.

ابطال التفويض :

ان نـظرية التفويض , عبارة عن ان كل ظاهرة طبيعية بل كل موجود امكاني سوا اكان ماديا ام غيره محتاج في وجوده وتحققه الى الواجب دون افعاله وتاثيره في معاليله , بل هو في مقام التاثير مستغن عن الواجب ومستقل في التاثير.
اقول : هذه هي نظرية التفويض على وجه الايجاز وهي مردودة لوجهين :
الاول : انـه مـن الـمقرر في محله ((ان الشي ما لم يجب لم يوجد)) والمراد من الوجوب هو انسداد جميع ابواب العدم على وجهه بحيث يكون احد النقيضين (العدم ) ممتنعاوالنقيض الاخر واجبا فما لـم يـصـل الـمـعـلـول الـى هذا الحد, لايرى نور الوجود, كما لو افترضنا ان علة الشي مركبة من اجزاخمسة , فوجود المعلول رهن وجود جميع هذه الاحزا, كماان عدمه رهن فقدان واحد منها وان وجدت سائر الاجزا,ففقدان كل جز مع وجود سائر الاجزا يفتح الطريق امام طرؤالعدم الى المعلول فـلا يـوجد الا بسد جميع الاعدام الخمسة الطارئة على الشي , وهذا ما يقال : ((الشي ما لم يجب لم يوجد)).
اذا عـرفـت ذلك فنقول : ان استقلال الشي في الفاعلية والايجاد انما يصح اذا كان سد جميع ابواب الـعـدم الطارئة على المعلول , مستندا الى نفس الشي والا فلا يستقل ذلك الشي في التاثير, وليس الـمـقـام مـن هـذا الـقبيل لانه لا يستند سد جميع ابواب العدم الى الفاعل وذلك لان منها انعدام الـمعلول بانعدام الفاعل وسد طرؤ هذا العدم على المعلول مستند الى اللّه سبحانه لانه قائم به , فهو مـحـتـاج الـيـه حـدوثـا وبـقـا, ومـع عـدم استناد بعض اجزا العلة الى نفسها كيف يكون في مقام التاثيرمستقلا؟.
والـحـاصـل : انه لو قلنا باستقلاله في الايجاد, فلازمه ان يكون مستقلا في الوجود وهو عين انقلاب الممكن الى الواجب .
وربـمـا يـتصور ان الفاعل بعد الوجود مستغن عن اللّه سبحانه فيكون مستقلا في الفعل , تشبيها له سبحانه بالبنا وفعله , فكماان البنا مستغن عن البنا بعد الايجاد فكذلك الانسان مستغن عن اللّه بعد الـتـكـويـن , ولـكـن التشبيه باطل فان البنا علة لحركات يده ورجله واما صورة البنا وبقائها, فهي مستندة الى القوى المادية الموجودة في المواد الاساسية التي تشكل التماسك والارتباط الوثيق بين اجـزائه , فـيـبـقـى الـبنا بعد موت البنا,فليس البنا علة لصورة البنا ولا لبقائه , بل الصورة مستندة الـى نـفـس الاجـزا المتصورة المتلفة على الوضع الهندسي الخاص ,كما ان البقا مستند الى القوى الـطـبيعية التي توجد التماسك والارتباط بين الاجزا على وجه يعاضد بعضها بعضا, فيبقى مادامت القوى كذلك .
الثاني : ان الفاعل الالهي غير الفاعل الطبيعي وتفسيرهمابمعنى واحد, ليس على صواب .
امـا الاول , فـهو مفيض الوجود وواهب الصور الجوهرية من كتم العدم , ومثله الاعلى هو الواجب ثم المجردات النورية من العقول والنفوس حتى نفس الانسان بالنسبة الى افعاله في صقعها.
وامـا الـثـانـي , فهو المعد ومهيئ الشي لافاضة الصورة عليه ,فالاب فاعل مادي وطبيعي يقوم بالقا الـنـطـفـة في رحم الام ,وبعمله هذا يقرب الممكن من طرؤ الصور النوعية عليه حتى تتحرك من مرحلة الى اخرى , الى ان تصلح لان تفاض عليهاالصورة الانسانية المجردة .
ان عدم التمييز بين الفاعلين انجر الى الوقوع في اخطافادحة , فالمادي بما انه لا يؤمن بعالم الغيب , يـرى الفواعل الطبيعية كافية لخلق الصور الجوهرية الطارئة على المادة ,ولكنه لم يفرق بين واهب الصور, ومعد المادة , وقس على ذلك سائر العلل الطبيعية .
اذا عـلـمـت ذلـك فنقول : ان المجعول في دار الامكان هوالوجود وهو اثر جعل الجاعل وهو متدل بـالفاعل بتمام هويته ,وحيثيته , بحيث لا يملك واقعية سوى التعلق والربط بموجده ,وليس له شان سوى الحاجة والفقر والتعلق , على نحو يكون الفقر عين ذاته والتدلي عين حقيقته , لا امرا زائدا على ذاتـه , والا يـلـزم ان يكون في حد ذاته غنيا, ثم صار محتاجا وهو عين الانقلاب الباطل بالضرورة اذ كيف يتصور ان ينقلب الغني بالذات الى الفقير بالعرض .
اذا عـرفـت ذلـك فاعلم ان الانسان مخلوق للّه ومعلول له فقيرفي حد ذاته وكيانه , وما هذا شانه لا يـستغني في شؤونه وافعاله عن الواجب سبحانه , اذ لو استغنى في مقام الخلق والايجاد يلزم انقلاب الفقير بالذات الى الغني بالذات , لان الفقير ذاتا فقيرفعلا, والمتدلي وجودا متدل صدورا.
وان شـئت قـلـت : ان الايـجـاد فرع الوجود ولا يعقل اشرفية الفعل من الفاعل , فلو كان مستقلا في الايـجـاد لـصـار مـسـتـقلا في الوجود, فالقول بان ممكن الوجود مستقل في فعله , يستلزم انقلاب الممكن بالذات الى الواجب بالذات وهو محال , قال سبحانه : (يا ايها الناس انتم الفقرا الى اللّه واللّه هو الغني الحميد)
((19)) .
وقـال سـبحانه : (يا ايها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ان الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولـو اجـتـمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب # ما قدروااللّه حق قدره ان اللّه لقوي عزيز)
((20)) .
فتلخص من هذين البرهانين بطلان القول بالتفويض ومادة البرهان في الاول غيرها في الثاني .
فـان الاول , يـعتمد على ان المعلول لا يوجد الا بعد الايجاب وليس الايجاب شان الممكن , لان من طرق تطرق العدم الى الممكن هو عدم الفاعل وليس سد هذا العدم بيد الفاعل .
وامـا الـثـانـي , فيعتمد على ان ما سوى اللّه فقير في ذاته قائم به قيام الربط بذيه والمعنى الحرفي بـالـمـعـنى الاسمي , والفقر ذاته والحاجة كيانه , وما كان كذلك لا يمكن ان يكون مستقلا في مقام الايجاد والا يلزم انقلاب الممكن الى الواجب , وهو باطل بالضرورة .

