قالها ثلاثا، كل ذلك تقيه فتقول ذلك، فضرب عنقه فبلغ ذلك فقال : اما هذا المقتول فمضى على صدقه وتقيته، واخذ بفضله فهنيئا له، واما الاخر فقبل رخصه اللّه، فلا تبعه عليه)
ثم علق الشيخ الطوسى على هذه الروايه قائلا : (فعلى هذا، التقيه رخصه، والافصاح بالحق فضيله . وظاهر اخبارنا يدل على انها واجبه، وخلافها خطا)
اما القرطبى فقد فسر آيه التقيه بقوله : (الا ان تتقوا منهم تقاه
قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقيه فى جده الاسلام قبل قوه المسلمين، فاما اليوم فقد اعز اللّه الاسلام ان يتقوا من عدوهم . قال ابن عباس : هو ان يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالايمان، ولايقتل ولاياتى ماثما . وقال الحسن : التقيه جائزه للانسان الى يوم القيامه، ولاتقيه فى القتل . وقرا جابر بن زيد ومجاهد والضحاك : (الا ان تتقوا منهم تقيه) وقيل : ان المومن اذا كان قائما بين الكفار فله ان يداريهم باللسان اذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالايمان . والتقيه لاتحل الا مع خوف القتل او القطع او الايذاء العظيم . ومن اكره على الكفر فالصحيح ان له ان يتصلب ولايجيب الى التلفظ بكلمه الكفر، بل يجوز له ذلك على ما ياتى بيانه فى النحل) . حيث فسر قوله تعالى : (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) بقوله : (هذه الايه نزلت فى عمار بن ياسر فى قول اهل التفسير، لانه قارب بعض ما ندبوه اليه . قال ابن عباس : اخذه المشركون واخذوا اباه وامه سميه وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سميه بين بعيرين ووجى قبلها بحربه، وقيل لها انك اسلمت من اجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما اول قتيلين فى الاسلام . واما عمار فاعطاهم ما ارادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك الى رسول اللّه(صلى اللّه عليه وسلم)، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم): (كيف تجد قلبك) ؟ قال: مطمئن بالايمان
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : (فان عادوا فعد)
وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال : اول شهيده فى الاسلام ام عمار، قتلها ابو جهل، واول شهيد من الرجال مهجع مولى عمر
وروى منصور ايضا عن مجاهد قال : اول من اظهر الاسلام سبعه : رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم)، وابو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسميه ام عمار . فاما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فمنعه ابو طالب، واما ابو بكر فمنعه قومه، واخذوا الاخرين فالبسوهم ادراع الحديد، ثم صهروهم فى الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشى اتاهم ابو جهل ومعه حربه، فجعل يسبهم ويوبخهم، واتى سميه فجعل يسبها ويرفث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربه من فمها فقتلها، (رضى اللّه عنها)
قال: وقال الاخرون ما سئلوا، الا بلالا فانه هانت عليه نفسه فى اللّه، فجعلوا يعذبونه ويقولون له : ارجع عن دينك، وهو يقول احد احد، حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا فى عنقه حبلا من ليف، ودفعوه الى صبيانهم يلعبون به بين اخشبى مكه حتى ملوه وتركوه، قال : فقال عمار : كلنا تكلم بالذى قالوا -لولا ان اللّه تداركنا غير بلال فانه هانت عليه نفسه فى اللّه، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه . والصحيح ان ابا بكر اشترى بلالا فاعتقه
