الأصلُ العشرون بعد المائة: حدّ الإيمان والكُفر
إنّ حدَّ «الإيمان» و «الكُفر» من المباحث الكلاميّة والإعتقادية الهامّة جدّاً.
فالإيمان في اللُّغة يعني التّصديق و «الكُفر» يعني السَتر، ولهذا يُقال للزارع «كافر» لأنّه يستر الحبَّةَ بالتراب، ولكن المقصود من «الإيمان» في المصطلَح الدينيّ (وفي علم الكلام والعقيدة) هو الإعتقاد بوحدانيَّة الله تعالى، والآخرة ورسالة النبي الخاتم محمّد المصطفى ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ .
على أنَّ الإيمان برسالة النبيّ الخاتِم يشمُلُ الإيمانَ بِنبوّة الأنبياء السابقين عليه، والكتب السّماوية السابقة، وما أتى به نبيُّ الإسلام من تعاليم وأحكام إسلاميّة للبشر من جانب الله أيضاً.
إنّ المكان الواقعي والحقيقي للإيمان هو قلب الإنسان وفؤادُه كما يقول القرآن:
( أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) ([1] ) . كما أنّه يقول لسُكّان البَوادي الذِين استسْلَمُوا لِلحاكميّة الإسلامية وسلطتها من دون أن يَدخلَ الإيمانُ في أفئدتِهِم:
( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ) ([2] ) .
ولكنّ الحكمَ بإيمان الشخص مشروطٌ بأن يعبّر عن ذلك بِلسانه وإقرارِهِ اللفظي أو يُظهِرَه بطريق آخر، أو لا يُنكر اعتقادَه به على الأقل، وذلك لأنّ في غير هذه الصورة لا يُحكم بإيمانِهِ كما قال :
( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) ([3] ) .
في ضوءِ هذا يكونُ قد تبيَّنَ معنى «الكفر» وحدّه أيضاً، فاذا أنكر شخصٌ وحدانيّةَ الحقِّ تعالى، أو أنكرَ يومَ القيامة، أو رسالة النبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ حُكِمَ بكفره حتماً، كما أنّ إنكار أحد مسلّمات الدين المحمديّ وضروريّاته التي يكون إنكارها مستلزِماً لإنكار رسالةِ النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ بشكل واضح يجعلُ الإنسانَ محكوماً بالكفر أيضاً.
فعندما أعطى رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ الراية لعلي ـ عليه السَّلام ـ لفتحِ قِلاعِ خيبر، وأخبرَ الناسَ بأن حاملَ هذه الراية سيفتح خيبراً، في هذه اللحظة قال الإمامُ عليٌ ـ عليه السَّلام ـ لرسول اللهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : يا رسولَ الله على مَ أُقاتلهُمْ؟؟
فقال النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «قاتِلْهُمْ حَتّى يَشهَدُوا أنْ لا إِله إلاّ اللهُ وأنّ محمداً رسولُ الله، فإذا فَعَلُوا ذلك فقد مَنَعوا مِنْكَ دِماءَهُمْ وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله».([4] )
وسَأَلَ شخصٌ الإمامَ الصادق ـ عليه السَّلام ـ فقال: ما أدنى ما يكونُ به العَبدُ مُؤمِناً؟
قالَ ـ عليه السَّلام ـ : «يَشْهَد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ مُحمداً عبدُهُ ورسولهُ، ويُقرّ بالطّاعَةِ، ويعرف إمامَ زمانِهِ، فاذا فَعل ذلكَ فَهُو مؤمِنٌ».([5] )
الأصلُ الواحدُ والعشرون بعد المائة: الإيمان مشروط بالالتزام بالعمل الصالح
إنّ حقيقةَ الإيمان وان كانت هي الإعتقاد القلبي (المشروط بالإظهار أو عدم الإنكار على الأقلّ) ولكن يجب ان لا يُظَنَّ أنّ هذا القَدَر من الإيمان كاف في فلاحِ الإنسانِ، بل يجب على الشَخْصِ أن يَلتَزِمَ بلوازم الإيمان وآثاره العَمَليّة أيضاً.
ولهذا فقد وُصِف المؤمنُ الواقعي وعُرّف في كثير من الآيات والرّوايات بأنه الملتزم بآثار الإيمان، والمؤدّي للفرائض الإلهيّة.
فقد اعتبر القرآنُ الكريمُ في سورة «العصر» كلّ الناس في خسر إلاّ من اتّصف بالصّفات التالية حيث قال:
( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالحَقّ وَتَواصَوْا بِالصَّبرِ) ([6] ) .
