ما هي العصمة؟
العصمة حالة خاصّة وشهود وملكة تمنع الإنسان من ارتكاب الذنب، وتصونه من الوقوع في الخطيئة وتسدّ عليه جميع دروب الوسوسة، وعلى هذا الأساس يمكن أن نعدّ العصمة أمراً معرفياً ووجودياً، وهذه المعرفة يجب أن تصل مستوى الشهود والأمر الوجودي من الكمال الرفيع الذي يحققه الإنسان في حركته الجوهرية التكاملية بتوفيق من الله وتسديد.
إن العصمة من أبرز مدارج الكمال المعرفي والوجودي والعلمي والعملي والتي تترك آثاراً هامّة في جميع أبعاد حياة المعصوم وشؤونه ومسيرته.
العصمة العلمية والعملية
إنّ بعض أوجه الكمال مرتبط بمرحلة علمية وبعضها الآخر هي أمر سلوكي وعملي، ومثالاً على ذلك العدالة، فهي ملكة سلوكية عملية في الإنسان والتي لا علاقة لها بالبعد الشهودي والعملي في الإنسان.
إن هذه الملكة الهامّة تصون الإنسان من ارتكاب الذنب عمداً أو سهواً، ولكن ملكة العصمة تحفظ الإنسان وتمنعه من الوقوع في الخطأ والخطيئة والجهل والنسيان والمغالطة في التفكير، وإذن فإن المعصوم مصون من الوقوع في الخطأ سواء على صعيد العلم أو على صعيد العمل.
فالمعصوم لا يقع في الخطأ والخطيئة ولا يرتكب الذنوب هذا على صعيد السلوك، أما على صعيد إبلاغ الشريعة فهو أيضاً مصون من الوقوع في الخطأ في عملية التبليغ.
إن حقيقة الشهود ترتبط بالعقل النظري؛ والورع عن ارتكاب الذنوب، مرتبط بالعقل العملي، بالرغم من أن منشأ عصمة العقل العملي، هي المعرفة والعقل النظري والشهود، فليس العصمة العملية غير مرتكزة على العصمة العملية، إذ ليس من المعقول أن يكون الإنسان معصوماً في عمله وغير معصوم في علمه، ذلك أنه إذا لم يدرك الحلال والحرام والقبيح والجميل والطاهر والنجس، فإنه عاجز عن أن يكون معصوماً في مقام العمل.
عصمة أهل البيت^
إنّ أهل البيت واستناداً إلى مفاد الآيات القرآنية والروايات معصومون في مرحلتي العقل النظري والعقل العملي، يعني أنهم يعلمون الحقائق نقية من الشوائب ويدركونها بشكل صحيح وصائب، وهم أيضاً يجسدونها بشكل صحيح في حياتهم وسيرتهم وسلوكهم، كما أنّهم يبلغونها إلى الناس بشكل صحيح، ونقي كما هي في إدراكاتهم الصافية ونفوسهم المشرقة، وإذن فليس في الحرم الآمن لفهمهم ثمة مكان لجهل قصوري أو جهل تقصيري أو سهو وخطأ ليتسلل إلى سلوكهم، وليس في الحرم الآمن لعقلهم العملي مجال للخطيئة والعصيان سهواً ونسياناً أو عمداً وعن قصد سابق وإرادة.
وهذه هي إرادة الحق أن يُذهب عن أهل بيت نبيه’ الرجس ويطهر علمهم ومعرفتهم، وكذا عملهم وسيرتهم ويعصمهم عن الخطيئة والخطأ في عملهم وعلمهم.
الحاجة للمعصوم في فهم المعارف
هناك توصيات وتأكيدات على عدم قراءة القرآن وإدراك معانيه وتلقي معارفه إلا من خلال أهل البيت^، ذلك أنهم معصومون ومصانون عن الخطأ في الفهم وإدراك المعرفة الحقّة والحكمة الإلهية.
إن غير المعصوم لابد وأن يرتكب خطأ في الفهم والقراءة وسوف ينجم عن هذا الخطأ في الفهم إلى أن يتحول إلى سلوك خاطئ، بمعنى آخر هو الوقوع في الخطيئة.
وبسبب هذا الضعف في الرؤية والعجز في تلقي الحقيقة لدى البعض فقد صدرت عنهم سلوكيات ومواقف خاطئة، واعتورت سيرتهم الخطيئة ووقعوا في مشكلات وأخطاء فظيعة، وكانوا يبتعدون عن الحقيقة فوصلوا إلى مستوى مخيف من الانحطاط والضلال، إنهم شنّوا الهجوم على جبهة الحسين بقصد القرب! وشهروا السيف على الإمام الحق.