وروى ابن ابى نجيح عن مجاهد ان ناسا من اهل مكه آمنوا، فكتب اليهم بعض اصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) بالمدينه : ان هاجروا الينا، فانا لا نراكم منا حتى تهاجروا الينا، فخرجوا يريدون المدينه حتى ادركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الايه . ذكر الروايتين عن مجاهد اسماعيل بن اسحاق
وروى الترمذى عن عائشه قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : (ما خير عمار بين امرين الا اختار ارشدهما) هذا حديث حسن غريب . وروى عن انس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) : (ان الجنه تشتاق الى ثلاثه على وعمار وسلمان بن ربيعه) . قال الترمذى : هذا حديث غريب لانعرفه الا من حديث الحسن بن صالح
الثالثه : لما سمح اللّه (عز وجل) بالكفر به وهو اصل الشريعه عند الاكراه ولم يواخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعه كلها، فاذا وقع الاكراه عليها لم يواخذ به ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الاثر المشهور عن النبى (صلى اللّه عليه وسلم) : (رفع عن امتى الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه) الحديث . والخبر وان لم يصح سنده فان معناه صحيح باتفاق من العلماء، قاله القاضى ابو بكر بن العربى . وذكر ابو محمد عبد الحق ان اسناده صحيح، قال : وقد ذكره ابو بكر الاصيلى فى الفوائد وابن المنذر فى كتاب الاقناع
الرابعه : اجمع اهل العلم على ان من اكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل، انه لا اثم عليه ان كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر)
وهكذا يتضح لنا ان القرآن الكريم قد تحدث عن التقيه واوضح انها للمكره، ولمن تلجئه الضروره للدفاع عن النفس والمال والعرض، بعد ان نهى عن موالاه الكفار واعداء الاسلام واخبر بقطع العلاقه بين اللّه سبحانه وبين من يوالى اعداءه
وعندما عرض عمار بن ياسر وبعض الصحابه الى التعذيب والاذى اضطر الى الاستجابه الى اعداء اللّه والنطق بما ارادوا من الثناء على آلهتهم وذكر الرسول بسوء، فجاء وذكر ما حدث له للرسول (صلى اللّه عليه وآله) فاقره الرسول (صلى اللّه عليه وآله) على فعله، وقال له : فان عادوا فعد
وقد قرانا ما ذكره المفسرون فى سبب نزول الايه الكريمه : (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) وعرفنا اقرار الرسول للتقيه جريا على اجازه القرآن الكريم لهذا الموقف الاضطرارى
وكما تحدث الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عن التقيه، واقرها للمكره والمضطر بشكل واضح وصريح، نجد عذرا ضمنيا باستعمال التقيه للمكره والمضطر فى حديث الرفع المشهور بين المسلمين جميعا، فقد روى عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قوله: (رفع عن امتى تسعه : الخطا، والنسيان، وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا اليه، والحسد، والطيره، والتفكر فى الوسوسه فى الخلق ما لم ينطق بشفه)
وكما يثبت هذا الحديث الشريف قاعده عامه برفع المسووليه عن المضطر والمكره نجد كذلك فى قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) : (لاضرر ولاضرار)، حكما فى رفع الضرر عن النفس والمال والعرض، اذا كان الواقع يمكن رفعه باظهار التوافق مع الوضع السياسى او الفكرى وامثالهما، الذى يشكل خطرا حقيقيا على النفس والمال والعرض مازال القلب مطمئنا بالحق، وثابتا على الايمان والاخلاص لاراده اللّه سبحانه