وقد روى الإمامُ الباقر ـ عليه السَّلام ـ عن الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ أن رجلاً قال له: من شهد أن لا إله إلاّ اللهُ وأنّ محمّداً رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ كانَ مؤمناً؟
قال: «فأينَ فرائضُ الله»؟([7] )
وَقال ـ عليه السَّلام ـ أيضاً: «لو كانَ الإيمان كلاماً، لم ينزلْ فيه صومٌ، ولا صلاةٌ، ولا حلالٌ، ولا حرام».([8] )
فيُستنتَج من البَيان السابق أنّ الإيمان ذو مراتب ودَرَجات، وأنّ لكلِ مرتبة أثراً خاصّاً بها، وأن الاعتقاد إذا اقترن بالإظهار أو عدم الإنكار على الأقل، كان أضعف مراتب الإيمان وأدونها، وتترتّب عليه سلسلةٌ من الآثار الدِينيّة، والدنيويّة، في حين أن المرتبة الأُخرى للإيمان التي توجب فلاحَ الإنسان في الدنيا والآخرة رهنٌ للإلتزام بآثاره العمليّة.
والنقطة الجديرةُ بالِذّكر هي أنّ بعضَ الروايات اعتبرت العَمَلَ بالفرائض الدينيّة ركناً من أركان الإيمان، فقد روى الإمامُ الرضا ـ عليه السَّلام ـ عن رسولِ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: «الإيمان معرفة بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان»([9] ).
وفي بعضِ الرّوايات جُعِلَت أُمور، مثل إقامة الفرائض، وأداء الزكاة والحج، وصومِ شهرِ رمَضَان، إلى جانب الشهادتين أيضاً.([10] )
إنّ هذه الروايات إمّا هي ناظرةٌ إلى أنّه يمكن تمييز المسلم عن غير المسلم بواسطة هذهِ الأَعمال، أو أنّ ذكرَ الشهادتين إنّما يكونُ سبباً للنجاة وموجباً للفلاح إذا اقترنَت وانضمّت إلى أعمال شرعية أهمُّها وأبرزُها: الصلاةُ، والزكاةُ، والحجُ، والصوم.
بالنَظَر إلى هذين الأصلين يجب أن لا تُكَفِّرَ أيَّةُ فِرقة من فِرَقِ المسلمين الفرقةَ الإسلامية الأُخرى التي تخالفُها في بعض الفرُوع، لأنّ ملاكَ «الكُفر» هو أنْ ينكرَ الشخصُ أحدَ الأُصول الثلاثة، أو إنكار ما يلزَمُ من إنكاره إنكار أحَدِ الأُصول الثلاثة المذكورَة، وهذه الملازمة إنّما تتحقَّق إذا كان حكمُ ذلك الشيء بديهيّاً من وجهة نظرِ الشَرع، وواضحاً جِدّاً إلى درجة أنّه لا يستطيع أنْ يجمعَ بين إنكاره والاعترافِ بالأُصول الثلاثة.
وعلى هذا الأساس ينبغي للمسلمين أن يحفظوا في جميع المراحل أُخوَّتَهم الإسلاميَّة، ولا يَسْمَحُوا بأنْ يَصيرَ الاختلافُ في الأُمور المتعلّقة بالاُصولِ سبباً للنزاع، وربّما لتفسيقِ أو تكفير فرقة لأُخرى، وأن يكتفوا في الاختلافات الفكريّة والعقيديّة بالحوار العلميّ والمناقشة الموضوعيّة، ويتجنَّبوا إقحام التعصُّب غير المنطقيّ، والإتهام والتحريف في هذا المجال ابقاءً على الصّفاء والمودّة بين المسلمين.
الأَصلُ الثاني والعشرون بَعدَ المائة: لا يجوز تكفير المسلم المعتقد بالأُصول الثلاثة
إنّ المسلمين في عالمنا الراهن يتّفقون في الأُصُول الأساسية الثلاثة([11] )، فيلزمُ أنْ لا يكفِّرَ فريقٌ فريقاً آخر بسبب الاختلاف في بعض الأُصولِ، أو الفروع الأُخرى، وذلك لأَنَّ الكثيرَ من الأُصول المختَلف فيها، هي في الحقيقة من القضايا الكلاميّة التي طرِحَت على بساط البحثِ والمناقشة بين المسلمين فيما بعد، ولكَلِّ فريق منهم أدلّتهُ وبراهينهُ فيها.
وعلى هذا لا يُمكن أن يُتّخَذَ الاختلافُ في هذه المسائل وسيلةً لتكفير هذه الفرقة، أو تلك أو ذريعة لتفسيق هذه الطائفة، أو تلك، ولا سبباً لِتفتيت وحدةِ المسلمين.
