تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادة تحتل مركزاً رئيسياً في الفلسفة الحديثة وخاصة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها.
وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس، وتحاول أن تستكشف الركائز الأولية للكيان الفكري الجبار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان، وكيف تكونت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار ومفاهيم، وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟؟
إن الإنسان ـ كل إنسان ـ يعلم أشياء عديدة في حياته وتتعدد في نفسه ألوان من التفكير والإدراك، ولاشك في أن كثيراً من المعارف الإنسانية ينشأ بعضها عن بعض، فيستعين الإنسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة. والمسألة هي أن نضع يدنا على الخيوط الأولية للتفكير، على الينبوع العام للإدراك بصورة عامة.
ويجب أن نعرف قبل كل شيء أن الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين، أحدهما التصور وهو الإدراك الساذج. والآخر التصديق وهو الإدراك المنطوي على حكم. فالتصور، كتصورنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت، والتصديق، كتصديقنا بأن الحرارة طاقة مستوردة من الشمس، وأن الشمس أنور من القمر الذرة قابلة للانفجار1.
ونبدأ الآن بالتصورات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها، ونتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف.
التصور ومصدره الأساسي
ونقصد بكلمة \"الأساسي\" المصدر الحقيقي للتصورات والادراكات البسيطة. ذلك أن الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصورات: أحدهما المعاني التصورية البسيطة، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض وما إلى ذلك من مفردات للتصور البشري، والقسم الآخر المعاني المركبة أي التصورات الناتجة عن الجمع بين تلك التصورات البسيطة.فقد نتصور (جبلاً من تراب) ونتصور (قطعة من الذهب) ثم نركب بين هذين التصورين فيحصل بالتركيب تصور ثالث وهو (تصور جبل من الذهب). فهذا التصور مركب في الحقيقة من التصورين الأولين وهكذا ترجع جميع التصورات المركبة إلى مفردات تصورية بسيطة.
والمسألة التي نعالجها هي محاولة المصدر الحقيقي لهذه المفردات وسبب انبثاق هذه التصورات البسيطة في الإدراك الإنساني.
وهذه المسألة لها تاريخ مهم في جميع أدوار الفلسفة اليونانية والإسلامية والأوروبية، وقد حصلت عبر تاريخها الفلسفي على عدة حلول تتلخص في النظريات الآتية:
1- نظريات الاستذكار الأفلاطونية:
وهي النظرية القائلة بأن الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة وقد ابتدع هذه النظرية أفلاطون وأقامها على فلسفته الخاصة عن المثل، وقدم النفس الإنسانية، فكان يعتقد أن النفس الإنسانية موجودة بصورة مستقلة عن البدن قبل وجوده، ولما كان وجودها هذا متحرراً من المادة وقيودها تحرراً كاملاً أتيح لها الاتصال بالمثل ـ أي بالحقائق المجردة عن المادة ـ وأمكنها العلم بها، وحين اضطرت إلى الهبوط من عالمها المجرد للاتصال بالبدن والارتباط به في دنيا المادة، فقدت بسبب ذلك كل ما كانت تعلمه من تلك المثل والحقائق الثابتة، وذهلت عنها ذهولاً تاماً، ولكنها تبدأ باسترجاع إدراكاتها عن طريق الإحساس بالمعاني الخاصة والأشياء الجزئية، لأن هذه المعاني والأشياء كلها ظلال وانعكاسات لتلك المثل والحقائق الأزلية الخالدة في العالم الذي كانت تعيش النفس فيه. فمتى أحست بمعنى خاص انتقلت فوراً إلى الحقيقة المثالية التي كانت تدركها قبل اتصالها بالبدن، وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للإنسان العام أي لمفهوم الإنسان بصورة كلية عبارة عن استذكار لحقيقة مجردة كنا قد غفلنا عنها، وإنما استذكرناها بسبب الإحساس بهذا الإنسان الخاص أو ذاك من الأفراد التي تعكس في عالم المادة تلك الحقيقة المجردة.
فالتصورات العامة سابقة على الإحساس، ولا يقوم الإحساس إلا بعملية استرجاع واستذكار لها، والادراكات العقلية لا تتعلق بالأمور الجزئية التي تدخل في نطاق الحس، وإنما تتعلق بتلك الحقائق الكلية المجردة.
وهذه النظرية ترتكز على قضيتين فلسفيتين: إحداهما أن النفس موجودة قبل وجود البدن في عالم أسمى من المادة، والأخرى أن الإدراك العقلي عبارة عن إدراك الحقائق المجردة الثابتة في ذلك العالم الأسمى والتي يصطلح عليها أفلاطون بكلمة (المثل).
وكلتا القضيتين خاطئتان كما أوضح ذلك ناقدو الفلسفة الأفلاطونية فالنفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليس شيئاً موجوداً بصورة مجردة قبل وجود البدن، بل هي نتائج حركة جوهرية في المادة، تبدأ النفس بها مادية متصفة بخصائص المادة وخاضعة لقوانينها، وتصبح بالحركة والتكامل وجوداً مجرداً عن المادة لا يتصف بصفائها ولا يخضع لقوانينها، وإن كان خاضعاً لقوانين الوجود العامة، فأن هذا المفهوم الفلسفي عن النفس هو المفهوم الوحيد الذي يستطيع أن يفسر المشكلة، ويعطي إيضاحاً معقولاً عن العلاقة القائمة بين النفس والمادة، بين النفس والبدن. وأما المفهوم الأفلاطوني الذي يفترض للنفس وجوداً سابقاً على البدن فهو أعجز ما يكون عن تفسير هذه العلاقة، وتعليل الارتباط القائم بين البدن والنفس، وعن إيضاح الظروف التي جعلت النفس تهبط من مستواها إلى المستوى المادي.
كما أن الإدراك العقلي يمكن إيضاحه مع إبعاد فكرة المثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته من أن المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميزة للأفراد واستبقاء المعنى المشترك، فليس الإنسان العام الذي ندركه حقيقة مثالية سبق أن شاهدناها في عالم أسمى، بل هو صورة هذا الإنسان أو ذاك بعد إجراء عملية التجريد عليها واستخلاص المعنى العام منها.
النظريات العقلية:
وهي لعدد من كبار فلاسفة أوروبا ك (ديكارت) و(كانت) وغيرهما.
وتتلخص هذه النظرية في الاعتقاد بوجود منبعين للتصورات: أحدهما الإحساس، فنحن نتصور الحرارة والنور والطعم والصوت لأجل إحساسنا بذلك كله، والآخر الفطرة بمعنى أن الذهن البشري يملك معان وتصورات لم تنبثق عن الحس وإنما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. وهذه التصورات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميز بالوضوح الكامل في العقل البشري. وأما عند (كانت) فالجانب الصوري للادراكات والعلوم الإنسانية كله فطري بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان والمقولات الاثنتي عشرة المعروفة عنه.
فالحس على أساس هذه النظرية مصدر فهم للتصورات والأفكار البسيطة، ولكنه ليس هو السبب الوحيد، بل هناك الفطرة التي تبعث في الذهن طائفة من التصورات.
والذي اضطر العقليين إلى اتخاذ هذه النظرية في تعليل التصورات البشرية، هو أنهم لم يجدوا لطائفة من المعاني والتصورات مبرراً لانبثاقها عن الحس لأنها معان غير محسوسة، فيجب أن تكون مستنبطة للنفس استنباطاً ذاتياً من صميمها، ويتضح من هذا أن الدافع الفلسفي إلى وضع النظرية العقلية يزول تماماً إذا استطعنا أن نفسر التصورات الذهنية تفسيراً متماسكاً من دون حاجة إلى افتراض أفكار فطرية. ولأجل ذلك يمكننا تفنيد النظرية العقلية عن طريقين:
أحدهما: تحليل الإدراك تحليلاً يرجعه برمته إلى الحس وييسر فهم كيفية تولد التصورات كافة عنه. فأن مثل هذا التحليل يجعل نظرية الأفكار الفطرية بلا مبرر مطلقاً لأنها كانت ترتكز على فصل بعض المعاني عن مجال الحس فصلاً نهائياً، فإذا أمكن تعميم الحس لشتى ميادين التصور لم تبق ضرورة للتصورات الفطرية، وهذا الطريق هو الذي اتخذه (جون لوك) للرد على (ديكارت) ونحوه من العقليين، وسار عليه رجال المبدأ الحسي مثل (باركلي) و(دافيد هيوم) بعد ذلك.
