الكاتب : آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي ( دام ظله )
مشروعية الاستخارة و أنها ليست من الاستقسام بالأزلام
مقال علمي شيق لآية الله العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي ( دام ظله ) يتناول بيان أنواع الاستخارة و الحكم الشرعي فيها ، و دفع الشبهة عنها من أنها من الاستقسام بالأزلام المنهي عنه في القرآن الكريم ، و هو في الحقيقة نقد علمي على ما كتبه الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر سابقاً .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله الأمين الذي ترك في اُمّته ما إن تمسكوا به لن يَضلّوا أبدا ، كتاب اللّه ، و عترته أهل بيته صلى الله عليه و على آله الطاهرين .
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [1]
قرأت في ( رسالة الإسلام ) [2] التي تُصدرها دار التقريب بالقاهرة جزءاً في تفسير القرآن الكريم للأستاذ الشهير ( الشيخ محمود شلتوت ) [3] ، و وقفت فيه على ما كتب حول تفسير هذه الآية الكريمة و قوله تعالى ( وَأن تَسْتَقْسِموا بِالأزلام ) ، و ما اختاره فيه . و قد ألحق فيما ألحق بالاستقسام بالأزلام [4] ، من الطرق بالحَصَى و ضرب الفول و الرمل ، الاستخارةَ من اللّه تعالى بالقرآن الكريم ، و حَبات السبحة المأثورة من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و زعم أن كل ذلك ينافي احتفاظ الإنسان بعقله ، و أن القرآن المجيد يصير بذلك و العياذ باللّه أداة الشعوذة .
و لا يخفى عليك أنه إنما قال ما قال ، لأنه لم يتحصل أولا معنى الاستقسام بالأزلام ، و ثانياً لم يتفهم حقيقة الاستخارة ، و أنها لم ترد في مورد استقل العقل بحسن فعله أو تركه ، أو حكم الشرع برجحان فعله أو تركه ، و لا تنافي كرامة القرآن المجيد و كونه كتاب الهدايه و الإرشاد بالتي هي أقوم ، كما أنه لا ينافي ذلك التبرك به و بآياته ، و قرائته لأجل الثواب ، و حصول بعض المقاصد كشفاء الأمراض مما هو مجرب و مأثور في الأحاديث الكثيرة المتواترة .
غير أن التأثر بالثقافة المادية المسيطرة على الأفهام و المشاعر ، يريد أن لا يقبل تأثير عالم الغيب في عالَم الشهادة ، و يريد أن لا يؤمن بعلل غير مادية و تأثيرات غيبية ، فينكر أثر التوكل و التفويض و الدعاء و الصدقة . و لذا ترى بعضهم يُنكرون معجزات الأنبياء ، و ما صدر منهم من خرق العادات في عالم المادة ، كقلب العصا بالثُعبان ، و معجزة صالح ، و حوت يونُس ، و إحياء الموتى ، و إبراء الأكمه و الأبرص ، و نصرة النبي ( صلى الله عليه و آله ) بالملائكة .
و من لا يُنكر ذلك منهم يؤوله ، و يرى الإيمان به ضرباً من الإيمان بالخرافات ، و يعد إنكاره نوعاً من الثقافة . و فتح باب ذلك في الكتاب و السنة ، يقلب الشريعة ظهراً لبطن ـ أعاذنا اللّه من شر هذه الثقافات ـ .
و في الاستخارات المأثورة التي هي ليست إلا مظهراً من مظاهر الإيمان باللّه و طلب الخير أو معرفته منه أيضاً يتبعون هذه الثقافة التي ليست من التفكير الإسلامي بشيء ، فينكرونها ، و يلحقونها تارة بأفعال المشركين و عاداتهم ، و تارة بما لم يرد فيه حديث و رواية ، و لم يثبت شرعيته من جانب الشرع .
هذا ! و لزيادة البحث حول تفسير هذه الجملة الشريفة القرآنية " وَأن تَسْتَقْسِموا بِالأزلام " نذكر كلام الشيخ المذكور ، ثم نتكلم حول تفسيرها بحول اللّه و قوته .