إنّ أفضلَ الطُرق لحلّ هذا الإختلاف هو الحوارُ العلميُّ بمنأى عن العَصَبيّات الجافّة، وَالمواقف المتزمّتة وغير الموضوعية.
يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَّدَد:
( يا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاّ تَقُولُوا لِمَنْ أَلقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) ([12] ) .
ولقد صرّح النبيُ الأكرمُ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ بعد ذكرهِ لأهَمّ أُسُس الإسلامِ وأُصُوله، بأنَّه لا يحقُّ لمسلم أنْ يُكفّرَ مُسلماً آخر لارتكابه معصية، أو يرميَه بالشرك، إذ قال:«لاتُكَفّروُهُمْ بِذَنب ولاتَشْهَدُوا عليهِم بِشِرْك»([13] ).
الأصلُ الثالث والعشرون بعد المائة: البدعة
«البِدعة» في اللغة تعني العَمَل الجديد والذي لاسابق له، الذي يبيّن نوعاً من الحُسن والكمال في الفاعل، فلفظ «البديع» من صفات الله كما نعلم كما، قال تعالى:
( بَدِيعُ السَّمَوتِ وَالأَرضِ) ([14] ) .
وأمّا المفهومُ الإصطلاحيّ للبدعة، فهو أيضاً نسبةُ ما ليس من الشريعة إلى الشريعة، وأكثر التعاريف اختصاراً للبدعة الإصطلاحيّة هو: «إدخالُ ما ليسَ مِنَ الدّيِنِ في الدينِ».
إنَّ الابتداع في الدين من الذُنوب الكبيرة، وهو مما لا شك قط في حرمته فقد قال رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «كلُّ مُحدَثَة بِدعَة وكلُّ ضَلالة في النّار»([15] ).
والنقطةُ المهمّة الوحيدةُ في مسألة البِدعة هي أن يُحدَّدَ مفهومُ «البِدعة» بصورة جامِعة ومانِعة ليمكن تمييزُ ما هو بدعةٌ عمّا ليس ببدعة.
وفي هذا الصَّعيد، ولإزالة الإبهام عن حقيقة «البدعة» يجب الالتفات والانتباه إلى نقطتين:
1. إنّ البِدعة نوعٌ من التصرّف في الدِين، وذَلك بإحداث الزيادة أو النقص فيه. وعلى هذا الأساس إذا لم يَكُن إحداثُ شيء، مما يرتبطُ بالدِّين والشريعة، بل كان أمراً عاديّاً أو عُرفيّاً لم يكن بدعةً (وإن كانت مشروعيّته مشروطة بأن لا يكونَ الابتداع والإبتكار المذكور محرَّماً أو ممنُوعاً في الشرع بدليل خاص).
وللمثال: إن البشريّة تبتكرُ باستمرار أساليب جديدة في مجال المسكن والمَلبس وغير ذلك من وسائل العيش وخاصّة في عصرنا الحاضر الذي تتطور فيه الأساليب والأدوات المستخدَمة في المعيشَة باستمرار، وبشكل متواصل ونضربُ على ذلك مثلاً أنواع النزهة والرياضة الجديدة، بل والمتجدّدة على الدوام.
إنّ من البديهي أنّ كلَّ هذه الأشياء والأُمور نوعٌ من البدعة والأُمور البديعة (بمعنى ما لم يكن له سابق) ولكنها لا صلة لها بالبدعة المصطلَح عليها شرعاً.
إنّما تتوقَّفُ حليّتُها وحليّةُ الاستفادةِ منها ـ كما قلنا ـ على أن لا تكونَ مخالِفةً لأحكام الشَرع وموازينه.
فمثلاً اختلاط الرجلِ والمرأة من دون حجاب في المجالس، والمحافل ـ الذي هو من مستورَدات الغرب الفاسد، ومعطيات ثقافته المنحرفة ـ حرامٌ، إلاّ أنّه ليس ببدعَة، لأنّ الذين يشتركونَ في هذه المحافل لا يأتونَ بهذا العمل باعتباره عملاً أقرّ الشرعُ الإسلاميُ صحَّته وقرَّره، بل ربما أتَوا به من بابِ اللاّمبالاة مع الإعتقاد بأنّه مخالفٌ للشرع ولهذا ربما تنبَّهوا وعادوا لرشْدهِمْ فقرّرُوا بجديّة تركَه، وعدم الإشتراك فيه.