الكلام في ابطال الجبر

قد تبين بطلان التفويض , وحان حين البحث في ابطال الجبر.

البرهان الاول لابطال الجبر

وهذا البرهان يتالف من عدة مقدمات هي كالتالي :

1 اصالة الوجود

ان الاصل في التحقق هو الوجود دون الماهية , لان الوجودبما هو هو يابى عن العدم , بخلاف الماهية فان حيثيتها حيثية عدم الابا عن الوجود والعدم , فاذا كان هذا حالهما فكيف يمكن ان يكون الاصيل هو الماهية ؟.
وان شـئت قلت : اتفق الحكما على ان الاصل في الواجب هو الوجود, ولكنهم اختلفوا فيما هو الاصل فـي غـيـر الـواجـب ,فـهـل الـمـجـعـول والـصادر منه , هو الوجود او الحدود القائمة به ,فالانسان الخارجي يتركب عقلا من وجود وحد له , وهو انه حيوان ناطق , فهل الصادر هو الوجود, والماهية من لوازم مرتبته , او المجعول هي الحدود بمعنى افاضة العينية لها ثم ينتزع منه الوجود والتحقق ؟.
والـتـحقيق هو الاول , لان الحدود قبل التحقق , والوجودامور عدمية ليس لها اي شان , وانما تكون ذات شان بعد افاضة الوجود عليها, فحينئذ يكون الوجود هو الاولى ,بالاصالة .
وبـعـبـارة اخـرى : افـاضة الوجود على ترتيب الاسباب والمسببات تلازم اقتران الوجود مع حد من الـحـدود الجسمية او المعدنية او النباتية او الحيوانية او الانسانية , فالحدودمجعولة بالعرض ضمن جعل الوجود.