وعلى اساس كتاب اللّه وسنه نبيه الكريم ( صلى اللّه عليه وآله) التزم ائمه اهل البيت (عليهم السلام) وفقهاوهم بمبدا التقيه فى المجال السياسى والفكرى عندما اصابهم الظلم والاضطهاد والتقتيل والتعذيب والتشريد الذى اخبرهم به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بقوله : (انا اهل بيت اختار اللّه لنا الاخره على الدنيا . وان اهل بيتى سيلقون بعدى بلاء وتشريدا وتطريدا...) دفاعا عن النفس، وحمايه لذلك الكيان الفكرى والسياسى الاصيل، الذى كان يقوده ائمه اهل البيت (عليهم السلام) كقوه معارضه للحكمين الاموى والعباسى، اللذين عرفا بالعداء والتنكيل بائمه اهل البيت واتباعهم وفكرهم المعبر عن الوعى الاصيل، والفهم العميق، والموقف الرافض لتسلط الحاكم الظالم، وقد اوضح علماء اهل البيت مجال انطباق التقيه وتوظيفها
روى عن الامام الباقر (عليه السلام) : (التقيه فى كل ضروره، وصاحبها اعلم بها حين تنزل به)
وروى عنه قوله (عليه السلام) : (انما جعلت التقيه ليحقن بها الدم، فاذا بلغ الدم فليس تقيه)
وروى عنه قوله (عليه السلام) : (التقيه فى كل شى ء يضطر اليه ابن آدم، فقد احله اللّه له)
وهكذا يوضح الامام الباقر (عليه السلام) ان التقيه هى موقف دفاعى فى حاله الضروره والاضطرار وحفظ النفس
فالتقيه كما اتضح لنا ليست من اجتهاد الفكر الشيعى، انما هى نص اسلامى نطق به القرآن، واقره الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ومارسه الصحابه واوضحه المفسرون من مختلف الاتجاهات والاراء كما قرانا آنفا، لرفع الضرر ومعالجه الضروره، ولحقن الدماء، كما اوضح الامام محمد الباقر (عليه السلام) ذلك
وتاسيسا على هذا المبدا افتى فقهاء الاماميه بوجوب التقيه، فللمسلم ان يبطن الحق من عقيده وموقف سياسى وقناعه تشريعيه وعباديه ويظهر خلافها دفاعا عن النفس والمال والعرض، كما اجاز له القرآن والسنه ذلك
قال الشيخ الطوسى : (والتقيه عندنا واجبه عند الخوف على النفس، وقد روى رخصه فى جواز الافصاح بالحق عندها)
وعرف الشيخ المفيد التقيه بقوله : (التقيه : كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمه المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا فى الدين او الدنيا، وفرض ذلك اذا علم بالضروره، او قوى فى الظن، فمتى لم يعلم ضررا باظهار الحق، ولاقوى فى الظن ذلك، لم يجب فرض التقيه، وقد امر الصادقون (عليهم السلام) جماعه من اشياعهم بالكف والامساك عن اظهار الحق والمباطنه والستر له عن اعداء الدين والمظاهره لهم بما يزيل الريب عنهم فى خلافهم وكان ذلك هو الاصلح لهم، وامروا طائفه اخرى من شيعتهم بمكالمه الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم الى الحق لعلمهم بانه لاضرر عليهم فى ذلك، والتقيه تجب بحسب ما ذكرناه ويسقط فرضها فى مواضع اخرى على ماقدمناه)
لماذا التقيه
ونستطيع ان نتفهم ظروف التقيه السياسيه والفكريه اذا فهمنا محنه ائمه اهل البيت ( عليهم السلام) واتباعهم فى العهدين الاموى والعباسى، بسبب معارضتهم الفكريه والسياسيه للظلم السياسى والعبث باموال الامه وانحراف الحكام والولاه عن السلوكيه الاسلاميه
فقد نقل المورخون صورا مروعه من سياسه البطش والارهاب والقتل والسجن، ابتداء من عهد معاويه بن ابى سفيان الذى قتل عددا من اتباع الامام على وولديه الحسن والحسين (عليهم السلام) امثال الصحابى الجليل حجر بن عدى الذى وصفه الحاكم فى المستدرك بقوله : (انه راهب اصحاب محمد)، وشريك بن شداد الحضرمى وصيفى بن شداد الشيبانى وعمرو بن الحمق الخزاعى ورشيد الهجرى وعبد اللّه بن يحيى الحضرمى وعبد الرحمن ابن حسان العنزى وعشرات امثالهم