وإنطلاقاً من التوضيح السابقِ إذا عيَّنَ شعبٌ مّا يوماً، أو بعض ا لأيّام للفَرحَ والإبتهاج والاجتماع، ولكن لا بقصد أنّ الشَرع أمرَ بهذا لم يكن مثل هذا العمل (بدعة) وإن كانت حليّةُ أو حرمة هذا العمل من جهات أُخرى يجب أن تقع محطّاً للبحث والدراسة.
من هنا اتّضح أنَّ الكثيرَ من مبتكرات البشر، وبدائعه، في مجال الفنّ والرياضة، والصناعة وغير ذلك خارجٌ عن نطاق البدعة الاصطلاحية، وما يقالُ حول حرمَتها، أو حليّتها، إنّما هو ناشئ من جهات أُخرى ولهما ملاكٌ ومقياسٌ خاص.
2. إنّ أساس «البدعة» في الشرع يرجع إلى نقطة واحدة وهي الإتيان بعمل بزعم أنّه أمرٌ شرعيٌّ أمَرَ به الدين في حين لا يوجد لمشروعيته أيُّ أصل ولا ضابطة، ولكن اذا أَتى بعمل على أنّه أمر شرعي ويدل على مشروعيته دليل شرعي (بشكل خاص، أو بصورة كليّة وعامّة) لم يكن ذلك العملُ بدعةً.
ولهذا قالَ العالِمُ الشيعيُّ الكبيرُ العلاّمةُ المجلسي: «البدعة في الشرع ما حَدَثَ بعد الرَسول ولم يكن فيه نصٌّ على الخصوصِ ولا يكونُ داخلاً في بعضِ العمومات».([16] )
وقال ابن حجر العسقلانيّ: «البِدعة ما أُحدِثَ وليسَ لهُ أصلٌ في الشَرعَ. وما كان له أصلٌ يدل عليه الشرع فليس بِبِدعة»([17] ).
فإذا كان العملُ الذي نَسَبْناه إلى الشرع يستندُ إلى دَليل خاصّ، أو ضابطة كليّة في الشرع لم يكن بدعةً حتماً.
والصورةُ الأُولى (أيْ وجود الدليل الخاص) لا يحتاج إلى بيان.
إنّما المهم هو القِسم الثاني لأنّه ربَّ عَمَل كانَ في ظاهرهِ عَملاً مبتدَعاً جديداً ومبتكراً، ولم تكن له سابقةٌ في الإسلام، ولكنّه في معناه وحقيقتهِ يدخُلُ تحت ضابطة أقرَّها الشرعُ الإسلاميُّ بصورة كليّة.
ولِلمثال: يمكنُ الإشارة إلى التجنيدِ الإجباريّ العامّ المتداوَلِ اليوم في أكثر بُلدانِ العالم.
فإنَّ دعوةَ الشباب إلى خدمة العَلَم كوظيفة دينية، وإن كانت في ظاهرها عَمَلاً مبتكراً ومبتدعاً إلاّ أنّها حيث تنخرطُ تحت أصل أو قاعدة دينيّة لا تُعدّ بِدعة، وذلك لأنّ القرآنَ الكريمَ يقول:
( وأعِدّوا لهُمْ ما استَطعتُمْ من قُوَّة) ([18] ) .
ومن البديهيّ أنّ التربية العَسكرِيّة العامة للشباب ـ تُعدُّ في ظلّ التحوُّلات والتَطَوّرات والأجواء العالميّة ـ سبباً للتهَيّؤ الأكثر في مقابلِ العدوّ المتربّص، والعملُ بروح الآية المذكورة في عصرنا الراهنِ يقتضي هذا الأمر. في ضوء البيان السابق يمكن حلّ ومعالجة الكثير من الشُبهات التي تقيّد البعضَ وتعيقهم عن الحركة.
ونضرب لذلك مثلاً: ما يقومُ به جماهيرُ المسلمين العظمى من الإحتفالِ بمولدِ النبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ويراهُ البَعض أو يسمّونه بِدعة، في حين لا ينطبق عليه عنوان البدعة وملاكُها، في ضوء ما قلناه، لأنّه على فرضِ أنّ هذا النمطَ من التكريم وإظهار المحبّة والتكريم لم يَردْ في الشرع بخصوصهِ. ولكنَّ موَدّة النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وحُبَّه وحبَّ أهل بيته المطهَّرين سلام الله عليهم أجمعين يُعتبر أحد أُصول الإسلام الضروريّة وتُعتَبَر هذه الإحتفالات والإجتماعات الدينية البهيجة مِن مظاهر ذلك الأصل الكليّ ونعني المحبة والمودة للنبي وآله.
