عربي
Monday 22nd of July 2024
0
نفر 0

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والذكريات الاسلامية

ج : الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والذكريات الاسلامية :

تظافرت الادلة الشرعية على ضرورة احترام شخصية الرسول الاكرم (ص ) ,وتبجيله , وتوقيره , حـيـا وميا , من خلال مجاميع كبيرة من الايات والروايات , وكذلك ورد نفس هذا المعنى في حق اهـل البيت (ع ) , وقد داب المسلمون من اتباع مدرسة اهل البيت (ع ) على اقامة الاحتفالات البهيجة في يوم مولده (ص ) , ومواليد ائمة اهل البيت (ع ) ,اعتزازا منهم بهؤلا الابرار , وتخليدا لذكراهم , وتجسيدا لتوصيات القرآن الكريم بحقهم .
ولكن على الرغم من وضوح انتساب هذا الامر الى الشريعة , وارتباطه بالدين ,الا ان البعض اصر على اقحام هذا العمل المشروع ضمن دائرة ( الابتداع ) , والصاق هذاالامر به .
فيقول ( ابن تيمية ) : (( وكذلك ما يحدثه بعض الناس , اما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى (ع ) , وامـا مـحبة للنبي (ص ) , واللّه قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد , لاعلى البدع من اتخاذ مولد رسول اللّه (ص ) عيدا , مع اختلاف الناس في مولده , فان هذا لم يفعله السلف , مع عدم قيام المقتضي لـه , وعدم المانع منه , ولو كان هذا خيرا محضا اوراجحا لكان السلف ( رض ) احق به منا , فانهم كانوا اشد محبة لرسول اللّه وتعظيما له منا )) ((636)) .
ويضيف القول :
(( كـمـا ان ابـن الـحاج رغم اعترافه بما ليوم مولد النبي (ص ) من الفضل , لا يوافق على الاحتفال بالمولد لما فيه من المنكرات , ولان النبي اراد التخفيف عن امته , ولم يرد في ذلك شي بخصوصه , فيكون بدعة )) ((637)) .
ويقول ( الفاكهاني ) :
(( لا اعـلـم لهذا المولد اصلا في كتاب ولا سنة , ولا ينقل عمله عن احد من علماالامة الذين هم القدوة في الدين , المتمسكون بثار المتقدمين , بل هو بدعة احدثهاالبطالون )) ((638)) .
ويقول محمد بن عبدالسلام خضر الشقيري عن الاحتفال بالمولد النبوي :
((بـدعة منكرة ضلالة , لم يرد بها شرع ولا عقل , ولو كان في هذا اليوم خير كيف يغفل عنه ابو بـكـر , وعـمـر , وعـثمان , وعلي وسائر الصحابة , والتابعون , وتابعوهم ,والائمة , واتباعهم )) ((639)) .
وقال ( الحفار ) :
(( لـيـلـة المولد لم يكن السلف الصالح وهم اصحاب رسول اللّه (ص ) والتابعون لهم يجتمعون فيها للعبادة , ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة )) ((640)) .
وقد اعتبر الشيخ ( عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب ) الموالد من البدع المنهي عنها , حيث لم يامر بها الرسول , ولا فعلها الخلفا الراشدون , ولا الصحابة ,ولا التابعون ((641)) .
ويقول ( ابن الحاج ) :
(( ومـن جـمـلـة ما احدثوه من البدع مع اعتقادهم ان ذلك من اكبر العبادات , واظهارالشعائر , ما يفعلونه في شهر ربيع الاول من المولد, وقد احتوى على بدع , ومحرمات جملة )) ((642)) .
ويقول ( محمد جميل زينو ) :
(( ان الـذي يـجـري فـي اكـثـر الـموالد لا يخلو من منكر وبدع ومخالفات , والاحتفال لم يفعله الـرسـول (ص ) , ولا الـصحابة والتابعون , ولا الائمة الاربعة وغيرهم من اهل القرون المفضلة )) ((643)) .
ويقول ( الفوزان ) :
(( ولـكن لا يخصص لمدحه (ص ) وقت ولا كيفية معينة , الا بدليل صحيح من الكتاب والسنة , فما يفعله اصحاب الموالد من تخصيص اليوم الذي يزعمون انه يوم مولده لمدحه بدعة منكرة )).
ويقول في موضع آخر :
(( فـان غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات ,كاعياد الموالد , واقامة الايام والاسابيع لاعمال مخصصة , والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات )) ((644)) .