والطريق الآخر، هو الأسلوب الفلسفي للرد على التصورات الفطرية ويرتكز على قاعدة أن الآثار الكثيرة لا يمكن أن تصدر عن البسيط باعتباره بسيطاً، والنفس بسيطة فلا يمكن أن تكون سبباً بصورة فطرية لعدة من التطورات والأفكار، بل يجب أن يكون وجود هذا العدد الضخم من الادراكات لدى النفس بسبب عوامل خارجية كثيرة، وهي آلات الحس وما يطرأ عليها من مختلف الأحاسيس2.
ونقد هذا البرهان بصورة كاملة يتطلب منا أن نشرح القاعدة التي قام على أساسها، ونعطي إيضاحاً عن حقيقة النفس وبساطتها، وهذا ما لا يتسع له مجالنا الآن. ولكن يجب أن نشير:
أولاً: إلى أن هذا البرهان ـ إذا أمكن قبوله ـ فهو لا يقضي عن نظرية الأفكار الفطرية تماماً لأنه إنما يدل على عدم وجود كثرة من الادراكات بالفطرة، ولا يبرهن على أن النفس لا تملك بفطرتها شيئاً محدوداً من التصورات يتفق مع وحدتها وبساطتها، وتتولد عنه عدة أخرى من التصورات بصورة مستقلة عن الحس.
ونوضح ثانياً: أن النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الإنسانية أمكن للبرهان الذي قدمناه أن يرد عليها قائلاً أن النفس بسيطة بالذات فكيف ولدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية، بل لو كان العقليون يجنحون إلى الأيمان بذلك حقاً لكفى وجداننا البشري في الرد على نظريتهم، لأننا جميعاً نعلم أن الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أية فكرة مهما كانت واضحة وعامة في الذهنية البشرية.
(وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفئدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل/78).
ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية، ويتلخص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوة وتكتسب صفة الفعلية بتطور النفس وتكاملها الذهني. فليس التصور الفطري نابعاً من الحس وإنما يحتويه وجود النفس لا شعورياً وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً كما هو شأن الادراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوة.
والنظرية العقلية على ضوء هذا التفسير لا يمكن أن ترد بالبرهان الفلسفي أو الدليل العلمي السابق ذكرهما.
3-النظرية الحسية:
وهي النظرية القائلة أن الإحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصورات والمعاني، والقوة الذهنية هي القوة العاكسة للاحساسات المختلفة في الذهن. فنحن حين نحس بالشيء نستطيع أن نتصوره ـ أي أن نأخذ صورة عنه في ذهننا ـ وأما المعاني التي لا يمتد إليها الحس فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها ذاتياً وبصورة مستقلة.
وليس للذهن بناء على هذه النظرية إلا التصرف في صور المعاني المحسوسة، وذلك بالتركيب والتجزئة بأن يركب بين تلك الصور أو يجزئ الواحدة منها، فيتصور جبلاً من ذهب أو يجزئ الشجرة التي أدركها إلى قطع وأجزاء. أو بالتجريد والتعميم، بأن يفرز خصائص الصورة ويجردها عن صفاتها الخاصة ليصوغها منها معنى كلياً، كما إذا تصور زيداً وأسقط من الحساب كل ما يمتاز به عن عمرو، فان الذهن بعملية الطرح هذه يستبقي معنى مجرداً على زيد وعمرو معاً.