فقد قال رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا يؤمِنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالِهِ وأهْلِهِ والناسِ أجمعين»([19] ).
ولا يخفى أن الذين يُظهِرُون البَهجة والفرح في مواليد رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل بيته الطاهرين، ويقيمون لأجل هذه الغاية، الاحتفالات والمجالس لا يهدفون من إقامة الإحتفال في هذه الأيام إلى أنّ هذه الأعمال منصوصٌ عليها ومأمُور بهِا شرعاً بعينها وشكلها الراهن، بل يفعلون هذه الأعمال باعتقاد أنّ حُبَّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ والمودّة لرسول الله وأهل بيته أصلٌ كلّيٌ وَرَدَ التأكيد عليه في الكتاب والسُّنة بتعابير مختلِفة ومتنوّعة. إنّ القرآنَ الكريم يقول: ( قُلْ لا أسْئَلُكُمْ عَليه أجراً إلاّ المودّة في القَربى) ([20] ) .
وهذا الأصلُ يمكن أن تكونَ له تجلياتٌ ومظاهرُ مختلِفة ومتنوّعة، منها إقامة هذه الاحتفالات البهيجة على حياة المسلمين الفرديّة والإجتماعية، فأنّ إقامة الإحتفالات، في الحقيقة مما يذكّرِ بنزول الرحمةِ والبركةِ الإلهيّة في هذه الأيّام، وهي نوعٌ من أنواع الشُكر لله تعالى أو عملٌ باعث عليه، وهذا المطلب (إي اقامة الاحتفال في يوم نزول الرحمة والفيضِ الربانيّ) كان في حياة الأُمم السابقة أيضاً كما يصرّحُ بذلك القرآنُ الكريمُ.
فقد طلَبَ النبيُّ عيسى ابنُ مريم ـ عليه السَّلام ـ مائدةً سماويّة تنزلُ عليه وعلى حواريّيه ليكونَ يومُ نزول تلك المائدة عيداً للجيل الذي كان يعيش بينهم، وللأجيال اللاحقة كما يقولُ تعالى:
( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَءَايَةً مِنكَ) ([21] ) .
أضف إلى ذلك انّ الله تعالى يقول في آية أُخرى في مجال تكريم النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ :
( فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ([22] ) .
فإنّ الله تعالى يأمر الناسَ في هذه الآية بأربعة أُمور:
1. الإيمان بالنبيّ (آمَنُوا بهِ).
2. تكريم النبيّ وتعظيمه (عَزّرُوهُ).
3. نصرته (نَصَرُوه).
4. إتّباع القرآن (واتَّبَعُوا النُّور الذي أُنزِل مَعَهُ...).
فلزومُ التكريم والتعظيم للنبيّ كما هو واضح أصلٌ دينيٌّ وقرآنيّ، وله في كل زمان مصاديق ومجالي خاصّة: فالصلاةُ والسلام على النبيّ وأهلِ بيته عند ذكر اسمِهِ، وإظهارُ الفرح والابتهاج يومَ ولادته وبعثته، وكذا إعلانُ الحزنِ والأسى في مأتمه ومأْتم أهل بيته، وحفظُ آثارِ النبيّ وتعمير مرقده الطاهر وحفظُ آثار أهل بيته، وتعميرُ مراقدهم الطاهرة، كلّها وكلُّها مصاديقُ لإظهار المودّة والمحبّة للنبيّ الأكرم وعترتِهِ الطاهرة صلواتُ الله عليهم أجمعين.
على أنّه يجب أن لا يتصوَّر أحَدٌ بأنّ محبّة النبيّ وأهل بيته ومودّتَهم تنحصرُ في هذه الأُمور فقط، بل يجب الإنتباه إلى أنّ اتّباعَهم في أقوالهم وأفعالهم، والذي جاءَت الأشارة إليه في الآية أدناه أيضاً هو من أظهر مصاديق محبّتهم ومودّتهم، كما انّه سببٌ لنيلِ العِناية الإلهيّة واللطفِ الربانيّ كما قال: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبوُّنَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم) ([23] ) .
والبِدعَة ـ كما أسلَفْنا ـ عبارةٌ عن نوع من التصرّف في الدّين من دون أن يكون له مستندٌ صحيحٌ (خاصٌّ أو كلِّيٌ عامٌّ) في الشرع، ويجب التنويه بأنّ روايات أئمةّ أهلِ البيت ـ عليهم السَّلام ـ ـ بحكم حديث الثقلين المتواتر ـ تُعَدُّ من مصادر الشريعة، وأدلّةِ الأَحكام الدينيّة وعلى هذا الأساس إذا صرَّحَ الأئمةُ المعصومُون ـ عليهم السَّلام ـ بجواز أو عدم جواز شيء كان اتّباعهم في ذلك اتّباعاً للدِين ولم ينطبق عليه عنوانُ الإبتداع والإحداث في الدّين.