قال الشيخ محمود شلتوت : " و يلحق بهذا النوع الذي حرمه اللّه على الإنسان احتفاظاً بعقله ، ما يشبه من وسائل الاستقسام التي يعتادها الناس اليوم كالطرق بالحصى ، و ضرب الفول و الرمل ، و الاستخارة بحبات السبحة ، و من أقبح أنواع الاستخارة الاستخارة بالقرآن الكريم الذي جرت به عادة بعض المسلمين ، و صار شأناً معروفاً حتى عند أهل العلم و الدين ، و ما كان اللّه ليرضى أن يكون كتاب هدايته و إرشاده بالتي هي أقوم في الحياة العقلية و الروحية و العملية ، أداة الشعوذة أو لعبة يد عابث أو مضلل أو محتال " .
أقول : في تفسير الاستقسام بالأزلام أقوال :
القول الأول : أن المراد بالاستقسام بالأزلام ، طلب معرفة الخير و الشر ، و ما قسم في مستقبل الحياة و استعلامها ، من عند الأصنام . و علل بعضهم حرمة ذلك على تضمنه العقيدة بالأصنام ، و رده بعضهم بأن ذلك لم يكن في جميع الأحوال عند الأصنام ، فربما كان مع الرجل زلمان ، يستقسم بهما إذا شاء . و يرد ذلك بأن هذا لا ينافي كون العلة تكريم الأصنام ، فإن الظاهر أن الأصل في ذلك عندهم أن يكون عند الأصنام ، و عند تعذر الحضور في بيت الصنم يستقسم بما معه من الأزلام ، كما أن الظاهر أن هذا ليس من العلة المنحصرة ، فيمكن أن يكون لحرمته علل اُخرى .
و كيف كان ، قال في لسان العرب ( قال الأزهري ) : الاستقسام مذكور في موضعه ، و الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر و نهي ، و افعل و لا تفعل ، قد زلمت و سويت و وضعت في الكعبة ، يقوم بها سدنة البيت . فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحا ، أتى السادن ، فقال : أخرج لي زلما . فيخرجه و ينظر إليه ، فإذا خرج قدح الأمر ، مضى على ما عزم عليه ، و إن خرج قدح النهي ، قعد عما أراده ، و ربما كان مع الرجل زلمان ، و ضعهما في قرابه ، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما ) .
و قال أبو البقاء في تفسيره : " كانت سبعة عند سادن الكعبة ، عليها أعلام ، كانوا يحكمونها ( يجيلونها ـ خ ل ) ، فإن أمرتهم ائتمروا ، و إن نهتهم انتهوا " .
و روى الطبري في تفسيره عن ابن إسحاق ، قال : كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة ، و كانت في بئر في جوف الكعبة ، و كانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة . و كانت عند هُبل سبعة أقداح ، كل قدح منها فيه كتاب ـ إلى أن قال : ـ كانوا إذا أرادوا أن يجيبوا غلاما ، أو أن ينكحوا منكحا ، أو أن يدفنوا ميتا ، أو يشكّوا في نسب واحد منهم ، ذهبوا به إلى هبل بمأة درهم و بجزور ، فأعطاها صاحب القداح الذي يضربها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان ، قد أردنا به كذا و كذا ، فاخرج الحق فيه ، الخ .
و هذا كما ترى يدل على عدم انحصار الاستقسام بالأزلام بمعرفة الخير و الشر ، بل يعمها و معرفة الحق عند اختلافهم فكأنهم يُحكِّمونها أو يُحكِّمون الصنم الذي يستقسمون بالأزلام عنده .
و قال القفال : ذكر هذا في جملة المطاعم ، لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية ، و كان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم ، و ذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت ، و كذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك .
و قال بعضهم : و إنما حرّم ذلك لأنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام . و هذا القول هو اختيار جمهور كما نقل الرازي في تفسيره .
