أبعاد العصمة
من هنا فإن الذي بلغ مقام الإخلاص العلمي وبلغ مرتبة الشهود والقضايا المعرفية والعلمية فإنه سيكون في مأمن الخطأ والاشتباه، وهو لهذا لن يفهم الأشياء بالخطأ أو يتصور بشكل ناقص ولن يعتريه الشك؛ لأن المدرك هنا هو روح مجرّدة ومخلصة.
وهو يتلقى الحقائق من الحق والعلم المحض.
إن المعصوم لا يتلقى الحقيقة ناقصة أو مشوشة أو خطأ أبداً وهو لا يشك في الحق ولا يرتاب أبداً.
يقول أمير المؤمنين علي×: «ما شككت في الحق مذ رأيته»([21]).
وفي هذا ما يدلّ أن الإمام علي× قد بلغ من الناحية العلمية والمعرفية مرحلة الشهود التام في طريق الوصول إلى الله أي أنه وصل إلى إدراك أبعد الحقائق التي لا يمكن لغير المعصوم أن يبلغها أو يصل إليها، فكان عليه الصلاة والسلام المصداق العيني لـ (لا ريب فيه).
وفي مرحلة العصمة العملية يتوجب القول أيضاً في أن هذا المقام قد أُعد للذين بلغوا ساحة الإخلاص أي الذين هم في مأمن تام من نفوذ واحتلال قوى الشهوة والغضب، والحقد والحسد والغرور والرياء و... أن المعصوم قد حسم كل هذه الأمور، وقد ألقت بأزمتها إليه.
مقام الولاء والبراءة
الشهوة والغضب في نفس المعصوم المخلصة تتجلى في البدء بصورة رغبة ونفور وتخرج من حالتي الشهوة والغضب، بحيث أن ما يتبقى منها هما الرغبة والنفور، ومن بعد ذلك ومع الرياضة والعبادة والاجتهاد تستحيل إلى صورة الولاء والبراءة >التولّي والتبري< فالولاء والبراءة هما صورة متكاملة للشهوة والغضب والرغبة والنفور.
إن الإنسان المعصوم والكامل قد طوى مراحل الجذب والدفع، الشهوة والغضب، المحبة والعداوة، والرغبة والنفور ووصل إلى مقام التولّي والتبرّي الذي هو أسمى وأكمل واجلّ مرحلة، بعبارة أخرى أن التولّي والتبري مرحلة أسمى من مرحلة الرغبة والنفور، وهذه أسمى من مرحلة الحب والعداء، التي هي أسمى من مرحلة الشهوة والغضب والتي هي أصفى من مرحلة الجذب والدفع.
إنّ من بلغ مقام التولّي والتبري يشعر بأنّ الشيطان هو أشدّ الأعداء لشخصيته في الداخل والخارج، في الباطن والظاهر.
ولذا فإنّه يعلن حربه على الشيطان بدون هوادة وهو يستند إلى قوّة الحق الذي يتولاّه بقوة:
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}([22]).
ومن هنا فإنّ الصالحين هم من سيرث الأرض بسبب عصمتهم في التفكير والسلوك، ذلك أن جوهر ذواتهم صالح فهم لا يفكرون بالسوء ولا يسلكون طريق السوء:
{أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}([23]).
وإذن فإن الحق تبارك وتعالى شاء أن تكون الأرض ميراث الإنسان الصالح في فكره وعمله.
العصمة ليست أمراً انحصارياً
عندما يجد الإنسان السالك طريقه نحو مقام الإخلاص فإنه سيكون في مأمن ، وسيكون جزءً من الصالحين وهو في هذا المقام يكون تحت ولاية الله، ولن يكون للشيطان أو غيره القدرة على النفوذ إلى منطقته، سيكون في مأمن من الوساوس والدسائس الشيطانية والأحابيل، ولقد اعترف إبليس، بل وأقسم أنه سيفعل كل جهده لخداع الناس أجمعين إلا المخلصين فليس له القدرة على النفوذ إليهم وإضلالهم، إنه أعلن عجزه التام عن فعل مضاد لمن هم في مقام الإخلاص.
وعلى أية حال فإن المخلصين هم جزء من عباد الله الذين لن يكون للشيطان سلطان عليهم ولا يمكنه الوصول إليهم، وأن المصاديق التامّة والكاملة للمخلصين هم الأنبياء والأئمة الطاهرين، ولذا فإن العصمة ليست شأناً انهصارياً أو وقفاً على الأنبياء والأئمة، إذ يمكن لمن وصل مقام العبودية التامة و الخالصة أن يبلغ هذا المقام في العصمة في مرحلتي العلم والعمل وسيكون حينئذ بمأمن من كيد الشيطان الذي أقسم على إغواء الناس أجمعين.
{لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}([24]).
وعبادك تعني معنى عاماً والمخلصين هنا هم مصداق بارز للعباد، وليس المصداق الوحيد، وإذن يمكن لكل إنسان أن يسعى ويجدّ ويجتهد ويعبد ويستغرق في عبوديته لله عزّ وجلّ إلى أن يصل مقام العصمة، وكل ما يجد الإنسان ويحصل عليه في ساحة الوجود هو هبة إلهية.
{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}([25]).
ولكن سلّم المواهب فيه درجات وكما أن بعض الأمور عللها معلومة فإن هناك أمور تخفى علينا عللها وأسبابها.
الله هو العلّة الحقيقية
الإنسان ليس مفوضاً في ما يملك بحيث لا يكون لله سبحانه دور في ذلك؛ فكل ممكن الوجود مرتبط بواجب الوجود، وعندما يكون وجود الممكن متوقفاً على واجب الوجود، فإنه لابد وأن كل كمال حي ممكن الوجود هو من واجب الوجود، وإن الفاعل الحقيقي في تعلّم العلم هو الله عزّ وجلّ: {عَلَّمَ الإِْنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}([26]).
وإذن فإن البحث والدراسة والكتاب والمعلم ليست عللاً حقيقية، بل هو علل ممهدة فقط! وإن العلّة الفاعلة الحقيقية هو الله عزّ وجلّ.
وهذه العلل إنّما تمهد فقط؛ مثل حراثة الأرض ونثر البذور والسقي، وإن الفاعل الحقيقي وراء نمو البذور وتحولها إلى شجيرات وأشجار وثمار هو الله سبحانه وتعالى.
{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}([27]).
تزكية النفس مقدمة العصمة
وعلى هذا فإن الإنسان يمكنه بالرياضة الشرعية وتهذيب النفس وتزكيتها أن يصل إلى مقام العصمة، وإذن فإن العصمة لا تنحصر في الأنبياء والأئمة، بل إنها شرط للنبوّة والإمامة.
وعلى هذا الأساس فإن غير المعصومين يمكنهم أن يبلغوا مقام العصمة وغاية الأمر أن كل بنيّ وإمام هو معصوم ولكن ليس كل معصوم هو نبي أو إمام.
يمكن لأي إنسان أن يهذب نفسه ويزكيها وأن يصونها من ارتكاب الخطأ والنسيان والاشتباه وغير ذلك أي في ما يقوده إلى العصمة في العلم والعمل، ويمكن للمرء قبل وصوله سن البلوغ أن يبدأ السير في هذا الطريق حتى إذا وصل سن البلوغ كان على درجة قريبة من العصمة، وإذا ما حدث وارتكب الإنسان في مسيرته بعض الأخطاء، فإنه هو الآخر يمكنه أن يسلك ذات الطريق في تربية نفسه وتهذيبها ليصبح معصوماً.
العصمة من الخطأ العلمي
من الممكن لمن ينهل من علم وتربية الأولياء الإلهيين أن يبلغ مقام العصمة فيكون مصوناً من الخطأ في المسائل والقضايا العلمية:
{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}([28]).
والفرقان قوّة تمكن الإنسان من التمييز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، وإذن فإن الإنسان وفي ظل تربية أولياء الحق وبالتزام التقوى في جميع الأمور أن يصل مرحلة يكون وفاروقاً محضاً فلا يفهم الأمور خطأ ولا يحفظ خطأ ولا يسلك الطريق الخطأ، ربما يجهل بعض الأمور ولكن الأمور التي يدركها فإنه يدركها بشكل صحيح ويحفظها بشكل صحيح ويطبقها في حياته بشكل صحيح.
والسبب في قول البعض أن الإنسان الفاروق ربما يجهل جزءً من الأمور؛ أن مبعث ذلك هو أن العصمة هي كسائر الكمالات الوجودية لها درجات ومراتب وإذن فمن الممكن أن يجهل المعصوم بعض الأشياء.
وعلى كل حال فإن الإنسان يمكنه من خلال جدّه واجتهاده وسعيه ورياضته النفسية ومن خلال التزكية والتهذيب أن يبلغ درجة العصمة في العلم والعمل ويستثمرها في حياته.