وفي الخاتمة نُذَكّر بأنّ «البدعة» بمعنى التَصَرُّف في الدين من دون إذن الله سبحانه كان ولا يزال عَمَلاً قبيحاً وحراماً وقد أشار إليه القرآن بقوله:
( ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أمْ عَلى اللهِ تَفْتَرُونَ) ([24] ) .
وعلى هذا الأساس لا يصحُّ تقسيم البِدعة (بهذا المعنى) إلى القبيح والحَسَن والحرامِ والجائزِ، بل كلُّها (بهذا المعنى) حرامٌ غير جائز.
نعم البِدعة بمعناها اللغويّ العامّ (أي الإتيان بأشياء حديثة في أُمور المعيشة من دون نسبة ذلك إلى الشرع) يمكن أن تكون له صُوَرٌ مختلفة ومتنوّعة، وتكون مشمولةً لأَحد الأحكام التكلِيفيّة الخمسة: (الوجوب والحرمة والكراهة والإستحباب والإباحة).
الأصلُ الرابع والعشرون بعد المائة: التقية
إنَّ أحَدَ التعاليم القرآنيّة هو أن يكتم الإنسانُ المسلمُ عقيدتَه إذا تعرَّضَ في نفسه، أو عِرضِه أو مالِه لِخطر لو أظهرها، ويُسمّى هذا العَمل في لسانِ الشَرع والمصطلَح الشرعيّ بالتقيّة.
إنّ جوازَ «التَقيَّة» لا يحظى بالدَّليل النقليّ فحسب، بل إنّ العقلَ يحكم أيضاً بصحّته ولزومه، ويَشهَد بذلك في شرائط حسّاسة، وخطيرة، لأنّ حفظ النَّفس، والمالِ، والعِرض، واجبٌ، ولازمٌ من جهة، وإظهارَ العقيدة والعمل وفقَ تلك العقيدة وظيفةٌ دينيّةٌ من جانب آخر، ولكن إذا جرَّ إظهارُ العقيدةِ إلى الخطر على النّفس والمال، والعرض، وتعارضت هاتان الوظيفتان عَمليّاً، حكم العقلُ السليمُ بأن يُقدِّم الإنسانُ الوظيفةَ الأهمّ على المهمّ.
والتقية ـ في الحقيقة ـ سلاحُ الضُّعفاء في مقابل الأقوياء القُساة، ومن الجَليّ أنّه إذا لم يكن خطرٌ ولا تهديدٌ لم يكتم الإنسانُ عقيدَتَه، كما لم يَعَمل على خلافِ معتقَده.
ينصُّ القرآنُ الكريمُ في شأن عَمّارِ بن ياسر على عدم البأس عمّن يَقعُ في أيدي الكفار، ويُظهرُ كلمة الكفر على لِسانِه للخلاص والنجاة، وقلبُه عامرٌ بالإيمان مشحونٌ بالإعتقاد الصِحيح:
( مَن كَفَرَ باللهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنٌّ بِالإِيمانِ) ([25] ) . وَيقولُ في آية أُخرى:
( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافرِينَ أَوليَاءَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفْعَل ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيء إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُم تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصِيرُ) ([26] ) .
إنّ المفَسّرِين المسلمين يَتّفقون ـ عند ذِكرِ وتفسيرِ هاتين الآيَتين ـ على أنّ أصل «التَقيّة» أصلٌ مشروع.
ومن طالَعَ ـ ولو على عَجَل ـ ما جاء في التفسير والفقه الإسلاميّ في هذا المجال عَرفَ بوضوح أن أصلَ «التقيّة» من الأُصول الإسلاميّة، ولا يمكن تجاهلُ الآيتين المذكورَتين أعلاه، ولا عَمَل مؤمنِ آل فرعَون في كتمان إيمانِه([27] ) وإنكار «التقيّة» بالمرَّة.
