وأعجب العجب أنّ الذهبيّ نفسه روى هذا الحديث في سير أعلام النبلاء ، ولم يعقّب عليه بشيء ! (1) .
وثالثاً : فيه من التهافت الظاهر ما ينبغي الالتفات إليه ، وذلك في قول سويد : خطب علي ابنة أبي جهل إلى عمّها الحارث بن هشام ، وقوله : فاستشار علي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ... ، فأيّ معنى لاستشارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد الخطبة ