إذا قلت: اللّهمّ إنّی توسّلت إلیک بجاه فلان، لنبی أو صالح فهذا أیضاً مما ینبغی أن لا یحصل بجوازه خلاف، لأنّ الجاه لیس له ذات المتوسّل به بل مکانته ومرتبته عند الله وهی حصیلة الأعمال الصالحة لأنّ الله تعالى قال عن موسى ـ علیه الصلاة والسلام ـ { یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَکَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِیهًا }(1) وقال عن عیسى ـ علیه الصلاة والسلام ـ { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِکَةُ یَا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَى ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهًا فِی الدُّنْیَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِینَ } (2) فلا ینکر على من یتوسّل بالجاه إذا کنّا منصفین، لأنّه لا یحتمل نسبة التأثیر إلى المتوسّل به إذ لیس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه ومکانته عند الله لا غیر.
وقال أیضاً فی قصة استسقاء الخلیفة بالعباس: " إنّ عمر لم یقل والیوم نستسقی بالعباس بن عبد المطلب بل قال: بالعباس عمّ نبیّک، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) المیّت وهذا اعتراف بأنّ جاه النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) بعد موته ما زال باقیاً حتى سرى إلى عمّه العباس.
ونحن نضیف إلى ذلک: أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن لمکانته عند الله ومنزلته لدیه وهو کلام الله الصامت، فالتوسّل بالنبی الأکرم وهوکلام الله الناطق بطریق أولى.
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): ( اقترف آدم الخطیئة قال: ربّی أسألک بحقّ محمّد لما غفرتَ لی، فقال الله عزّ وجلّ: یا آدم، کیف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: لأنّک یا ربّ لمّا خلقتنی بیدک ونفخت فیّ من روحک رفعت رأسی فرأیت على قوائم العرش مکتوباً: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فعلمت أنّک لم تُضِفْ إلى اسمک إلاّ أحبّ الخلق إلیک، فقال الله عزَّ وجلّ: صدقت یا آدم. إنّه لأحبّ الخلق إلیَّ وإذا سألتنی بحقّه فقد غفرت لک، ولولا محمّد لما خلقتک )(3).
یقع الکلام فی سند الحدیث أوّلا ومتنه ثانیاً.
أمّا الأوّل: فرجاله ثقاة، نعم وقع الکلام فی واحد منهم وهو عبد الرحمن بن زید بن أسلم، فقد قال البیهقی: وهو ضعیف، ولکن الحاکم صحّح الحدیث على شرط الشیخین، ولو قلنا بأنّه لا یعتمد على تصحیح الحاکم وحده فتکون الروایة مؤیّدة، إذ لیس معنى کون الراوی ضعیفاً أن الروایة مکذوبة.
وهناک نکتة أشرنا إلیها سابقاً، وهی أن لو کان التوسّل بشخص النبی أمراً منکراً بین المسلمین لما تجرّأ الواضع بوضع الحدیث الذی یتضمّن ذلک الأمر المنکر، لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى کلامه وتسلیمهم بالروایة، وهذا لا یجتمع مع کون المضمون أمراً مخالفاً لما علیه المسلمون فی ظرف النقل، وبذلک یُعلم أنّ الروایة سواء أکانت صحیحة أم لا، تُثْبت ما بیّناه فی جواز التوسّل بذات النبی. نعم هنا شبهات حول الروایة، تجب الإجابة عنها:
الشبهة الأُولى :
إنّ الحدیث یتضمّن الإقسام على الله بمخلوقاته، فالإقسام على الله بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقین لا یجوز، لأنّ حلف المخلوق على مخلوق حرام، فالحلف على الله بمخلوقاته من باب أولى.
یلاحظ علیه: أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على الله بمخلوقاته عن طریق أنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، مردود جداً، لأنّ القرآن ملیء بالحلف بمخلوق على المخلوق، قال سبحانه:{ والتین والزیتون / وطور سینین / وهذا البلد الأمین } (4).
{ واللیل إذا یغشى / والنهار إذا تجلّى } (5).
{ والفجر / ولیال عشر / والشفع والوتر / واللیل إذا یسر } (6).
ففی هذه الآیات حلف بمخلوق على مخلوق، والحالف هو الله والمحلوف به هو هذه الموجودات والمحلوف علیه هم الناس أو المسلمون قاطبة.
فلو کان الحلف بمخلوق على مخلوق أمراً خطیراً وبمقربة من الشرک أو هو نفسه کما یقوله بعض الناس،لما حلف به سبحانه، لأنّ ماهیة العمل إذا کانت ماهیة شرکیة، فلا یفرق بینه وبین عباده کما أنّه إذا کانت ماهیة الشیء ظلماً وتجاوزاً على البریء، فالله وعباده فیه سیّان، قال الله تعالى: { قل إنّ الله لا یأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تفعلون } (7).
إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرین: إمّا للدعوة إلى التدبّر والدقة فی صنعها والنوامیس السائدة علیها واللطائف الموجودة فیها، أو لإظهار عظمة المحلوف به وکرامته عند الله کما هو الحال فی حلفه سبحانه بحیاة النبی، قال: { لعمرُک إنّهم لفی سکرتهم یعمهون } (8).
ولا عتب علینا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبویّة، فقد جاءت فیها موارد قد ورد فیها الحلف بخلوق على مخلوق، نکتفی بما رواه مسلم فی صحیحه، وما ظنّک بروایة مسلم فی جامعه!
1 ـ روى مسلم فی صحیحه:
( جاء رجل إلى النبی فقال: یا رسول الله أیّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وأبیک لَتُنَبَّأنَّهُ: أن تَصَدَّق وأنت صحیح شحیح، تخشى الفقر وتأمل البقاء )(9).
2 ـ روى مسلم أیضاً:
( وجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) ـ من نجد ـ یسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات فی الیوم واللیل.
فقال: هل علیّ غیرهنّ؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وصیام شهر رمضان.
فقال: هل علیّ غیره؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وذکر له رسول الله الزکاة.
فقال الرجل: هل علیَّ غیرها؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع.
فأدبر الرجل وهو یقول: لا أزید على هذا ولا أنقص.
فقال رسول الله: أفلح وأبیه(10) أن صدق.
أو قال: دخل الجنة ـ وأبیه ـ أن صدق "(11).
فإذ بطل الأصل: حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق، بطل ما بُنی علیه من حرمة الإقسام على الله بحقّ مخلوقه.
إلى هنا تمّ بیان أنّ الشبهة شبهة غیر صحیحة، وإنّما دعا القائل إلى التمسّک بها لدعم رأیه المسبق.
الشبهة الثانیة:
إنّ الحوار الوارد فی الحدیث کان بعد اقتران الخطیئة ولکنّه قبل أن یخطأ، علّمه الله الأسماء کلّها، ومن جملة الأسماء اسم محمد وعَلِم أنّه نبیّ ورسول وأنّه خیر الخلق أجمعین، فکان أحرى أن یقول آدم: ربّی إنّک أعلمتنی به أنّه کذلک لما علّمتنی الأسماء کلّها.
نقول على هامش الشبهة: إنّ ردّ السنّة الشریفة بمثل هذه التشکیکات، جرأة علیها إذ أیّ مانع أن یکون هنا عِلْمَین: علم جزئی وقف علیه عندما فتح عینیه على الحیاة فی الجنّة، وعلم واسع علّمه سبحانه بعد ذلک الظرف، عندما أراد سبحانه إثبات کرامته على الملائکة.
إنّ هذا النوع من التشکیک یستمد من إثبات الرأی والصمود على العقیدة وإن کان الحدیث على خلافها.
وهناک نکتتان ننبّه علیهما:
الأُولى: إنّ أحادیث التوسّل وإن کانت تتراوح بین الصحیح والحسن والضعیف، لکن المجموع یعرف عن تضافر المضمون وتواتره، فعند ذلک تسقط المناقشة فی اسنادها بعد ملاحظة ورود کمیة کبیرة من الأحادیث فی هذا المجال، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروایات، وما یوافیک تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.
الثانیة: نحن نفترض أنّ الحدیث الراهن مجعول موضوع، ولکنّه یعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق والإقسام على الله بمخلوقاته لیس شرکاً ولا ذریعة إلیه، بل ولا حراماً.
وذلک لأنّه لو کان شرکاً وذریعة إلیه أو حراماً، لما رواه الثقاة واحد عن واحد، وهم أعرف بموازین الشرک ومعاییره، ولما أورده الأکابر من العلماء فی المعاجم الحدیثة، کالبیهقی فی دلائل النبوة والحاکم فی مستدرکه، والسیوطی فی تفسیره، والطبرانی فی المعجم الصغیر، وأکابر المفسّرین فی القرون الغابرة، لأنّ الشرک أمر بیّن الغی، فلا معنى ولا مسوغ لنقله بحجة أنّه روایة.
فکل ذلک یعرب عن الفکرة الخاطئة فی الحکم على الحلف على الله بمخلوقاته شرکاً.
المصادر :
1- الاحزاب /69
2- آل عمران /45
3- 1- البیهقی: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشریعة، لأبی بکر أحمد بن حسن البیهقی (ت384 ـ 458 هـ) طبع دار الکتب العلمیة بیروت: 5/489 ولاحظ الدر المنثور: 1/59 ونقله کثیر من المفسرین فی قصة توبة آدم.
4- التین/1 ـ 3
5- اللیل/1 ـ 2
6- الفجر/1 ـ 4
7- الأعراف/28
8- الحجر/72
9- صحیح مسلم: 3/94 کتاب الزکاة، باب أفضل الصدقة.
10- أی حلفاً بأبیه، فالواو للقسم.
11- صحیح مسلم ج 1، باب ما هو الاسلام: 32.
source : rasekhoon