ويـقـول الوهابي ( محمد حامد الفقي ) رئيس جماعة ( انصار السنة المحمدية ) في حواشيه على كتاب الفتح المجيد :
(( الذكريات التي ملات البلاد باسم الاوليا هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم )) ((645)) .
فـالـذي نـلاحـظه من خلال كل هذه المقولات المتقدمة ان الذين حضروا على الناس الاحتفال بيوم الـمولد , والمناسبات الاسلامية الاخرى , وعدوا هذا الامر عملا محرما , قدبنوا استدلالهم هذا عـلـى فـهم مغلوط لمعنى ( الابتداع ) , فقد تصوروا ان معنى عدم الارتباط بالدين هو عدم وجود الامـر فـي الـصدر الاول للتشريع , او عدم ورود الدليل الخاص الذي يذكره بشخصه وعنوانه , ومـعـنـى الارتـبـاط بـالـديـن هو وجود ذلك الامر في عصر التشريع الاول , او ورود امر فيه بخصوصه .
وقـد بـينا سابقا ان المدار في الابتداع ليس هو ورود الدليل الخاص او عدم وروده فحسب , وانما يـجب النظر في عموميات التشريع والادلة الكلية التي تخرج العمل عن حيز( الابتداع ) , كما ان عدم وجود العمل في العصر الاول للتشريع لا يساوق عدم مطلوبية الشريعة له , ووجوده لا يساوق مـطلوبيته , لان المدار في ( الابتداع ) ليس هو وجودالعمل او عدم وجوده في عصر التشريع , كما مر معنا سابقا.
وامـا التذرع بعدم فعل السلف للمولد والذي لمسناه في اغلب الاقوال المتقدمة ,فقد مر الحديث عنه آنفا , فليراجع .
وقـد حـاول الـبـعـض ان يـضـيف دليلا آخر لتحريم الاحتفال بالمولد النبوي , وهواشتمال هذه الاحتفالات على الامور المحرمة غالبا كالموسيقى , والغنا , واختلاط النسابالرجال وغير ذلك .
ونحن في الوقت الذي نرفض فيه وجود هذا النمط المدعى من السلوك المحرم في احتفالات المولد الـتـي يقيمها اتباع مدرسة اهل البيت (ع ) رفضا قاطعا , ونعتبر ذلك تهمة لا اساس لها نؤكد على ان الاقـتـران بـحد ذاته لا يشكل الغاا لاصل العمل , ولا يؤدي الى القول بتحريمه , اذ ان القول بذلك يستلزم القول ببطلان اصول العبادات المسلمة فيما لواقترنت باي عنوان تحريمي , وهذا ما لا يتفوه بـه احد , فلو اقترنت الصلاة الواجبة بالنظرالى المراة الاجنبية مثلا الذي هو عمل محرم قطعا , فهل يقال هنا بان الصلاة الواجبة اصبحت ( بدعة ) يحرم الاتيان بها ( والعياذ باللّه ) , وهل يسري التحريم بطريقة تصاعدية الى اصل تشريعها وايجابها بمجرد هذا الاقتران ؟ وعلى اية حال فان مناقشة هذه الارا , والخوض في تفاصيلها , خارج عن طبيعة الطرح الذي تخضع له هذه الدراسة , على انها قد اخذت موقعها الخاص , واشبعت بحثاوتحليلا في دراسات الكثير من عـلـمـائنـا الـسـابـقـيـن والـلاحـقـين جزاهم اللّه عن ذبهم ودفاعهم عن رسالة الاسلام اوفر الـجـزا ((646)) , كـما وتوجد مصنفات معتبرة لدى بعض ابنا العامة في الرد على القول بتحريم الاحتفال بيوم المولد النبوي الشريف , قد نتعرض الى ذكراقوال البعض منها في ذيل هذا الحديث .
والذي يهمنا ذكره هنا هو ان النصوص الشرعية العامة الواردة في مقام التاكيدعلى ضرورة احترام شـخـصـيـة الرسول الاكرم (ص ) , وتبجيله , وتوقيره , حيا وميتا ,وكذلك الواردة في شان اهل الـبـيت (ع ) , مما لا يسع احد انكارها , او التشكيك فيهالكثرتها وتواترها , وهي كافية لان تصحح عـمـل الـمولد , وتضفي عليه طابع الشرعية ,وتجعله من مظاهرها البارزة , ومصاديقها الواضحة والجلية .