إلا أن سياق الآية يأبى عن ذلك ، فإن الله تعالى قال في أول السورة " اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأْنْعامِ " ثم ذكر استثناء أشياء بقوله تعالى : " إلا مَا يُتْلَى عَلَيكُم " . و في هذه الآية الكريمة ذكر تلك الصورة المستثناة ، و استثناء الاستقسام على هذا التفسير من العموم المستفاد من قوله تعالى " اُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اْلأنعام " مع أنه ليس من المطاعم على هذا القول لا يستقيم ، و ذكره في جملة المطاعم أيضاً ينافي هذا القول و توجيه القفال بعيد من الظاهر .
القول الثاني : ما نقله الرازيُّ و غيره ، و قال : إنه قول المؤرج وكثير من أهل اللغة ، و هو أن الاستقسام هو الميسر المنهي عنه ، و الأزلام ، قداح الميسر . و إلى هذا يرجع ما حُكي عن مجاهد من أنه كعاب فارس و الروم التي كانوا يتقامرون بها ، و ما حُكي عن أبي سفيان بن وكيع من أنه هو الشطرنج .
و هذا القول إن كان راجعاً إلى أن الاستقسام هو من افراد الميسر المنهي عنه ، يرجع إلى القول الثالث المروى عن أهل البيت الطاهرة ( عليهم السلام ) ، و إن كان المراد منه تفسير الاستقسام بمطلق الميسر ، يرده السياق و الظاهر ، كما رددنا به القول الأول . نعم تفسير الأزلام بقداح الميسر و بما يتقامرون به لا ينافي هذا السياق .
القول الثالث : و هو القول الحق لأنه مروي عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين جعلهم النبي ( صلى الله عليه و آله ) عِدلاً للقرآن ، و قال : " إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض " .
و هذا القول كما في ( مجمع البيان ) و غيره ، روي عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين ، و ابنه جعفر بن محمد الصادق ( عليهم السلام ) ، و هو ( إن الأزلام عشرة ، سبعة لها انصباء [5] ، و ثلاثة لا انصباء لها ، و كانوا يعمدون إلى الجزور [6] فيجزؤونه أجزاءا ، ثم يجتمعون عليه ، فيخرجون السهام و يدفعونها إلى رجل ، و ثمن الجزور على من تخرج له التي لا انصباء لها ، و هو القمار ، فحرمه اللّه تعالى ) .
و ذكر هذا القول ، أبو السعود في تفسيره إلا أنه ترك التنويه بذكر قائله ( عليه السلام ) ، فقال : و قيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الانصباء المعهودة . و ذكره البيضاوي و السيوطي و غيرهما .
و قال الآلوسي في ( روح المعاني ) : و قيل المراد بالاستقسام بالأزلام ، استقسام الجزور بالأقداح على الانصباء المعلومة ، أي طلب قسم من الجزور أو ما قسم الله تعالى منه ، و هذا هو الميسر و قد تقدم ذلك . و روى علي بن إبراهيم عن الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم ، و رجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام إنتهى كلام الآلوسي .
و هذا القول ، هو القول الموافق لسياق الآية و ما قبلها من الآيات .
و من هذا القول يعرف المنصف أن الأمة لو تمسكوا بالكتاب و العترة ، و أخذوا العلم من أهله ، و اتبعوا هدى أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أمنوا من الضلال و الاختلاف و من القول بغير علم و تفسير القرآن بالرأي ، و يعرف أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) لم يأمر الاُمة بالرجوع إلى أهل بيته إلا لفضائل اختصهم اللّه بها ، و لأن اللّه تعالى أمره بذلك .
و قد فسر الزمان سر ذلك ، فصدر منهم في المعارف الإسلامية و العلوم الحقيقية من التوحيد و التفسير و الفقه و الحديث و الأخلاق و الآداب و شرح معالم الإنسانية ، ما لم يصدر عن أحد بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) ، قد اعترف بذلك الموافق و المخالف .