ولعل المبشر الأول بهذه النظرية الحسية هو (جون لوك) الفيلسوف الإنكليزي الكبير الذي بزغ في عصر فلسفي زاخر بمفاهيم (ديكارت) عن الأفكار الفطرية، فبدأ في تفنيد تلك المفاهيم، ووضع لأجل ذلك دراسة مفصلة للمعرفة الإنسانية في كتابه (مقالة في التفكير الإنساني)، وحاول في هذا الكتاب إرجاع جميع التصورات والأفكار إلى الحس، وقد شاعت هذه النظرية بعد ذلك بين فلاسفة أوروبا وقضت إلى حد ما على نظرية الأفكار الفطرية، وانساق معها جملة من الفلاسفة إلى أبعد حدودها حتى انتهت إلى فلسفات خطرة جداً كفلسفة (باركلي) و(دافيد هيوم) كما سوف نتبين ذلك إن شاء الله تعالى.
والماركسية تبنت هذه النظرية في تعليل الإدراك البشري، تمشياً مع رأيها في الشعور البشري وأنه انعكاس للواقع الموضوعي، فكل إدراك يرجع إلى انعكاس لواقع معين ويحصل هذا الانعكاس عن طريق الإحساس، وما يخرج عن حدود الانعكاسات الحسية لا يمكن أن يتعلق به الإدراك أو الفكر، فنحن لا نتصور إلا احساساتنا التي تشير إلى الحقائق الموضوعية القائمة في العالم الخارجي.
قال جورج بوليتزير:
\"ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر، أنها الإحساس، ثم أن مصدر الاحساسات التي يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاته الطبيعية\"3. \"الرأي الماركسي يعني إذن أن محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها. وتعطي لنا في الاحساسات وهذا كل ما في الأمر\"4.
وقال ماوتسي تونغ موضحاً الرأي الماركسي في المسألة:
\"إن مصدر كل معرفة يكمن في احساسات أعضاء الحس الجسمية في الإنسان الموضوعي الذي يحيطه\"5.
\"وإذن فالخطوة الأولى في عملية اكتساب المعرفة هي الاتصال الأولي بالمحيط الخارجي مرحلة الأحاسيس... الخطوة الثانية هي جمع المعلومات التي نحصل عليها من الادراكات الحسية وتنسيقها وترتيبها\"6.
وترتكز النظرية الحسية على التجربة، فقد دللت التجارب العلمية على أن الحس هو الإحساس الذي تنبثق عنه التصورات البشرية. فمن حرم لوناً من ألوان الحس فهو لا يستطيع أن يتصور المعاني ذات العلاقة بذلك الحس الخاص.
وهذه التجارب ـ إذا صحت ـ إنما تبرهن علمياً على أن الحس هو الينبوع الأساسي للتصور، فلولا الحس لما وجد تصور في الذهن البشري ولكنها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معان جديدة ـ لم تدرك بالحس ـ من المعاني المحسوسة، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوراتنا البسيطة جميعاً الإحساس بمعانيها كما تزعم النظرية الحسية.
فالحس على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصور البشري. ولا يعني ذلك تجريد الذهن عن الفعالية وابتكار تصورات جديدة على ضوء التصورات المستوردة من الحس.
ويمكننا أن نوضح فشل النظرية الحسية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصور البشري إلى الحس... على ضوء دراسة عدة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلة والمعلول، الجوهر والعرض، الإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصورات.
فنحن جميعاً نعلم أن الحس إنما يقع على ذات العلة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سحبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدد الفلزات في جو حار. ففي هذه الأمثلة نحس بظاهرتين متعاقبتين ولا نحس بصلة خاصة بينهما، هذه الصلة التي نسميها بالعلية، ونعني بها تأثير إحدى الظاهرتين في الأخرى، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل أن توجد. والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسياً وتقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة ميدان الحس وما يتسع له من معاني وحدود، فمهما نادى الحسيون بأن التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحس هي التي توضح مبدأ العلية، وتجعلنا نحس بصدور ظواهر مادية معينة من ظواهر أخرى مماثلة، أقول مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أن التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحس إلا الظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة وأخيراً بغليان الماء، وأما أن هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معينة فهذا ما لا يوضحه الجانب الحسي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسية قاصرة عن كشف مفهوم العلية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري وصرنا نتصوره ونفكر فيه.