فمما ورد بشان الحث على احترام شخصية الرسول الاكرم (ص ) في الكتاب العزيزقوله تعالى :
( فـالـذيـن آمـنـوا بـه وعـزروه ونـصـروه واتـبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم الم فلحون ) ((647)) .
وقد ذكر المفسرون ان المراد من ( التعزير ) في الاية ليس مطلق النصرة , اذ انه افرد عن قوله :
( نصروه ) , ولو كان بمعنى مطلق النصرة لما كان هناك داع للتكرار ,فالمراد من ( التعزير ) هو التبجيل والتوقير والتعظيم , او النصرة مع التعظيم ((648)) .
كما ذكر القرآن الكريم الادب الخاص الذي ينبغي ان يتعامل به المسلمون مع رسول الانسانية (ص ) , والمكانة التي يتحتم عليهم حفظها له , ورعايتها بشانه , فقد وردالنهي عن ان يرفعوا اصواتهم فوق صـوتـه , او يـجهروا له بالقول , لان ذلك سيكون مدعاة الى ان تحبط اعمالهم , بخلاف اولئك الذين يظهرون امامه الادب الرفيع , ويغضون اصواتهم عنده , كما يقول اللّه تعالى :
( يـا ا يـهـا الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهرواله بالقول كجهر بعضك م لـبـعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون # ان الذين يغضون ا صواتهم عند رسول اللّه اولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم ) ((649)) .
كـمـا ورد النهي في القرآن الكريم عن ان يدعى النبي الاكرم (ص ) باسمه كما يدعى سائرالناس , وذلك في قوله تعالى :
( لا تجعلوا دعا الرسول بينكم كدعا بعضكم بعضا ) ((650)) .
وكذلك ورد النهي عن التسرع في ابدا الراي والنظر بين يديه , كما قال تعالى :
( يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله واتقوا اللّه ان اللّه سميع عليم ) ((651)) .
وجا صريح القرآن يامر المسلمين ان يذكروا رسولهم بالدعا , والصلاة ,والتسليم , لما له من منزلة عظيمة عند اللّه جل شانه , ومن مقام محمود لديه , كما قال تعالى :
( ان اللّه وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلمواتس ليما ) ((652)) .
وقد ورد في الاثر عنه (ص ) انه قال :
(( لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ماله واهله والناس اجمعين )) ((653)) .
وروي عنه (ص ) انه قال :
(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان : ان يكون اللّه ورسوله احب اليه مماسواهما , وان يحب المر لا يحبه الا للّه , وان يكره ان يعود في الكفر , كما يكره ان يقذف في النار )) ((654)) .
وروي ايضا ان عمر بن الخطاب قال :
(( يا رسول اللّه لانت احب الي من كل شي الا من نفسى احب اليك من نفسك فقال له عمر : فانت الان احب الي من نفسي , فقال : الان يا عمر )) ((655)) .
واما ما ورد بشان اهل البيت (ع ) , فيكفينا ما المحنا اليه في صدر البحث من الايات والروايات الدالة على وجوب طاعتهم , والتمسك بهم , وحفظ مودتهم , وقد قال تعالى :
( قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى ) ((656)) فنرى ان هذه الاية تفرض مودة اهل البيت (ع ) على كل مسلم ومسلمة , وتجعل هذه المودة اجرا للرسالة الاسلامية .
وقد ورد عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( اذكركم اللّه في اهل بيتي )) وكررها ثلاث مرات ((657)) .
وعن ( ابن عباس ) عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( واحبوني بحب اللّه , واحبوا اهل بيتي لحبي )) ((658)) .
وقـد تـركـت الشريعة الاسلامية تقدير هذا التبجيل والاعتزاز الى نفس المسلمين ,ليعبروا عنه عـلـى وفـق عـاداتـهـم وتقاليدهم الحياتية المتنوعة , وبما تفيض به مشاعرهم الجياشة تجاه هذه الشخصيات العملاقة , على شريطة ان لا يرتكب عمل محرم , او مناف للاداب الاسلامية خلال تلك الممارسات , ارتكازا على الحقيقة القائلة بان اللّه تعالى لايطاع من حيث يعصى .