وحين ولى السلطه ابنه يزيد اقدم على افدح جريمه فى تاريخ الاسلام ضد اهل بيت النبوه وصحابه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) والتابعين لهم باحسان، حيث جرت مذبحه كربلاء المروعه التى قتل فيها الامام الحسين بن على وسبعه عشر رجلا من اهل بيته، وستون من اصحابه، وهم كل الذين كانوا برفقته، ثم ديس جسد الحسين الطاهر بحوافر الخيل تشفيا وانتقاما . . . تلك المذبحه التى لم يقف فيها العدوان عند حد قتل المقاتلين، وسلب اموالهم، بل ذبح الاطفال ومنعوا شرب الماء، واحرقت خيام آل محمد، وسيقت نساوهم سبايا من العراق الى الشام وحملت رووس الشهداء الى دمشق الشام على رووس الاعواد والرماح
وحين امتد الصراع بين طلائع المسلمين والمعارضين للحزب الاموى وانتفضت مدينه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) على سلطه يزيد بقياده عبد اللّه بن حنظله غسيل الملائكه، بعد شهاده الامام الحسين ابن على (عليهما السلام) فزحف الجيش الاموى على المدينه فى واقعه الحره فسفك الدماء، وانتهك الحرمات، وهتك الاعراض، ونهب الاموال
وقد نقل ابن قتيبه الدينورى صوره من تلك الماساه بقوله : (وذكروا انه قتل يوم الحره من اصحاب النبى (صلى اللّه عليه وآله) ثمانون رجلا، ولم يبق بدرى بعد ذلك، ومن قريش والانصار سبعمائه، ومن سائر الناس من الموالى والعرب والتابعين عشره آلاف، وكانت الوقعه فى ذى الحجه لثلاث بقين منها، سنه ثلاث وستين)
ويستمر الحزب الاموى فى الارهاب وسفك الدماء على امتداد مراحل وجوده فى السلطه، فيسجل لنا التاريخ حوادث اخرى تحكى ابشع صور الارهاب والاستخفاف بقيم الحق والعدل ايام عبدالملك بن مروان وقتله سعيد بن جبير . وقد جاء فى كتاب عبد الملك بن مروان الذى ولى فيه خالد بن عبد اللّه القسرى : (اما بعد: فانى وليت عليكم خالد بن عبد اللّه القسرى، فاسمعوا له واطيعوا، ولايجعلن امرو على نفسه سبيلا، فانما هو القتل لا غير، وقد برئت الذمه من رجل آوى سعيد بن جبير، والسلام، ثم التفت اليهم خالد، وقال : والذى نحلف به، ونحج اليه، لااجده فى دار احد الا قتلته، وهدمت داره، ودار كل من جاوره، واستبحت حرمته . وقد اجلت لكم فيه ثلاثه ايام...)
ثم يلقى القبض على سعيد بن جبير الذى كان من طلائع الموالين لال البيت النبوى، ويسلم الى الحجاج السفاح الشهير فى تاريخ الاسلام الذى قتل عشرات الالاف من معارضى السلطه فيقتله
وتستمر سياسه التعسف والاضطهاد لجماهير الامه وطلائع المعارضه العلويه وتتراكم المحن وممارسه الارهاب، فينطلق زيدبن على بن الحسين ابن على بن ابى طالب بثورته سنه (121 ه) ويقتل فى نفر من اصحابه فى خلافه هشام بن عبد الملك فيحرق جسده الطاهر ويذر فى الفرات والبساتين، ويرتد اثر هذه الثوره على اخيه الامام الباقر محمد ابن على وولده الصادق (عليهم السلام) فتفرض الرقابه عليهما ويسلط الارهاب والملاحقه لتطويق حركتهما السياسيه والفكريه فى تلك المرحله
وقد حفظ لنا التاريخ نصا لاحد قاده المعارضه المواليه لاهل البيت يصور عمق الماساه والكوارث التى حل-ت بالحزب العلوى وباتباع آل محمد (صلى اللّه عليه وآله)، فقد خاطب هذا الرجل اصحابه يدعوهم الى الثبات والاستمرار على حمل رايه المعارضه والموالاه لال محمد (صلى اللّه عليه وآله) قائلا: (انكم كنتم تقتلون، وتقطع ايديكم وارجلكم، وتسمل اعينكم، وترفعون على جذوع النخل فى حب اهل بيت نبيكم، وانتم مقيمون فى بيوتكم وطاعه عدوكم)
