اخـبـر اللّه سبحانه في سورة الحجر ان ابليس لاسلطان له على عباده المخلصين , في ذكره مادار بينه وبين ابليس من محاورة وذلك في قوله تعالى :
(رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين قال ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ) (الايات 39 ـ 42).
واخـبر تعالى عما جرى بين يوسف وزليخا, وكيف يعصم اللّه المخلصين من اغواء الشيطان , حيث قـال تـعـالـى في سورة يوسف : (ولقد همت به وهم بها لولا ان راى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين ) (الاية 24).
وعـرفنا ان الوصف المذكور من شروط الامامة في ما اخبر اللّه عما دار بينه وبين خليله ابراهيم (ع ) في سورة البقرة , وقال :
(واذ ابـتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (الاية 124).
وذكر في سورة الانبياء ان الذين جعلهم ائمة , يهدون بامره وقال تعالى :
(وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا ) (الاية 73).
وذكـر مـنهم في تلك السورة نوحا وابراهيم ولوطا واسماعيل وايوب وذا الكفل ويونس وموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى (ع ).
وكان في من وصفهم بالامامة في هذه السورة : النبي والرسول والوزير والوصي اذا فقد بان لنا ان اللّه تبارك وتعالى اشترط لمن جعله اماما ان يكون غير ظالم .
وقد وصف اللّه الامام بانه خليفته في الارض كما ورد في خطابه لداود (ع ) في سورة ص :
(يا داود انا جعلناك خليفة في الارض ) (الاية 26).
وورد في وصفه لادم (ع ) في خطابه للملائكة في سورة البقرة :
(واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة ) (الاية 30).
كما سنشرحه بعد تفسير كلمات الايات ان شاء اللّه تعالى .
شرح الكلمات :
ا ـ اغويتني , ولاغوينهم , والغاوين .
غوى فهو غاو: انهمك في الغي .
واغـواه : اضـله واغراه وقصد اللعين بقوله اغويتني : انه تعالى بلعنه وقوله له قبل هذه الاية (وان عـليك اللعنة الى يوم الدين ) ابعده عن رحمته جزاء تمرده وامتناعه عن السجود لادم كما قال تعالى في سورة البقرة : (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا.
الفاسقين ) (الاية 26).
ب ـ لازينن لهم :
اي : احـسـن لـهـم سوء اعمالهم كما قال سبحانه وتعالى : (زين لهم الشيطان اعمالهم ) (الانفال 48 والنحل 24 والعنكبوت 37) و(زين لهم سوء اعمالهم ) (التوبة 37).
ج ـ المخلصين .
المخلصون : هم الذين اخلصهم اللّه لنفسه بعدما اخلصوا انفسهم للّه , فليس في قلوبهم محل لغيره .
د ـ ابتلى :
بلاه بلاء وابتلاه ابتلاء: امتحنه واختبره بالخير والشر والنعمة والنقمة .
هـ ـ بكلمات :
الـمقصود من الكلمات هنا قضايا امتحن اللّه بها ابراهيم (ع ), مثل ابتلائه بعباد الكواكب والاصنام , واحراقه بالنار, وتضحيته بابنه , وامثالها.
و ـ فاتمهن:
اي اكمل اداءهن.
ز ـ جاعلك :
وردت (جعل ) بمعنى : خلق واوجد وحكم وشرع وقرر وصير, والاخير هو المقصود هنا.
خ ـ اماما:
الامام : هو المقتدى للناس في الاقوال والافعال .
ط ـ الظالمين :
الظلم : وضع الشي ء في غير موضعه والظلم ـ ايضا ـ تجاوز الحق .
والظلم ثلاثة انواع :
اولاـ ظلم بين الانسان وربه , واعظمه الشرك والكفر, كما قال سبحانه في سورة لقمان :
(ان الشرك لظلم عظيم ) (الاية 13).