وقـد ربـطت الشريعة الاسلامية بين ماضي الانسان وحاضره , من خلال مفردات متعددة , ابرزها واهمها هو احيا المناسبات والذكريات الدينية , واكدت على ان الماضي يشكل الوجه الاهم في صنع قرارات الحاضر , وديمومة حركته , ووفرت الاجوا الملائمة التي تجعل الانسان المسلم مرتبطا بتراثه بصورة دائمة , من خلال الشعائر والمناسك ,واحيا المناسبات الدينية المختلفة , والمحافظة عـلـيها , والاعتزاز بها , والاستلهام منها ,فتربط هذه الذكريات الاسلامية الخالدة حاضر الانسان الـمـسـلـم بعجلة الماضي , وتسيربه في طريق الانفتاح على كل ما من شانه ان يرقى بسلوكه الى مستوى تحقيق الغايات ,فيشكل الماضي حينئذ وقود حركة الحاضر , ويحدد المعالم الفاعلة لرؤية المستقبل .
يقول العلامة ( الاميني ) بشان احيا الذكريات الاسلامية :
(( لـعـل تـجديد الذكرى بالمواليد والوفيات , والجري على مواسم النهضات الدينية ,او الشعبية الـعـامـة , والحوادث العالمية الاجتماعية , وما يقع من الطوارق المهمة في الطوائف والاحيا , بعد سـنـيـهـا , واتخاذ راس كل سنة بتلكم المناسبات اعيادا وافراحا , او متم واحزانا , واقامة الحفل السار , او التابين , من الشعائر المطردة , والعادات الجارية منذالقدم , ودعمتها الطبيعة البشرية , واسستها الفكرة الصالحة لدى الامم الغابرة , عند كل امة ونحلة , قبل الجاهلية وبعدها , وهلم جرا حتى اليوم .
هـذه مواسم اليهود , والنصارى , والعرب , في امسها ويومها , وفي الاسلام وقبله ,سجلها التاريخ في صفحاته .
وكان هذه السنة نزعة انسانية , تنبعث من عوامل الحب والعاطفة , وتسقى من منابع الحياة , وتتفرع عـلى اصول التبجيل والتجليل , والتقدير والاعجاب , لرجال الدين والدنيا , وافذاذ الملا , وعظما الامـة , احـيـاا لـذكرهم , وتخليدا لاسمهم , وفيهافوائد تاريخية اجتماعية , ودورس اخلاقية ضافية راقية , لمستقبل الاجيال , وعظات وعبر , ودستور عملي ناجع للناشئة الجديدة , وتجارب واختبارات , تولد حنكة الشعب , ولا تختص بجيل دون جيل , ولا بفئة دون اخرى .
وانـمـا الايام تقتبس نورا وازدهارا , وتتوسم بالكرامة والعظمة , وتكتسب سعداونحسا , وتتخذ صيغة مما وقع فيها من الحوادث المهمة , وقوارع الدهر ونوازله )) ((659)) .
مـن هـنـا فقد ادرك بعض علما العامة عمق انتساب هذا الامر الى الشريعة عن طريق الادلة الكلية الـمـتـسالمة , فعبر البعض عنه بـ ( البدعة الحسنة ) , فيقول ( ابن حجر )بهذا الشان : (( عمل الـمولد بدعة , لم تنقل عن احد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ,ولكنها مع ذلك قد اشتملت على مـحـاسـن وضـدهـا , فـمن تحرى في عملها المحاسن ,وتجنب ضدها كان بدعة حسنة , والا فلا )) ((660)) .
ويقول الامام ( ابو شامة ) :
(( ومن احسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده (ص ) ,من الصدقات , والمعروف , واظهار الزينة , والسرور , فان ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقرا مشعر بمحبته (ص ) , وتعظيمه في قلب فاعل ذلك , وشكر اللّه على ما من به من ايجادرسوله (ص ) الذي ارسله رحمة للعالمين )) ((661)) .
ويقول السيوطي في رسالته ( حسن المقصد في عمل المولد ) :
(( عندي ان اصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس , وقراة ما تيسر من القرآن ,ورواية الاخبار الـواردة فـي مـبـدا امـر الـنـبـي (ص ) , وما وقع في مولده من الايات , ثم يمد لهم سماط ياكلونه ويـنـصـرفـون من غير زيادة على ذلك , هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها , لما فيه من تعظيم قدر النبي (ص ) , واظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف )) ((662)) .
ويـنـقـل ( ابـن تـيمية ) اقوال عديدة تدل على مشروعية الاجتماع والاحتفال بيوم المولد النبوي الـشـريـف عـلـى الرغم من انـه من المتشددين على من يتخذه عيدا كمايزعم ((663)) , بل كان متناقضا في نفس كلامه الذي نقلناه عنه آنفا.