وفى العهد العباسى لاقى ائمه اهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم الوان الماسى والقتل والتشريد الذى تصاغر امامه الارهاب الاموى
وكان الامام الصادق (عليه السلام) يوضع تحت المراقبه والرصد والملاحقه وتحصى عليه انفاسه
وفى عهد الامام موسى بن جعفر، الكاظم (عليهما السلام) تضطر الممارسات السلطويه والارهاب العباسى ضد آل البيت واتباعهم الحسين بن على ابن الحسن فينطلق فى ناحيه فخ فى ثوره عارمه عام (168 ه ) ضد الحاكم العباسى موسى الهادى، وتحل الفاجعه بال البيت النبوى، ويقتل الحسين الثائر ويقتل معه نفر من اصحابه، فيصف الامام محمد الجواد هذه الماساه بقوله : (لم يكن لنا بعد الطف مصرع اعظم من فخ)
ثم يزج الامام موسى بن جعفر فى سجون الرشيد الرهيبه سنين عديده، حتى يستشهد فى سجن الشاهك بن سندى مدير شرطه الرشيد مسموما معذبا فى الخامس والعشرين من شهر رجب عام(183 ه )
ولم تقف معاناه ائمه اهل البيت واتباعهم من الحكام العباسيين عند هذا الحد، بل تستمر باشد صورها فيلاقى الامامان على الهادى وولده الحسن العسكرى (عليهما السلام) من بعده اشد المعاناه من الحكام العباسيين الذين عاصروهما
ولنا ان نقرا بعضا من نصوص التاريخ فى العهد العباسى لنعرف اساليب الاضطهاد والارهاب الموجهه ضد ائمه اهل البيت فنفهم جانبا من حياه الاضطهاد والتعسف والارهاب التى اضطرت ائمه اهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم الى الالتزام بالتقيه فى تلك المرحله.
فقد وصف على بن ابراهيم احد اصحاب الامام الحسن العسكرى جانبا من تلك المعاناه بقوله : (اجتمعنا بالعسكر، وترصدنا لابى محمد (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه : الا لايسلمن على احد، ولايشر الى بيده، ولايومى، فانكم لاتامنون على انفسكم)
وروى ابو هاشم الجعفرى عن داود بن الاسود وقاد حمام ابى محمد (عليه السلام) قال : دعانى سيدى ابو محمد، فدفع الى خشبه، كانها رجل باب مدوره طويله، مل ء الكف، فقال : صر بهذه الخشبه الى العمرى، فمضيت، فلما صرت الى بعض الطريق عرض لى سقاء معه بغل، فزاحمنى البغل على الطريق، فنادانى السقاء : صح على البغل، فرفعت الخشبه التى كانت معى، فضربت البغل، فانشقت، فنظرت الى كسرها فاذا فيها كتب، فبادرت سريعا فرددت الخشبه الى كمى، فجعل السقاء ينادينى ويشتمنى، ويشتم صاحبى، فلما دنوت من الدار راجعا، استقبلنى عيسى الخادم عند الباب، فقال : يقول لك مولاى لم ضربت البغل، وكسرت رجل الباب، فقلت له : يا سيدى، لم اعلم ما فى رجل الباب، فقال : ولم احتجت ان تعمل عملا تحتاج ان تعتذر منه، اياك بعدها ان تعود الى مثلها، واذا سمعت لنا شاتما فامض لسبيلك التى امرت بها، واياك ان تجاوب من يشتمنا، او تعرفه من انت، فاننا ببلد سوء، ومصر سوء، وامض فى طريقك، فان اخبارك واحوالك ترد الينا، فاعلم ذلك)
وروى محمد بن عبد العزيز البلخى، قال : (اصبحت يوما فجلست فى شارع الغنم، فاذا بابى محمد (عليه السلام) قد اقبل من منزله، يريد دار العامه، فقلت فى نفسى : ترى ان صحت ايها الناس هذا حجه اللّه عليكم فاعرفوه يقتلونى ؟ فلما دنا منى، اوما باصبعه السبابه على فيه : ان اسكت، ورايته تلك الليله يقول : انما هو الكتمان او القتل، فاتق اللّه على نفسك)
ولعل من اهم الوثائق التاريخيه المهمه التى تحكى ماساه آل البيت النبوى واضطهاد السلطات الامويه والعباسيه لهم هو كتاب مقاتل الطالبيين لابى الفرج الاصفهانى الذى عاش ما بين (284 -356 ه) وقد بلغ حجم الكتاب (460) صفحه من القطع الكبير كرسها للحديث عن محنه اهل البيت وثوراتهم وسجونهم واساليب قتلهم . وفى هذا الكتاب تحدث ابو الفرج سطورا عن موقف المتوكل العباسى من آل البيت فقال : (وكان المتوكل شديد الوطاه على آل ابى طالب، غليظا على جماعتهم، مهتما بامورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمه لهم، واتفق له ان عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسى ء الراى فيهم، فحسن له القبيح فى معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه احد من خلفاء بنى العباس قبله، وكان من ذلك ان كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق مسالح له، لايجدون احدا زاره الا اتوه به، فقتله او انهكه عقوبه . . . وكان قد بعث برجل من اصحابه يقال له الديزج، وكان يهوديا فاسلم، الى قبر الحسين، وامره بكرب قبره ومحوه واخراب كل ما حوله، فمضى الى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتى جريب، فلما بلغ الى قبره لم يتقدم اليه احد، فاحضر قوما من اليهود فكربوه، واجرى الماء حوله، ووكل به مسالح، بين كل مسلحتين ميل، لايزوره زائر الا اخذوه ووجهوا به اليه . .
ثم قال : واستعمل على المدينه ومكه عمر بن الفرج الرخجى فمنع آل ابى طالب من التعرض لمساله الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لايبلغه ان احدا ابر احدا منهم بشى ء، وان قل، الا انهكه عقوبه، واثقله غرما، حتى كان القميص يكون بين جماعه من العلويات يصلين فيه، واحده بعد واحده، ثم يرقعنه، ويجلسن على مغازلهن عوارى حواسر، الى ان قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم، واحسن اليهم)
وتحدث فى مورد آخر عن احدى حالات القتل والتعذيب التى مارسها ابو جعفر المنصور ضد آل على بن ابى طالب فقال : (اتى بهم ابو جعفر فنظر الى محمد بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن على ابن ابى طالب فقال : انت الديباج الاصفر ؟ قال: نعم
قال : اما واللّه لاقتلنك قتله ما قتلتها احدا من اهل بيتك، ثم امر باسطوانه مبنيه ففرقت، ثم ادخل فيها، فبنيت عليه، وهو حى)
ان القاء نظره تحليليه وقراءه موضوعيه امينه فى تلك النصوص والعينات التاريخيه التى لاتساوى الا جزءا يسيرا من سياسه الاضطهاد والتقتيل والسجون والارهاب والتشريد والملاحقه التى مارسها الامويون والعباسيون ضد ائمه اهل البيت وانصارهم والمتاثرين بتيارهم الفكرى والسياسى، تكشف لنا بوضوح كامل لماذا التزم ائمه اهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم بالتقيه، او الكتمان واخفاء الموقف الفكرى والسياسى المعارض لسياسه السلطه ومتبنياتها
ولعلنا ندرك بصوره اوضح موجبات التقيه الفكريه والسياسيه اذا تجاوزنا احداث التاريخ الماضيه وانتقلنا الى المعارضه الفكريه والسياسيه المعاصره التى تخوضها الحركات الاسلاميه المعارضه والتزامها بالسريه والتنظيم السرى، والتكتم على خططها ومتبنياتها لحمايه نفسها من الظلم والتعسف، فما من حركه اسلاميه معارضه على امتداد التاريخ الماضى منه والمعاصر تريد تغيير الاوضاع واصلاح السلطه والمجتمع الا وتتبنى التقيه السياسيه والتكتم على افكارها المعارضه لمتبنيات السياسه الظالمه والمنحرفه عن منهج القرآن وسيره النبوه الخالده
وذلك منطق العقل المتوافق مع حكم الشريعه واقرارها لمبدا التقيه كما قرانا فى الكتاب والسنه وآراء الفقهاء
من ذلك كله نفهم ان التقيه وسيله دفاعيه ضد الظلم والارهاب، ومن اجل حمايه الحق والحفاظ على الموقف الشرعى السليم.