وفي سورة الانعام :
(فمن اظلم ممن كذب بيات اللّه ) (الاية 157).
ثانيا ـ ظلم بين الانسان وغيره , كما قال سبحانه وتعالى في سورة الشورى :
(انما السبيل على الذين يظلمون الناس ) (الاية 42).
ثالثا ـ ظلم الانسان نفسه , كما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة :
( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ) (الاية 231).
وفي سورة الطلاق :
(ومن يتعد حدوداللّه فقد ظلم نفسه ) (الاية 1).
وكل نوع من الظلم ظلم للنفس .
يقال لمن اتصف بالظلم في اي زمان من عمره المتقدم منه او المتاخر: ظالم .
ى ـ همت به وهم بها.
هم بالامر: عزم على القيام به ولم يفعله .
ك ـ راى :
راى بالعين : نظر, وبالقلب : ابصر, وادرك .
ل ـ برهان :
البرهان : اوكد الادلة , والحجة والبينة الفاصلة , وما رآه يوسف اكثر من هذا.
تاويل الايات واللّه اعلم :
قـال ابـلـيس لرب العالمين : رب بما لعنتني وابعدتني عن رحمتك لازيين للناس في دار الدنيا الاعمال السيئة , كما قال سبحانه :
ا ـ في سورة النحل :
(لقد ارسلنا الى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم ) (الاية 63).
ب ـ في سورة الانفال :
(واذ زين لهم الشيطان اعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم ) (الاية 48).
ج ـ في سورة النمل :
( يسجدون للشمس من دون اللّه وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل ) (الاية 24).
وقال الشيطان : لازينن للناس اعمالهم ولاغوينهم اجمعين الا عبادك الذين اصطفيتهم لنفسك .
وقـال اللّه فـي جوابه : انك لا سلطة لك الا على من اتبعك من المنهمكين في الغي والضلالة , واخبر تعالى عن شان عباده المخلصين في ما حكاه عن خبر يوسف (ع ) وزليخا, حيث قال : (ولقد همت به وهم بها لولا ان راى برهان ربه ) في بيت خلا عن كل انسان ما عدا يوسف (ع ).
وزليخا عزيزة مصر ومالكة يوسف همت ان تنال ماربها من يوسف , ولولا ان يوسف راى برهان ربه لـهـمـ بـقتلها وهو السوء, او هم بالفحشاء كما هو مقتضى طبيعة الحال التي كان عليها الفتى مكتمل الـرجـولـة غير المتزوج مع مالكته الفتاة مكتملة الانوثة المترفة في بيت خلا من كل احد, ولكنه راى برهان ربه واستعصم , فقد كان ممن اخلصه اللّه لنفسه فما هو البرهان الذي رآه يوسف (ع )؟ وكيف رآه ؟.
ان يوسف (ع ) راى آثار العملين على نفسه كالاتي بيانه :
ـ 2 و3 ـ.
اثـر الـعمل وخلوده وانتشار البركة والشؤم من بعض الاعمال على الزمان والمكان وعصمة خلفاء اللّه عن المعصية لرؤيتهم ذلك .
لـمـعـرفة معنى عصمة الانبياء ينبغي ان ندرس كيفية انتشار البركة والشؤم على الزمان والمكان وآثار اعمال الانسان في الدنيا والاخرة , فنستعين اللّه ونقول :
قال اللّه سبحانه وتعالى :
(شـهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (الاية 185).
ب ـ في سورة القدر:
(انـا انـزلـنـاه فـي ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر سلام هي حتى مطلع الفجر).
انـزل اللّه الـقـرآن على خاتم انبيائه في ليلة من ليالي شهر رمضان , فاصبحت تلك الليلة ليلة القدر تتنزل الملائكة والروح فيها كل سنة بامر ربهم ابد الدهر, وانتشرت البركة من تلك الليلة الى كل شهر رمضان كذلك ابد الدهر.