وعلى اية حال فهو يقول في ( اقتضا الصراط المستقيم ) :
(( قال المروزي : سالت ابا عبداللّه عن القوم يبيتون , فيقرا قارئ , ويدعون حتى يصبحوا ؟ قال :
ارجوا ان لا يكون به باس وقال ابو السري الحربي : قال ابوعبداللّه : واي شي احسن من ان يجتمع الناس يصلون ويذكرون ما انعم اللّه عليهم كماقالت الانصار )).
واضاف :
(( وهـذا اشارة الى ما رواه احمد : حدثنا اسماعيل , انبانا ايوب عن محمد بن سيرين قال : نبئت ان الانصار قبل قدوم رسول اللّه (ص ) المدينة قالوا : لو نظرنا يومافاجتمعنا فيه , فذكرنا هذا الامر الـذي انـعـم اللّه بـه علينا , فقالوا : يوم السبت , ثم قالوا : لانجامع اليهود في يومهم , قالوا : فيوم الاحد , قالوا : لا نجامع النصارى في يومهم , قالوا :فيوم العروبة , وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة , فاجتمعوا في بيت ابي امامة اسعدبن زرارة , فذبحت لهم شاة فكفتهم )) ((664)) .
اذن فمشروعية الاجتماع للاحتفال والابتهاج بالذكريات الدينية المهمة نزعة انسانية , تسير جنبا الـى جنب مع الفطرة البشرية , وتنبعث طبيعيا ما دام الانسان يحيا في جو الجماعة الانسانية , ولذا نرى ان المسلمين لم يتخلفوا عن مجاراة هذا السلوك الانساني في مناسباتهم الدينية المختلفة , وهذا الذي ينقله لنا ( ابن تيمية ) واحد من عشرات المظاهر التي كانت تعبر عن هذا الواقع , وتعكسه في حـيـاة الـمسلمين , بما يتناسب وينسجم مع طبيعة الاعراف والتقاليد والاهتمامات التي كانت تحكم الـمـجـتـمـع آنذاك , الامرالذي يدلل على ان جذور اقامة الاحتفال , والاجتماع لاحيا الذكريات الاسلامية كانت ممتدة الى بدايات عصر ظهور الدعوة الاسلامية المباركة .
ولـقـد كان راي الاستاذ ( سعيد حوى ) اكثر تحررا واعتدالا من آرا الاخرين في هذه المسالة , حين دعم القول بجواز احيا الذكريات الاسلامية عموما وذكرى مولدالنبي الاكرم (ص ) على نحو الخصوص , بالادلة المقنعة , وحمل على المتشددين الذين لم يحسنوا فهم معنى ( الابتداع ) , على الرغم من انه لم يبرح عاكفا على الايمان بان ( البدعة )تنقسم الى مذمومة وممدوحة , فيقول :
(( والـذي نـقـولـه : ان يعتمد شهر المولد كمناسبة يذكر بها المسلمون بسيرة رسول اللّه (ص ) وشـمـائلـه , فـذلك لا حرج , وان يعتمد شهر المولد كشهر تهيج فيه عواطف المحبة نحورسول اللّه (ص ) , فذلك لا حرج فيه , وان يعتمد شهر المولد كشهر يكثر فيه الحديث عن شريعة رسول اللّه (ص ) , فـذلـك لا حـرج فـيه , وان مما الف في بعض الجهات ان يكون الاجتماع على محاضرة وشـعر , او انشاد في مسجد , او في بيت بمناسبة شهر المولد ,فذلك مما لا ارى حرجا فيه , على شرط ان يكون المعنى الذي يقال صحيحا.
ان اصل الاجتماع على صفحة من السيرة , او على قصيدة في مدح رسول اللّه (ص )جائز , ونرجوا ان يكون اهله ماجورين , فان يخصص للسيرة شهر يتحدث عنها فيه بلغة الشعر والحب فلا ح رج .
الا ترى لو ان مدرسة فيها طلا ب خصصت لكل نوع من انواع الثقافة شهرابعينه , فهل هي آثمة ؟ , ما نظن ان الامر يخرج عن ذلك )).
ويضيف الى ذلك القول :
(( لقد كان الاستاذ حسن البنا رجل صدق , وثاقب نظر , واماما في العلم ,وكان يرى احيا المناسبات الاسـلامـية في عصر مضطرب مظلم قد غفل فيه المسلمون ,وجهلوا فيه كثيرا من امور دينهم , ومـن كـلامـه ـ (ره ) ـ فـي مذكراته : احيا جميع الليالي الواجب الاحتفال بها بين المسلمين , سوا بتلاوة الذكر الحكيم , وبالخطب , والمحاضرات المناسبة )).