ثم إن من جميع ذلك يظهر أن لا وجه لإلحاق الاستخارة بالقرآن المجيد و بحبات السبحة ، بالاستقسام بالأزلام لوجود الفرق بين الاستقسام بالأزلام و بين الاستخارة . فإن حقيقة الاستقسام على القول الأول الذي ظهر لك ضعفه ، يرجع إلى الشرك ، و استعلام ما يكون في المستقبل ، و طلب معرفة الخير و الشر من الأصنام . و الاستخارة حقيقتها ، الدعاء ، و طلب الحاجة ، و معرفة الخير من اللّه تعالى علام الغيوب .
و الفرق بينهما ، هو الفرق بين الشرك و التوحيد ، مع أنه ليس في الاستخارة طلب معرفة ما يقع في مستقبل الحياة مثل الموت و المرض و وجدان الضالة و غيرها مما يكون مآله طلب معرفة الغيوب .
و إنما يستفاد منها إذا كان مؤداها الخير ، أن الأمر كيف وقع ، و وقع أم لم يقع ، يكون فيه الخير ، و أن ما يقع هو أصلح الأمرين أو الاُمور . و مثل هذا إنما يؤثر في الإقدام على الفعل أو تركه ، و لهذا ورد النهي عن التفأل بالقرآن دون الاستخارة به . فإن التفأل إنما يكون فيما سيقع كشفاء المريض و قدوم المسافر و غيرهما ، بخلاف الاستخارة ، فإنها طلب لمعرفة الرشد و ما فيه الخيرة .
فعلى هذا ، الاستخارة بالقرآن الكريم و بالسبحة ، ليست مخالفة للكتاب ، و لا مانعاً من هدايته و إرشاده للتي هي أقوم ، و لو قلنا بالقول الأول في تفسير الاستقسام . و أما بحسب القول الثاني و الثالث ، فلا ارتباط بين الاستقسام و الاستخارة أصلا ، و لا وجه لإلحاقها به .
و بعد ذلك ، فلا بأس بذكر بعض ما ورد في الاستخارة من الأحاديث فنقول : دلت الروايات من طرق العامة على استحباب الاستخارة و مطلوبيتها :
فمنها : ما أخرجه أحمد و البخاري و غيرهما من أرباب السنن و المسانيد عن جابر بن عبد اللّه ، قال : كان رسول اللّه يعلمنا الاستخارة في الاُمور كلها كالسورة من القرآن ، يقول : " إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : أللهم إني أستخيرك بعلمك ، و أستقدرك بقدرتك " الحديث .
و منها : ما أخرجه أحمد في مسنده : 1 / 168 ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) : " من سعادة ابن آدم ، استخارته اللّه ، و من سعادة ابن آدم ، رضاه بما قضاه اللّه ، و من شقوة ابن آدم ، تركه استخارة اللّه ، و من شقوة ابن آدم ، سخطه بما قضى اللّه عزَّ وَ جلَّ " .
و عن انس بن مالك ، لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، قال : كان رجل ملحد ( يلحد ) ، و آخر يضرح [7] ، فقالوا : نستخير ربنا . فبعث ( فنبعث ) إليهما ، فأيهما سبق تركناه . فأرسل إليهما ، فسبق اللّه صاحب اللحد ، فألحدوا له .
و هذا الحديث يدل على أن الاستخارة بالسبحة جائزة ، لا إشكال في جوازها .
و أما الأخبار من طرقنا ، فأكثر من أن تحصى :
فمنها : ما رواه ثقة الإسلام في ( الكافي ) بسند صحيح ، قال : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) : " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَ اسْتَخِرِ اللَّهَ فَوَ اللَّهِ مَا اسْتَخَارَ اللَّهَ مُسْلِمٌ إِلَّا خَارَ لَهُ الْبَتَّةَ " [8] .
و منها : ما روي عن البرقي في ( المحاسن ) عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قَالَ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ : مِنْ شَقَاءِ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ الْأَعْمَالَ فَلَا يَسْتَخِيرَنِي " [9] .