ولقد كان الخوارج من هذه الفئة الضالة من البشر وقد وصفهم الإمام أمير المؤمنين× بالنسّاك الجهلة.
ومن الممكن أن يكون بعضهم وفي جزء من سلوكه بمأمن من الخطأ، وربما توفرت الإرادة لديه في ترك المعصية، ولكن وبسبب الرؤية الخاطئة والتلقي الضعيف لديه، ورجوعه إلى مرجعية ليست بمصونة عن الخطأ، وتوجهه نحو أعمال خاطئة تخرجه عن حريم الدين كهجومه على المؤمنين واستباحة دمائهم ما أوجب قتالهم على أمير المؤمنين×.
علم الإنسان وعمله
ما أكثر الاختلاف بين البشر في رؤيتهم وسيرتهم في علمهم وعملهم، وكلما تنزّل الإنسان من علياء إنسانيته وشخصيته الإلهية، أزدادت الفاصلة بين عقله النظري وعقله العملي، وبعدت الهوّة، واختلّ التوازن من هنا نجد أحدهما قويّاً فيما الآخر نراه ضعيفاً، حضور أحدهما وغياب الآخر.
وكلما ترشدت حركة الإنسان واتجه نحو الكمال فإن جناحيه هذين يقتربان من بعضهما إلى أن يتحدا أولاً ويستحيل العلم والعمل كلاً متوحداً كما هو حال الملائكة والمجرّدات العالية، حيث العلم عين العمل والعمل عين العلم.
وهذا ما نجده متجلّياً في الحقيقة المحمدية، وقد بلغ التوحّد لديه نقطة الأوج.
علم الحق وعمله
إنّ علم الحق تعالى عين العمل والاثنان هما عين القدرة و ....
{وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَْرْضِ وَلا فِي السَّماءِ}([14]).
وإن الحق تعالى منزه عن الجهل والخطأ والنسيان:
{وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}([15]).
وهو منزه من كل قبح وسوء وهو سبحانه منزه عن الظلم:
قال عزّ وجلّ:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}([16]).
إنّه سبحانه يبغض السيئات ويكرهها ورحابه لا يقبل بها:
{كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}([17]).
والسبب في أن الذات الأحدية المقدسة منزهة من كل قبيح مبرأة من كل سوء ومنزهة عن كل خطأ ونسيان، وأمثال ذلك هو أن علمه سبحانه في القرار الرفيع، وهو عين العمل والقدرة، وقدرته وعمله هما أيضاً عين علمه بالرغم من وجود ألفاظ متعددة ومفاهيم مختلفة.
العصمة العلمية والعملية لأهل البيت^
ينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أن ملكة العصمة العملية أو العلمية ليست محض: لأن الأنبياء والأئمة وهم شخوصات وهويات في طول الحق، هم معصومون في العلم ومعصومون في العمل أيضاً، ولهذا فإن علمهم وعملهم حجة على الجميع مهما كان شأنه إلى يوم القيامة وأساس حجيتهم هي كونهم معصومين ليكونوا مرجعاً ومعياراً لمعرفة الحقيقة وميزاناً لتمييز الحق والباطل.
أجل إنّهم وبعصمتهم العلمية والعملية يمكنهم أن يكونوا حججاً تامّة، وهم وحدهم الذين باستطاعتهم أن يبينوا الحق والحقيقة، كما هي يمكنهم دعوة الناس بأعمالهم وسيرتهم إلى الحق والى الطريق اللاهب المضيء .
وروي أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها وعمرو لا يعرفه فقال هشام لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى
قال: ولم؟
قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فاعتبر.
قال: وجعل لك فماً؟
قال: نعم.
قال: ولمَ؟
قال: لأذوق الطعوم وأجيب الداعي.
ثم عدد عليه الحواس كلها ثم قال: وجعل لك قلباً؟
قال: نعم.
قال: ولمَ؟
قال: لتؤدي إليه الحواس ما أدركته فيميّز بينها.
قال: فأنت لم يرض لك ربك تعالى أن خلق لك خمس حواس حتى جعل لها إماماً ترجع إليه، يرضى لهذا الخلق الذين حشى بهم العالم أن لا يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟
فقال عمرو: ارتفع حتى ننظر في مسألتك وعرفه. ولكنه لم ؟؟؟ جواباً.