وسـنـدرس في بحث النسخ ان شاء اللّه تعالى ان الجمعة اصبحت مباركة منذ عهد آدم (ع ) لما انزل اللّه سـبحانه وتعالى فيها من البركات على آدم (ع ), وان عصر التاسع من ذي الحجة اصبح مباركا يـغـفـر اللّه ذنـوب عـباده فيه بمنى لنزول المغفرة على آدم (ع ) فيه , واصبحت اراضي عرفات والـمشعر ومنى اراضي مباركة في التاسع والعاشر من ذي الحجة على كل بني آدم (ع ) بعد ذلك , وبقي اثرها كذلك ابد الدهر.
وكـذلـك اصبح اثر قدمي ابراهيم (ع ) في البيت على تلك الكتلة من الطين التي رقى عليها ابراهيم (ع ) لبناء جدار البيت مباركا, فامرنا اللّه باتخاذها مصلى بعد ذلك ابد الدهر وقال : (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ).
وكذلك الشان في انتشار الشؤم كما كان من امر بيوت عاد في الحجر بعد نزول العذاب عليهم , كما اخـبـرنـا رسول اللّه (ص ) عنها عند مروره عليها في غزوة تبوك , وجاء خبره في كتب الحديث والسيرة , وقالوا ما موجزه :
لما سار رسول اللّه (ص ) الى غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة مر بالحجر ـ ديار ثمود بوادي الـقرى في طريق الشام من المدينة ـ فنزل قبل ان يمر بها, فاستقى الجيش من بئرها, فنادى منادي الـنبي ان (لا تشربوا من ماء بئرهم , ولا تتوضاوا منه للصلاة ) فجعل الناس يهريقون ما في اسقيتهم وقالوا: (يا رسول اللّه قد عجنا, قال : اعلفوها الابل خوف ان يصيبكم مثل ما اصابهم ).
ولـما ارتحل ومر بالحجر, سجى ((85)) ثوبه على وجهه واستحث راحلته وفعل الجيش كذلك , وقال رسول اللّه (ص ):
(لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا الا وانتم باكون ).
وجـاءه رجل بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين , فاعرض عنه واستتر بيده ان ينظر اليه , وقـال : (القه ((86)) ووقع نظير ذلك للامام علي (ع ) كما رواه نصر بن مزاحم وغيره , واللفظ لنصر في كتابه (وقعة صفين ) بسنده , وقال :
كان مخنف بن سليم يساير عليا ببابل ((87)) فقال الامام علي (ع ): (ان ببابل ارضا خسف بها فحرك دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها).
قـال : فـحـرك دابـتـه وحـرك الـنـاس دوابـهـم في اثره , فلما جشر الصراة نزل فصلى بالناس العصر ((88)) .
وفي رواية راو آخر:
قـطـعنا مع امير المؤمنين جسر الصراة في وقت العصر, فقال : (ان هذه ارض معذبة لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي ان يصلي فيها) ((89)) .
هكذا كان للبركة انتشار من االزمان الذي بارك اللّه فيه لعبد من عباده المخلصين , وللشؤم انتشار من الزمان الذي غضب فيه على عبيده الاشقياء.
وسـوف نرى في بحث آثار العمل الاتي ان لاعمال الناس آثارا خالدة في الدنيا وفي الاخرة تتجسد لتخلد نارا وقودها الناس والحجارة , او نعيما في جنات عدن وكل ذلكم الانتشار وتلكم الاثار يراها عباد اللّه المخلصون ويدركونها, فتدفعهم الى الاجتهاد في اداء الاعمال الصالحة واجتناب الاعمال السيئة من الفحشاء والسوء والمنكر.