والجَدير بالذّكر أنّ آياتِ «التقيّة» وإن وَرَدَت في مجال التَقيّة من الكافر إلاّ أنّ الملاكَ (وهو حِفظ نفسِ المسلم ومالهِ وعرضهِ في الظروف الحسّاسة والخطيرة) لا يختصُّ بالكفار، فَلَو استوجَبَ إظهار الشخص لعقيدته، أو العَمَل وفقها عندَ المسلمين، خوفَ ذلك الشخص على نفسهِ أو مالهِ أو عرضهِ أي احتَملَ بقوة تعرّضها للخَطَر من جانبِ المسلمين، جرى في المقام حكمُ «التقيّة» أي جاز له التقيّة من المسلمين كما جاز له التقيّة من الكفار، وذلِكَ لوحدة العلّة والمِلاك، وتحقّق الأمر الموجب للتقيّة. وهذا هو ما صَرَّحَ الآخرون به أيضاً فهذا هو الفخر الرازي يقول: إنّ مذهب الشافعي(رضي الله عنه)انّ الحالةَ بَين المسلمين إذا شاكَلتْ الحالةَ بَين المسلمِين والمشركين حَلَّتْ التقيّةُ محاماةً على النفسِ.
وقال: التقيّةُ جائزةٌ لصونِ النَّفسِ، وهل هي جائزةٌ لصونِ المال؟ يُحتَمل أنْ يُحْكَمَ فيها بالجواز لقولهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «حُرْمَةُ مالِ المُسْلِمِ كَحُرمةِ دَمِهِ» ولقولِهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «مَن قُتِلَ دُون مالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»([28] ).
وقال أبو هريرة: حَفِظْتُ مِن رسُول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وِعائَين، أمّا أحَدُهما فَبَثَثْتُهُ في النّاس، وأمّا الآخرَ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لقُطِعَ هذا البَلعُومُ.([29] )
إنّ تاريخَ الخُلَفاء الأُمويّين والعَباسييّن زاخرٌ بالظلمِ والعَسْفِ، والحيْفِ والجَور.
ففي تلكَ الأيّام لم تكنِ الشيعةُ وحدَهم هُمُ المطرودُون، والمحجور عليهم بسببِ إظهار عقائِدِهم، بل سَلَكَ أغلَبُ محدّثيِ أهلِ السُّنّة في عَصرِ المأمون أيضاً مَسْلَكَ التقيّة في محنة «خَلْقِ القرآنِ» وَلم يخالف المأمونَ في خَلْق القرآنِ وحُدُوثهِ بعدَ صُدُور المرسُوم الخليفي العامّ، سوى شخص واحد، وقصَّتُهُ معروفةٌ في التاريخ وعامّة المحدّثين تظاهروا بالوفاق تقيّةً.([30] )
الأصلُ الخامسُ والعشرون بعد المائة: التقية واجبة في بعض الحالات فقط
إنّ التقيّة ـ حسبَ منطِقِ الشِيعَة ـ واجبة في ظروف خاصَة، إلاّ أنّها مُحرَّمةٌ في بعضِ الشروطِ أيضاً، ولا يجوز للإنسانِ في مثل هذهِ الشُروط أنْ يَستخدمَ التقيّة بحجّة أنّه قد يتعرّض نفسُه، أو مالهُ أو عرضُه للخطر.
فَقَد يَتَصوَّرُ بعضٌ أنّ الشِيعة يوجبونَ التَقيّة دائماً وفي جميع الحالات والظروف والأوضاع، والحال أنّ هذا تصوّرٌ خاطِئٌ، فإنّ سيرةَ أئمّة أهلِ البيت ـ عليهم السَّلام ـ لم تكنْ هكذا، لأنّهم، وبغية رعايةِ المصالحِ والمفاسِدِ كانوا يَسلكون في كلّ زمان موقفاً خاصّاً، وأُسلوباً مناسباً ولهذا نجدُهم كانُوا تارةً يتّخذون مَسلَك التقيّة اُسلوباً، وتارة أُخرى كانوا يُضحُّون بأنفسِهم وأموالِهم في سبيلِ إظهارِ عَقيدتهم.
ومما لا شك فيه أنّ أئمَّةَ الشّيعَة استشهدوا بالسَيف أو السُّمّ على أيدي الأعدْاء في حين أنّهم لو كانُوا يُصانِعُونَ حُكّام عصورهم ويجاروُنهم، لمَنحهمْ أُولئِك الحكّام أعلى المناصب، وأسمَى المَراتب في حكوماتِهم ولكنهم كانُوا يَعلموُن أنّ التقيّة قبال أُولئك الحُكّام (كيزيد بن معاوية مثلاً) كان يؤدّي إلى زوال الدّين، وهلاك المذهب.
وفي مِثل هذهِ الشُروط أمام القادة الدينيّين المسلِمين نوعان من الوظيفة:
أن يسلكوا مَسلَك التقيّة في ظروف خاصَّة، وأنْ يحملوا حياتهم على أكفّهِمْ ويَستَقْبلوا الموتَ في ظروف أُخرى، أي إذا وَجَدوا أساس الدِين في خطر جدّي.