و منها : ما روى عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، قال : قلت له : ربما أردت الأمر ، تفرق مني فريقان ، أحدهما يأمرني ، و الآخر ينهاني . قال : فقال : " إذا كنتَ كذلك ، فصل ركعتين ، و استخر اللّه مأة مرة و مرة ، ثم انظر أجزم الأمرين لك ، فافعله ، فإن الخيرة فيه إن شاء اللّه " [10] .
و في رواية عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : " ثُمَّ انْظُرْ أَيُّ شَيْ ءٍ يَقَعُ فِي قَلْبِكَ فَاعْمَلْ بِه " [11] .
و في رواية اليسع القمي عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : " انْظُرْ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْظُرْ إِلَى شَيْ ءٍ يَقَعُ فِي قَلْبِكَ فَخُذْ بِهِ وَ افْتَحِ الْمُصْحَفَ فَانْظُرْ إِلَى أَوَّلِ مَا تَرَى فِيهِ فَخُذْ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " [12] .
و ربما يستخار لرفع التحير و طلب تعرف ما فيه الخيرة بالسبحة ، و هي أيضاً مروية في طرقنا عن الصادق ( عليه السلام ) ، و كذا بالرقاع ، و هي أيضاً مروية عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) .
و منها : ما روى عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ شَيْئاً فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لْيَحْمَدِ اللَّهَ وَ لْيُثْنِ عَلَيْهِ وَ لْيُصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ خَيْراً لِي فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ فَيَسِّرْهُ لِي وَ اقْدِرْهُ وَ إِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاصْرِفْهُ عَنِّي " ، الحديث [13] .
و منها : ما روي في ( الكافي ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ( صلوات الله عليه ) إِذَا هَمَّ بِأَمْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ عِتْقٍ تَطَهَّرَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الِاسْتِخَارَةِ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِسُورَةِ الْحَشْرِ وَ بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ يَقْرَأُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا فَرَغَ وَ هُوَ جَالِسٌ فِي دُبُرِ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وَ كَذَا خَيْراً لِي فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ وَ عَاجِلِ أَمْرِي وَ آجِلِهِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ يَسِّرْهُ لِي عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَ أَجْمَلِهَا اللَّهُمَّ وَ إِنْ كَانَ كَذَا وَ كَذَا شَرّاً لِي فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ وَ آخِرَتِي وَ عَاجِلِ أَمْرِي وَ آجِلِهِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ اصْرِفْهُ عَنِّي " [14] .
و منها : ما روي عن محمد بن خالد أنه سأل أبا عبد اللّه ( عليه السلام ) عن الاستخارة ؟
فَقَالَ : " اسْتَخِرِ اللَّهَ فِي آخِرِ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَ أَنْتَ سَاجِدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ وَ مَرَّةً " .
قَالَ : كَيْفَ أَقُولُ ؟
قَالَ : " تَقُولُ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ ، أَسْتَخِيرُ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ " [15] .
و غيرها ، مما هو مذكور في جوامع الحديث .
و لا يخفى عليك أنه يستفاد من مجموع هذه الأحاديث أن الاستخارة نوعان :
النوع الأول : مجرد طلب الخير بالدعاء ، كما دلت عليه رواية محمد بن خالد .
النوع الثاني : طلب تعرف ما فيه الخير من اللّه تعالى ، أو طلب العزم على ما فيه الخيرة ، كما دل عليه خبر اليسع القمي و أحاديث الاستخارة بالرقاع و بالقرآن المجيد و بالسبحة و حديث إسحاق بن عمار . و محل هذا النوع ، تحير المستخير في أمرين مباحين ، أو مستحبين ، بل و مكروهين إذا لم يكن طريق لمعرفة رجحان أحدهما على الآخر ، لا من الشرع و لا من العقل ، و لا من أحد يشاوره .
فإذا صار حاله كذلك ، و لم يأت منه الجزم على أحد الطرفين ، يستخير اللّه تعالى لرفع تحيره و تحصيل الجزم على أحد الطرفين ، و يعمل على مؤدي إستخارته ، و يبني على أن ذلك هو الأرجح ، كما أنه يصير أرجح أيضاً من جهة أداء استخارته إليه و كونه عملا بما خار اللّه تعالى له .