وقد كان (دافيد هيوم) ـ أحد رجال المبدأ الحسي ـ أدق من غيره في تطبيق النظرية الحسية، فقد عرف أن العلية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تدرك بالحس، فأنكر مبدأ العلية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلاً: أني أرى كرة البلياردو تتحرك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية، والحس الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به إدراكاً مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
ولكن الواقع أن إنكار مبدأ العلية لا يخفف من المشكلة التي تواجه النظرية الحسية شيئاً، فان إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني أننا لم نصدق بالعلية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلية كفكرة تصديقية شيء ، ومبدأ العلية كفكرة تصورية شيء آخر، فهب أنا لم نصدق بعلية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض ولم نكون عن مبدأ العلية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك أننا لا نتصور مبدأ العلية أيضاً؟ وإذا كنا لا نتصوره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوره؟.
فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي أننا نتصور مفهوم العلية سواء أصدقنا بها أم لا. وليس تصور العلية تصوراً مركباً من تصور الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصور علية درجة معينة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان بل فكرة ثالثة تقوم بينهما. فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تدرك بالحس إذا لم يكن للذهن خلاقية لمعان غير محسوسة؟!.
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفاً، فهي جميعاً ليست من المعاني المحسوسة، فيجب طرح التفسير الحسي الخالص للتصور البشري والأخذ بنظرية الانتزاع.
4-نظرية الانتزاع:
وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة. تتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية. فالتصورات الأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد هذه التصورات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة. فنحن نتصور الحرارة لأننا أدركناها باللمس، ونتصور اللون لأننا أدركناها بالبصر، ونتصور الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق، ونتصور الرائحة لأننا أدركناها بالشم، وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا فان الإحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري. وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور وينشئ الذهن بناء على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة ويمكنها أن نفسر جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والوجود والوحدة، في الذهن البشري. أنها كلها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلاً بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين ـ ظاهرتي الغليان والحرارة ـ آلاف المرات ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقاً، وإنما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور.
ولا نستطيع في مجالنا المحدود أن نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه لأننا لا نتناول في دراستنا الخاطفة هذه إلا الإشارة إلى الخطوط العريضة.
هوامش
--------------------------------
1 ولبعض الفلاسفة الحسيين (كجون ستورات ميل) نظرية خاصة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصورين متداعين. فمرد التصديق إلى قوانين تداعي المعاني، وليس المحتوى النفسي إلا تصور الموضوع وتصور المحمول، ولكن الحقيقة أن تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كل الاختلاف، فهو قد يتحقق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق، فالرجال التاريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألواناً من البطولات يقترن تصورهم في ذهننا بتصور تلك البطولات، وتتدعى التصورات، ومع ذلك فقد لا نصدق بشيء من تلك الأساطير. فالتصديق إذن عنصر جديد يمتاز على التصور الخالص، وعدم التمييز بين التصور والتصديق في عدة من الدراسات الفلسفية الحديثة أدى إلى جملة من الأخطاء، وجعل عدة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والإدراك من دون أن يضعوا فارقاً بين التصور والتصديق. وستعرف أن النظرية الإسلامية تفصل بينهما وتشرح المسألة في كل منهما بأسلوب خاص.
2 وبكلمة أكثر تفضيلاً، إن كثرة الآثار تكشف عن أحد أمور: أما كثرة الفاعل، وأما كثرة القابل، وأما الترتيب المنطقي بين الآثار ذواتها، وأما كثرة الشرائط. وفي مسألتنا لا شك في أن التصورات التي نبحث عن منشئها كثيرة ومتنوعة مع أنه لا كثرة في الفاعل والقابل، لأن الفاعل والقابل للتصورات هو النفس والنفس بسيطة، ولا ترتيب أيضاً بين التصورات فلا يبقى إلا أن نأخذ بالتفسير الأخير وهو أن تستند التصورات الكثيرة إلى شرائط خارجية وهي الاحساسات المختلفة المتنوعة.
3 المادية والمثالية في الفلسفة ص75.
4 المصدر السابق ص71-72.
5 حول التطبيق ص11.
6 حول التطبيق ص14.