وفي الخاتمة نذكّرُ بأنّ التقيّةَ أمرٌ شخصيٌ ويَرتبط بوضعِ الفرد، أو الأفراد الضعفاء العاجزين في مقابل العدوّ الغاشِم. فإنّ مثل هؤلاءِ إذا لم يَعْمَلوا بالتقيّة فَقَدوا حياتهم مِن دون أن يترتب أثرٌ مفيدٌ على مقتَلِهِمْ.
ولكن لا تجوز التقيّة مطلقاً في بيان معارف الدين وتعليم أحكام الإسلام مثل أن يكتُبَ عالمٌ شيعيٌ كتاباً على أساس التقيّة، ويذكرَ فيه عقائدَ فاسدة، وأحكاماً منحرفة على أنّها عقائدُ الشيعة وأحكامُهم.
ولهذا فإننّا نرى علماءَ الشيعة أظهروا في أشدّ الظروف والأحوال، عقائِدَهُمُ الحقَّة، ولم يحدُثْ طيلةَ التاريخ الشيعيّ ولا مرة واحدةً أن أقدَمَ علماءُ الشيعة على تأليف رسالة أو كتاب على خلافِ عقائدِ مذهبهِم، بحجّة التقيّة، وبعبارة أُخرى: أن يقولوا شيئاً في الظاهر، ويقولُوا في الباطن شيئاً آخر ، ولو أن أحَداً فَعَلَ مِثلَ هذا العملِ وسَلَكَ مثلَ هذا المسلَكَ أُخرِجَ من مجموعةِ الشيعةِ الإماميَّة.
وهنا نوصي الّذين يصعُب عليهم هضمُ مسألة التقيّة، وتقبُّل هذه الظاهرة، أوخَضَعُوا لِتأثير دعايات أعداءِ التشيُّع السيّئة، بأنْ يطالِعوا ـ ولو مرّةًـ تاريخَ الشيعة في ظلّ الحُكُومات أُموِيّةً، وعبّاسيّةً، وفي عصر الخلفاء العثمانيّين في الاناضول والشامات، لِيَعلَموا بَهاضةَ ما قَدَّمهُ هذا الفَريقُ من الثَمن للدّفاع عن العَقيدة وبِسَبب اتّباع أهلِ البَيت ـ عليهم السَّلام ـ ، وجَسامةَ ما قدّموه من تضحيات، وقرابين، وعظمةَ ما تحمّلوه من مصائبَ مرّة، حتى أنّهم ربّما هَجَرُوا بيوتهم ومنازلهم ولجأوا إلى الجبال.
لقد كانَ الشيعة على هذه الحال مع ما كانوا عليه من التقيّة، فكيف إذا لم يُراعُوا هذا الأصل..ترى هل كانَ يبقى من التَشيُّع اليومَ إذا لم يَتّقوا، أثرٌ أو خَبَرٌ؟
وأساساً لابُدَّ مِن الإنتباه إلى نقطة مهمّة وهي أنّه إذا استوجَبَت التقيّة لَوماً فإنّ هذا اللومَ يجب أن يُوجَّهَ إلى من تَسبَّبَها، لأنّ هؤلاء بَدَل إجراء العَدل ومراعاة الرأفةِ الإسلاميّة أوجَدوا أصعَب ظروف الكَبت السياسي والمذهبي ضِدّ أتباع أهل البيت النبويّ، لا أن يُلامَ مَن لَجَأ إلى التقيّة اضطراراً وحفاظاً على نُفُوسهم وأموالِهِم وأَعراضِهِمْ.
والَعَجَبُ العجاب في المقام هو أن يتوجَّه البعضُ باللَّوم والنقد إلى العاملين بالتقيّة المظلومين ووصفهم بالنفاقِ بدل توجيه ذلك إلى مسبّبي التقيّة، أي الظالمين، هذا مضافاً إلى أنَّ «النفاق» يختلف عن «التقيّة» كاختلافِ المتناقضين، والبَونُ بينهما شاسع وبعيدٌ بُعدَ السَّماءِ عن الأرض.
فالمنافِقُ، يُبْطِنُ الكُفْرَ في قَلبهِ ويُظهِرُ الإيمانَ لِغَرض التجسس على عورات المسلمين أو الوصول الى منافع لا يستحِقها، في حين يكونُ قلبُ المسلم في حال التقيّة مفعماً بالإيمان، وإنما يُظهرُ خلاف ما يعتقد لعلّة الخوف من الأذى، والاضطهاد.