وتلكم الرؤية هي برهان اللّه الذي يؤتي اللّه من عباده من تزكى وآثر رضى اللّه على هوى النفس الامارة بالسوء, ومن ثم لا تصدر من عباده المخلصين معصية موبقة , ومثلهم في ذلك مثل انسان بصير وآخـر ضـريـر يسيران معا في طريق واحد كثيرة العثرات والمهاوي المردية , يتجنبها البصير وينبه صاحبه الضرير ليتجنبها.
او كمثل اناس عطاشى امامهم ماء تتوق انفسهم الى شربه ليبردوا به حرارة عطشهم , وفيهم طبيب مـعـه مـجهر نظر من خلاله الى ذلك الماء وابصر فيه انواعا من الجراثيم المهلكة , واخبر صحبه بلزوم تصفية الماء قبل الاستفادة منه .
هـكـذا مثل عباد اللّه المخلصين في رؤيتهم البرهان وتبصرهم بحقائق الاعمال وآثارها السيئة او الـحسنة , فهم مع تلك الرؤية لقبح فعل المعصية وشناعتها في الدنيا وتجسده نارا محرقة خالدة في الاخـرة , لا يـمكن ان يقدموا على العمل بها مختارين وغير مجبورين على تركها, او ممنوعين من قبل اللّه من اتيانها.
ومـا يـوردون مـن شـبهات حول عصمة الانبياء مستشهدين بيات متشابهة , اخطاوا في تاويل بعضها وفـسروا بعضها الاخر بروايات زائفة ولكي لا يطول البحث نكتفي بايراد امثلة من النوعين في ما
ياتي :
ـ 4 ـ.
روايات مكذوبة على نبي اللّه داود وعلى خاتم الانبياء. روايات مكذوبة على نبي اللّه داود في زواجه بارملة اوريا, وعلى خاتم الانبياء في زواجه بزينب مطللقة من تبناه بروايات زائفة , والحكمة في الامرين .
نـدرس من هذا النوع الروايات التي وردت في خبر زواج داود بارملة اوريا, وزواج خاتم الانبياء (ص ) بمطلقة زيد كالاتي :
ا ـ زواج داود (ع ) في القرآن الكريم :
قال اللّه سبحانه في سورة ص :
(اصـبـر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد انه اواب انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له اواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وهل اتاك نبا الـخصم اذ تسوروا المحراب اذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لاتخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم وظن داود انما فتناه فـاسـتـغفر ربه وخر راكعا واناب فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مب يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ) (الايات 17 ـ 26).
تاويل الايات في روايات مدرسة الخلفاء
الـروايـات بـمدرسة الخلفاء في تاويل آيات خبر حكم داود (ع ) كثيرة , ونحن نكتفي في ما ياتي بايراد ثلاثة نماذج منها باذنه تعالى :
اـ رواية وهب بن منبه :
روى الطبري في تاويل الاية عن وهب انه قال :
(لـمـا اجـتمعت بنو اسرائيل على داود, انزل اللّه عليه الزبور, وعلمه صنعة الحديد, فالانه له , وامـر الـجـبال والطير ان يسبحن معه اذا سبح , ولم يعط اللّه ـ فيما يذكرون ـ احدا من خلقه مثل صـوته , كان اذا قرا الزبور ـ فيما يذكرون ـ تدنو له الوحوش حتى ياخذ باعناقها, وانها لمصيخة تـسـمـع لـصوته , وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج الا على اصناف صوته , وكان شديد الاجتهاد, دائب العبادة , فاقام في بني اسرائيل , يحكم فيهم بامر اللّه نبيا مستخلفا, وكان شديد الاجـتـهـاد مـن الانبياء, كثير البكاء, ثم عرض من فتنة تلك المراة ما عرض له , وكان له محراب يـتـوحد فيه لتلاوة الزبور ولصلاته اذا صلى , وكان اسفل منه جنينة لرجل من بني اسرائيل , كان عند ذلك الرجل المراة التي اصاب داود فيها ما اصابه .