و ليكن هذا آخر كلامنا في هذا البيان ، و من أراد التوسع في ذلك ، فعليه بمراجعة جوامع الحديث و ما كتب الأصحاب حول الاستخارة و آدابها و أنواعها .
و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين .
حرره لطف اللّه الصافي الگلپايگاني
[1] القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 107 .
[2] العدد الأول من السنة الخامسة .
[3] شيخ الأزهر الأسبق ، توفى سنة 1383 . و هذا النقد كتب في حياته عندما نشر هذا العدد ، و اُرسل إليه و هذا الذي بيد قارينا العزيز هو ما اُرسل إليه مع إضافات اُضيفت إليه عند عرضه للطبع .
[4] الأزلام جمع زلم بفتح الزاء كجمل و ضمها كصرد ، و هي قداح لا ريش لها و لا نصل ، كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم و أعمالهم ، قيل مكتوب على بعضها أمرني ربي ، و على بعضها نهاني ربي ، و بعضها غفل لم يكتب عليها شي ء ، فإذا خرج ما ليس عليه شي ء أعادها ، و المراد بها في المشهور ، و دلالة الرواية عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) هو أن الأزلام : القداح العشرة المعروفة فيما بينهم في الجاهلية .
و القصة في ذلك : أنه كان يجتمع العشرة من الرجال فيشترون بعيرا فيما بينهم و ينحرونه ، و يقسمونه عشرة أجزاء و كان لهم عشرة قداح ، لها أسماء و هي الفذ و له سهم ، و التوأم و له سهمان ، و الرقيب و له ثلاثة ، و الحلس و له أربعة ، و النافس و له خمسة ، و المسبل و له ستة ، و المعلى و له سبعة ، و ثلاثة لا أنصباء لها ، و هي المنيح و السفيح و الوغد .
قال: هي فذ و توأم و رقيب ، ثم حلس و نافس ثم مسبل و المعلى و الوغد ثم منيح ، و سفيح و ذي الثلاثة تهمل .
و كانوا يجعلون القداح في خريطة ، و يضعونها على يد من يثقون به فيحركها و يدخل يده في تلك الخريطة و يخرج باسم كل قدحا ، فمن خرج له قدح من الأقداح التي لا أنصباء لها لم يأخذ شيئا و ألزم بأداء ثلث قيمة البعير، فلا يزال يخرج واحدا بعد واحد حتى يأخذ أصحاب الأنصباء السبعة أنصباءهم ، و يغرم الثلاثة الذين لا أنصباء لهم ، قيمة البعير ، و هو القمار الذي حرم الله تعالى فقال : " و أن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق " يعني حراما .
و معنى الاستقسام بالأزلام : طلب معرفة ما يقسم لهم بها . مجمع البحرين : 6 / 80 .
[5] الأنصباء : العلائم ، و منه حديث القداح العشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها . مجمع البحرين : 3 / 174 .
[6] في الحديث ذكر الجزور بالفتح ، و هي من الإبل خاصة ما كمل خمس سنين و دخل في السادسة ، يقع على الذكر و الأنثى و الجمع جزر كرسول و رسل ، يقال جزرت الجزور من باب قتل أي نحرتها ، و الفاعل جزار بالتشديد ، و الحرفة الجزارة بالكسر . مجمع البحرين : 3 / 246 .
[7] الضرح : حفرك الضريح للميت و هو قبر بلا لحد ، ضرحت له .
و الضرح: الرمي بالشي ء . كتاب العين : 3 / 103 .
[8] الكافي : 3 / 470 .
[9] وسائل الشيعة : 8 / 79 .
[10] البلد الأمين : 159 .
[11] الكافي : 3 / 471 .
[12] تهذيب الأحكام : 3 / 310 .
[13] الكافي : 3 / 472 .
[14] الكافي : 3 / 470 .
[15] من لا يحضره الفقيه : 1 / 562
source : الشيخ لطف الله الصافي