ثم يحمل على المتشددين قائلا :
(( والمتشددون في مثل هذه الشؤون تشددهم في غير محله , فليس الاصل في الاشيا الحرمة , بل الاصل فيها الاباحة , حتى يرد النص بالتحريم , وفهمهم لحديث :( كل ما ليس عليه امرنا فهو رد ) فهم خاطئ )) ((665)) .
ففي الحقيقة ان التعبير الاجتماعي عن المشاعر والعواطف الدينية التي تختزن في نفوس المسلمين امر متروك لاعراف الناس , وطرقهم المختلفة , وعاداتهم الاجتماعية الخاصة , ونظير هذا الامر مـا تـفعله بعض الاسر في الحياة الاعتيادية من احتفالات بهيجة لمواليدها الجدد , او ما يتكرر في الـذكـرى الـسـنـوية ليوم الولادة مما يسمى بـ ( عيدالميلاد ) , او ما تفعله اغلب الدول , او كلها بـالاحـتـفال في يوم استقلالها , الا ان الفرق بين هذه الاحتفالات العامة , وبين الاحتفال بذكرى يوم المولد النبوي الشريف , او بقية المناسبات الاسلامية المهمة , هو ان تلك الاحتفالات العامة خاضعة الـى الـرسـوم والاداب , والاعـراف الـتـي تـحـكـم حـيـاة الـنـاس , من دون ان تكون مشمولة بـعـموميات التشريع التي تدخلها في دائرة الندب والمطلوبية , واما الاحتفال بالذكريات الاسلامية ,ولا سـيـمـا بـمـولد النبي الاكرم (ص ) , فهو مشمول باوامر الشريعة الاسلامية , وماثور عنها كماتقدم الكلام فيه .
وختاما لا بد من القول بانا اذا نظرنا الى دوافع ومنطلقات هذا اللون من السلوك الذي يتمسك به اتباع مـدرسـة اهـل الـبـيـت (ص ) , ويـصرون على ممارسته , والمواظبة عليه في مختلف الذكريات الاسـلامية المفرحة , والمحزنة , ولا سيما اصرارهم على الاحتفال بيوم المولد النبوي الشريف , فانا نجد الحرص الاكيد من قبل هؤلا على ابقا معالم شخصية الرسول الاكرم (ص ) متالقة وحية في ضمائر المسلمين حينا بعد حين , والاعتزاز بتعاليم الرسالة الاسلامية , وتجديد الانبعاث نحوها , والـتـمسك بها , اذ ان المطلع على برامج هذه الاحتفالات , يلاحظ انها تستهدف اول ما تستهدف اجلا مـكـانـة الـرسول الاكرم (ص ), وابراز آثاره ومعطياته الخالدة , من خلال الكلمات , والقصائد , والـخـطب والخواطر ,والمقالات الاسلامية الهادفة , بل وقد يتضمن البعض منها تقديم الدراسات الـمـتـنـوعـة حول الجوانب المختلفة من حياته الكريمة , وجهاده الكبير في اعلا كلمة اللّه على وجـه الارض , وغـيـر ذلـك مـن الامـور الـتي ترتبط به (ص ) , وتشد المسلمين نحو سيرته , وتحثهم على الاقتدا به , والسير على هداه .
ومـمـا لا شـك فـيـه ان هذا النمط من السلوك الهادف , سوف يساهم مساهمة ملموسة في ابقا معالم الـتـراث الاسلامي الزاخر حية وفاعلة في حاضر حياة المسلمين , ويشكل احد المفردات البارزة لـتـلك العموميات التي تامر المسلمين بتوقير النبي (ص ) , ونصرته ,وتبجيله , لانه يمثل الالتزام العملي بسلوكه , والتمسك بسنته وسيرته (ص ).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشفاعة عند الشيعة الإمامية
الموت أفضل من الحياة
صدق دعوى الأنبياء
القرآن يتجلى في تكوين المياه العذبة
لذة العبادة والمناجاة وتاثيرها في التكامل
ثبوت الصفة لله
في اعماقنا مثال لمحكمة القيامة
مصير الشمس على ضوء القرآن
لغة القرآن إعراب سورة الكوثر
ملابسات الشهادة الثالثة

 
user comment