وانـه حـين دخل محرابه ذلك اليوم , قال : لا يدخلن علي محرابي اليوم احد حتى الليل , ولا يشغلني شـي ء عـمـا خلوت له حتى امسي , ودخل محرابه ونشر زبوره يقرؤه , وفي المحراب كوة تطلعه على تلك الجنينة , فبينا هو جالس يقرا زبوره , اذ اقبلت حمامة من ذهب حتى وقعت في الكوة , فرفع راسـه فـرآها فاعجبته , ثم ذكر ما كان قال : لا يشغله شي ء عما دخل له , فنكس راسه , واقبل على زبـوره , فـتصوبت الحمامة للبلاء والاختبار من الكوة , فوقعت بين يديه , فتناولها بيده , فاستاخرت غـيـر بـعيد, فاتبعها, فنهضت الى الكوة , فتناولها في الكوة , فتصوبت الى الجنينه , فاتبعها بصره اين تـقـع , فاذا المراة جالسة تغتسل , بهيئة اللّه اعلم بها في الجمال والحسن والخلق فيزعمون انها لما راتـه نـقـضت راسها فوارت به جسدها منه , واختطفت قلبه , ورجع الى زبوره ومجلسه , وهي من شـانـه , لا يفارق قلبه ذكرها, وتمادى به البلاء, حتى اغزى زوجها, ثم امر صاحب جيشه ـ فيما يـزعـم اهل الكتاب ـ ان يقدم زوجها للمهالك , حتى اصابه بعض ما اراد به من الهلاك , ولداود تسع وتـسـعـون امراة , فلما اصيب زوجها خطبها داود, فنكحها, فبعث اللّه اليه وهو في محرابه ملكين يـخـتـصمان اليه , مثلا يضرب له ولصاحبه , فلم يرع داود الابهما واقفين على راسه في محرابه , فقال : ماادخلكما علي ؟ لا تخف , لم ندخل لباس ولا لريبة (خصمان بغى بعضنا على .
بـعض ) فجئناك لتقضى بيننا (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط, واهدنا الى سواء الصراط): اي احملنا على الحق , ولا تخالف بنا الى غيره , قال الملك الذي يتكلم عن اوريا بن حنانيا زوج المراة : (ان هذا اخي ): اي على ديني (له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة , فقال اكفلنيها): اي احملني عليها, ثم عـزنـي في الخطاب : اي قهرني في الخطاب , وكان اقوى مني هو واعز, فحاز نعجتي الى نعاجه , وتـركـني لا شي ء لي فغضب داود, فنظر الى خصمه الذي لم يتكلم , فقال : لئن كان صدقني ما يقول , لاضـربن بين عينيك بالفاس , ثم ارعوى داود, فعرف انه هو الذي يراد بما صنع في امراة (اوريا), فـوقع ساجدا تائبا منيبا باكيا, فسجد اربعين صباحا صائما لا ياكل فيها ولا يشرب , حتى انبت دمعه الخضر تحت وجهه وحتى اندب السجود في لحم وجهه , فتاب اللّه عليه وقبل منه .
ويزعمون انه قال : اي رب هذا غفرت ما جنيت في شان المراة , فكيف بدم القتيل المظلوم ؟ قيل له : يا داود ـ فيما زعم اهل الكتاب ـ اما ان ربك لم يظلمه بدمه ولكنه سيساله اياك فيعطيه , فيضعه عنك , فـلـما فرج عن داود ما كان فيه رسم خطيئته في كفه اليمنى : بطن راحته , فما رفع الى فيه طعاما ولا شـرابـا قـط الا بكى اذا رآها, وما قام خطيبا في الناس قط الا نشر راحته فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته ((90)) .