التقيه ومسؤولية الاصلاح
قد يتبادر الى اذهان البعض ممن لايستوعب المفاهيم القرآنيه وتنظيم الشريعه للعلاقه بين الاحكام والمواقف والامر الواقع، ان التقيه فكره تحول المسلم الى انسان متعايش مع الامر الواقع مع ما فيه من ظلم وفساد وانحراف، وانها تربيه تفرز الازدواجيه واصطناع التوافق، فتقود الى النفاق، والرضا بكل ما يحيط بها فتنصرف عن مواجهه الظلم ومحاربه الفساد والانحراف تحت ستار الخوف على المال والنفس والكرامه، غير ان هدف التقيه هو معاكس لهذا الفهم تماما، اذ هى شرعت لتمكن المسلم الذى يعيش فى ظروف القهر والارهاب الفكرى واجواء الانحراف المسلطه عليه بالقوه، شرعت لتمكنه من المقاومه والعمل على التغيير بشكل بعيد عن اعين القوى المتحكمه والمتسلطه، فمفهوم التقيه، هو مفهوم التكتم والسريه فى العمل السياسى والفكرى الذى لايروق للحكام المنحرفين والقوى المعاديه للاتجاه السليم
ومفهوم التقيه لايلغى فريضه الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، بل يتحول عمل الفرد والجماعه التى ترى الفساد السياسى والفكرى ولاتستطيع الاعلان عن مواجهته، يتحول العمل عندها الى عمل سرى، واعداد بعيد عن انظار المتسلطين، فاذا توفرت القدره على التغيير، تم الاعلان عن المواجهه المكشوفه والصراع الواضح لتغيير البناء السياسى والفكرى والاجتماعى على اساس منهج القرآن ودعوته
وعندما تكون التضحيه بالمال والنفس مجديه للدفاع عن الحق واقامه الاسلام، تجب التضحيه عندئذ، ولاتقيه فى ذلك، فان من اهداف الجهاد بالمال والفكر والنفس والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، هو مواجهه الاوضاع غير الطبيعيه فى المجتمع الذى يعيش فيه الانسان المسلم، لذلك حرم الفقه الاسلامى التعاون مع الحاكم الظالم الفاسق، اذا كان فى هذا التعاون وتولى الوظائف للسلطه هدم الاسلام وسفك للدماء، ولو كلف الانسان دمه وماله.
لذلك جاء فى قول الامام الباقر (عليه السلام) : (فاذا بلغ الدم فلاتقيه) اى ان من حق المسلم المضطهد والمكره ان يستجيب للاوضاع الاجتماعيه، ولارهاب السلطه ويتعاون معها فى حدود دفع الضرر الاعظم عن نفسه بالموازنه بين اهون الضررين، فاذا نتج عن تجاوبه وتعاونه مع السلطه المكرهه له سفك دماء الاخرين وهدم الاسلام، فلا يجاز له التعاون مع الطغاه والظلمه، ولو ادى رفضه الى قتله وسفك دمه، ومصادره امواله
وهكذا يتضح لنا من خلال التعريف بمفهوم التقيه انه تشريع اسلامى شرع فى عهد الدعوه، وفيه نص من الكتاب والسنه، وله دواعيه وموجبات العمل به فى مسيره الحياه البشريه مما دعا ائمه اهل البيت وحركتهم التغييريه الى العمل بهذا المبدا لمواجهه السياسه الظالمه والانحراف عن منهج القرآن وقيمه، وليس هو من مبتكرات الفكر الشيعى ولا من مختصاته كما قد يتصور البعض من الناسز