2 بساطة الوجود

مـن الاجـزا العينية وقد برهنواعلى البساطة بما هذا حاصله : لو كان الوجود مؤلفا من جنس وفصل لـكـان جنسه اما حقيقة الوجود, او ماهية اخرى معروضة للوجود, فعلى الاول يلزم ان يكون الفصل مفيدا لمعنى ذات الجنس فكان الفصل المقسم مقوما وهذا خلف .
وعـلـى الـثـانـي : يـكـون حـقـيـقـة الوجود اما الفصل او شيئا آخروعلى كلا التقديرين يلزم خرق الـفرض
((21)) كما لا يخفى , لان الطبائع المحمولة متحدة بحسب الوجود مختلفة بحسب المعنى والمفهوم , والامر هنا ليس كذلك ((22)) .
وقد اقاموا براهين على البساطة طوينا الكلام عنها.

3 وحدة حقيقة الوجود

ان الـوجـود فـي الـواجـب والـممكن في عامة مراتبه , ليس حقائق متباينة مختلفة بحيث لا جهة اشـتـراك بينهما وان اصرعليه المشاؤون , بل هو حقيقة واحدة يعبر عنها بالابا عن العدم وطارديته لـه , وعـلـى ذلـك فـالـوجـود في عامة تجلياته حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة بالشدة والضعف والتقدم والتاخر.
وبرهانه :
هـو امتناع انتزاع مفهوم واحد من اشيا متخالفة بما هي متخالفة من دون جهة وحدة بينها والا لزم ان يكون الواحدكثيرا, لان المحكي بالمفهوم الواحد هي هذه الكثرات المتكثرة من دون وجود وجه اشتراك بينها, فكيف يكون الحاكي واحداوالمحكي متكثرا؟.
ثـم ان لازم كون الوجود بسيطا وله حقيقة واحدة , هو ان يكون الشدة والضعف عين تلك المرتبة لا شيئا زائدا عليها,فالوجود الشديد هو الوجود, لا المركب من الوجود وشدته ,كما ان الوجود الضعيف نفس الوجود لا انه مركب من وجودوضعف .
اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم انه اذا كانت حقيقة الوجود في كل مرتبة هو ان تكون المرتبة نفس حقيقته لا شـيـئا عارضا عليه ,وعليه يكون كل وجود في مرتبة لاحقة , متعلقا بالمرتبة السابقة غير متجافية عنها على وجه لو تخلى عن مرتبته , يلزم الانقلاب الذاتي المحال .
وبـعـبـارة اخـرى : اذا كانت درجة الوجود تشكل في كل مرتبة من المراتب واقع وجودها فلا يمكن اسناد جميع المراتب الى اللّه سبحانه والقول بانه قام بايجادها مباشرة بلا توسطالاسباب , لان معنى ذلـك عـدم كـون الـمـرتبة مقومة لحقيقة الوجود فيها وقد عرفت خلافه , فهذا البرهان يجرنا الى الـقـول بان الوجود في كل درجة ومرتبة مؤثر في المرتبة اللا حقة وان كان تاثير كل باذنه سبحانه , والجميع يستمد منه سبحانه اما بلاواسطة كالصادر الاول او مع الوسائط كسائر الصوادر.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دراسة متون الروايات
حكم الوقف عند السنة
البدعة باختصار
عدم التناسخ بين النفس والبدن
إثبات قدمه تعالى و امتناع الزوال عليه
المخالفون والولاية التكوينية الإعتقادبها ولكن ...
الإمامة ومهمة بيان الدين بعد النبي
الوجاهة عند الله
برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة
موقف الخلافة من المصحف العلوي ومصيره بعد ذلك

 
user comment