ب ـ رواية الحسن البصري :
روى الطبري والسيوطي في تفسير الاية عن الحسن البصري انه قال :
ان داود جزا الدهر اربعة اجزاء: يوما لنسائه , ويوما لعبادته , ويوما لقضاء بني اسرائيل , ويوما لبني اسـرائيل , يذاكرهم ويذاكرونه , ويبكيهم ويبكونه , فلما كان يوم بني اسرائيل قال : ذكروا فقالوا: هـل ياتي على الانسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فاضمر داود في نفسه انه سيطيق ذلك , فلما كان يوم عبادته , اغلق ابوابه , وامر ان لا يدخل عليه احد, واكب على التوراة , فبينما هو يقرؤها, فاذا حمامة من ذهب , فيها من كل لون حسن , قد وقعت بين يديه , فاهوى اليها لياخذها, قال : فطارت , فوقعت غير بـعيد من غير ان تؤيسه من نفسها, قال : فما زال يتبعها حتى اشرف على امراة تغتسل , فاعجبه خلقها وحسنها, قال : فلما رات ظله في الارض , جللت نفسها بشعرها, فزاده ذلك ايضا اعجابا بها, وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه , فكتب اليه ان يسير الى مكان كذا وكذا, مكان اذا سار اليه لم يرجع , قال : ففعل , فاصيب فخطبها فتزوجها ((91)) .
ج ـ رواية يزيد الرقاشي عن انس بن مالك :
اخرج الطبري والسيوطي بتفسير الاية بسندهما عن يزيد الرقاشي ما موجزه :
عن يزيد الرقاشي عن انس بن مالك , سمعه يقول :
سمعت رسول اللّه (ص ) يقول : ان داود (ص ) حين نظر الى المراة قطع على بني اسرائيل واوصى صـاحب الجيش فقال : اذا حضر العدو تضرب فلانا بين يدي التابوت , وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل او ينهزم منه الجيش , فقتل وتزوج المراة , ونـزل الـملكان على داود (ع ), فسجد فمكث اربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على راسـه , فـاكـلـت الارض جـبـينه وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلة ابعد مما بين المشرق والـمـغرب , رب ان لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثا في المخلوق من بعده فجاء جـبريل (ع ) من بعد اربعين ليلة فقال : ياداود ان اللّه قد غفر لك وقد عرفت ان اللّه عدل لا يميل , فكيف بفلان اذا جاء يوم القيامة فقال : يا رب دمي الذي عند داود؟ قال جبريل : ما سالت ربك عن ذلك فـان شـئت لافـعلن , فقال : نعم , ففرح جبريل وسجد داود (ع ), فمكث ما شاء اللّه ثم نزل فقال : قد سـالت اللّه يا داود عن الذي ارسلتني فيها فقال : قل لداود ان اللّه يجمعكما يوم القيامة فيقول هب لي دمـك الـذي عـنـد داود, فيقول هو لك يا رب , فيقول : فان لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا ((92)) .
.
هكذا جاءت الروايات عن خبر نبي اللّه داود (ع ) في التفاسير وفي ما ياتي ندرس اسانيدها:
دراسة اسانيد الروايات :
ا ـ وهب بن منبه :
كان ابوه من ابناء الفرس الذين بعث بهم كسرى الى اليمن وفي ترجمته بطبقات ابن سعد ما موجزه :
قـال وهـب : قـرات اثنين وتسعين كتابا كلها انزلت من السماء, اثنان وسبعون منها في الكنائس وفي ايدي الناس , وعشرون لا يعلمها الا قليل (ت 110 هـ).
وقـال الدكتور جواد علي : يقال ان وهبا من اصل يهودي , وكان يزعم انه يتقن اليونانية والسريانية والحميرية وقراءة الكتابات القديمة وذكر في كشف الظنون من تليفه (قصص الانبياء) ((93)) .
ب ـ الحسن البصري :
ابـو سـعيد, كان ابوه مولى زيد بن ثابت الانصاري , ولد لسنتين بقيت من خلافة عمر, وعاش ومات فـي الـبـصـرة سنة 110 هـ, وكان غاية في الفصاحة والبلاغة , مهابا عند الناس وسلطة الخلافة , واماما لاتباع مدرسة الخلفاء بالبصرة ((94)) .