العصمة أعلى درجات التقوى
العصمة في الحقيقة هي نورانية العقل النظري والعملي والإنسان المعصوم ينطوي على قدرات تمنع نفوذ الأوهام والخيالات إلى دائرة عقله المضيء، ولهذا فإن المغالطات لا يمكنها أن تحدث ارباكاً في مركز المحاسبات المنطقية في هذه المنطقة الحساسة، كما أن هذه القوى التي ينطوي عليها المعصوم تحول دون نفوذ قوى مثل الشهوة والغضب، وبالتالي احتلال العقل وجرّ الإنسان إلى ارتكاب الآثام والذنوب.
من هنا فإن المعصوم يسلك طريقه آمناً نحو آفاق التكامل والفضائل والأخلاق الرفيعة.
والعصمة العملية والسلوكية هي أعلى درجات التقوى ولها مراحل عديدة ونهايتها وغايتها أن يصبح السلوك والعمل في أعلى درجات الصواب والحكمة.
إنّ العصمة العملية والمعرفية هي التقوى العملية، أما التقوى في السلوك، فهي الفعل الاختياري للإنسان وجزء من قضايا العقل العملي.
عصمة أهل البيت^ في كل الشؤون
إن أئمتنا^ هم معصومون في كل الأمور وكل الشؤون فهم في علمهم، معصومون وكذا في تلقي الحقيقة وفي حفظ أعماق أنفسهم وفي إلقاء الحقيقة وتبليغها وإبلاغها، وهم مصونون عن كل أنواع الخطأ والسهو والغفلة والنسيان، يعني أن كل ما يرتبط وما له علاقة بهداية الناس، فإنهم يتلقونه عن الحق تعالى ويدركونه كما هو ويحفظونه كما هو ويؤدونه ويبلغونه إلى الناس كما هو.
وهذه الملكة العلمية والمعرفية لا يمكن أن تتم بدون الشهود، وهي لا تحصل إلا بالشهود. ذلك أن الإنسان قد ينسج من عالمه المترع بالخيالات والأوهام ثم يتصور أنها حقائق عقلية أو مكتشفات عقلية، ومن هنا تحصل حالة من اختلاط الحقيقة بالخيال والحق بالأباطيل والعلم بالجهالات وبالنهاية بنقاء الإنسان هو ومن اتبعه إلى الهاوية إلى أن يرتطموا بالدرك الأسفل من الجحيم: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ}([18]).
قوة المعصوم وعجز الشيطان
إذا تمكن الإنسان من صون دائرة العقل ـ وهو مركز المحاسبات المنطقية ـ من نفوذ سهام الأوهام والخيال إذا استطاع ذلك فإنّه لابد وأن يصل إلى مقام يكون فيه بمأمن من الخطأ والنسيان وسيكون بمأمن أيضاً من هجمات غيلان الذنوب والآثام والمعاصي، وبالتالي سيعيش في دائرة من العصمة الدائمية، ذلك أن العقل الخالص يستعصي على نفوذ الشيطان وعلى اختراقات الأوهام والخيالات، سيكون إبليس عاجزاً بكل أحابيله وألاعيبه من النفوذ إلى هذه المنطقة الحساسة ومركز القيادة في سمار الإنسان.
إنّ تجرّد إبليس هو في مستوى الأوهام والخيال وهو أدنى درجة ومرتبة ومنزلة من العقل الخالص أو العقل المحض، والشيطان أعجز من أن يطال مقام العقل المحض.
إن نظام التجرد التام العقلي يستعصي على نفوذ الأوهام والخيالات التي هي بمثابة لصوص وقطاع طرق وسلاّبين.
حتى إبليس الذي يمثل تهديداً من خارج الإنسان هو الآخر لا يمكنه أن يلج هذا الوادي المقدس، إنه يمكنه فقط أن يقعد على قارعة الطريق والصراط المستقيم.
{لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}([19]).
وإبليس هذا بكل ما أوتي من قدرات شيطانية التي راح يتهدد بها في خداع الناس وإضلالهم سيكون أشدّ عجزاً في أن ينفذ إلى ساحة إنسان يمثل بنفسه الصراط المستقيم.
ذلك أن الصراط يمثل قدرة الله عزّ وجلّ المطلقة وهو في مأمن تام من كل أضرار الوسوسة والتآمر.
ومن الثابت لدى العاشقين والسالكين في درب الحبيب و لدى العارفين إن الصراط هو عين السالك، وإن السالك هو عين الصراط فالسالك والطريق هما شيء واحد.
إن الشيطان يكمن في بدء الطريق والصراط وليس في وسط الطريق ولا في المراحل العالية منه.
ومن هنا فإن الذين يقومون بالإرتياض وأداء الفرائض يكونون قد قطعوا شوطاً بعيداً، وبلغا مقام الإخلاص، فهم في مأمن من آفات الوسوسة.
{وَلأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}([20]).