رايه :
يـظـهر من روايات وردت بترجمته في طبقات ابن سعد انه كان يقول بالقدر ويناظر فيه , ثم رجع عنه , وانه كان لا يرى الخروج على السلطة الظالمة كالحجاج .
قيمة رواياته :
في ترجمته بميزان الاعتدال ((95)) . كـان الـحـسن كثير التدليس فاذا قال في حديث : عن فلان ضعف لحاجة , ولا سيما عمن قيل انه لم يسمع منهم كابي هريرة ونحوه , فعدوا ما كان له عن ابي هريرة في جملة المنقطع واللّه اعلم .
اي ان الحسن اذا قال في حديث : (عن فلان ) ضعفت روايته عن فلان لحاجته الى ذلك القول , لا سيما فـي ما يرويه عمن لم يسمعهم مثل رواياته عن ابي هريرة ونحوها ممن روى عنهم في حين انه لم يشاهدهم .
وبترجمته بطبقات ابن سعد بسنده عن علي بن زيد انه قال :
حـدثت الحسن بحديث فاذا هو يحدث به , قال : قلت يا ابا سعيد انا حدثتكم .
وروى ـ ايضا ـ انه قيل له : ارايت ما تفتي الناس اشياء سمعتها ام برايك ؟ فقال : لا واللّه ما كل ما نفتي به سمعناه , ولكن راينا خير لهم من رايهم لانفسهم ((96)) .
تـخرج من مدرسته واصل بن عطاء (ت : 131 هـ) مؤسس مذهب الاعتزال , وابن ابي العوجاء احد مشاهير الزنادقة قيل له : تركت مذهب صاحبك ودخلت في مالا اصل له ولا حقيقة كان مخلطا, يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر, فما اعلمه اعتقد مذهبا فدام عليه .
قتله على الزندقة والي الكوفة سنة 155 هـ, قال عند قتله : (لئن قتلتموني لقد وضعت اربعة آلاف حـديـث احـرم فـيـه مـا احـلـ اللّه , واحرم فيه ما احل اللّه , فطرتكم يوم صومكم وصومتكم يوم فطركم ) ((97)) .
ج ـ يزيد بن ابان الرقاشي :
المحدث القاص البصري والزاهد البكاء من غير دراية وفقه .
في ترجمته في تهذيب الكمال للمزي وتهذيب التهذيب لابن حجر ما موجزه ((98)) .
ا ـ عن زهده :
جوع نفسه وعطشها, ذبل جسمه ونهك بدنه وتغير لونه كان يبكي ويبكي جلساءه ويقول ـ مثلا ـ: تـعالوا نبكي على الماء البارد يوم الظما, ويقول : على الماء البارد السلام بالنهار, قال : وفعل مالم يقله رسـول اللّه ولـم يـفعله , وقال اللّه سبحانه : (قل من حرم زينة اللّه التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا).
ب ـ عن رايه : كان ضعيفا قدريا ((99)) .
ج ـ عن قيمة رواياته :
رووا عـن شعبة انه قال : لان اقطع الطريق احب الي من ان اروي عنه , وقال : لان ازني احب الي من ان اروي عنه .
وقالوا في حديثه : منكر الحديث , متروك الحديث , لا يكتب حديثه وقال ابو حاتم : كان واعظا بكاء كثير الرواية عن انس بما فيه نظر, وفي حديثه ضعف .
وفـي تـهـذيب التهذيب : قال ابن حبان : كان من خيار عباد اللّه من البكائين بالليل , لكنه غفل عن حفظ الـحـديـث شـغـلا بالعبادة حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن انس عن النبي (ص ), فلا تحل الرواية عنه الا على جهة التعجب .
وفاته :
توفي يزيد بن ابان قبل العشرين ومائة هجرية ((100)) .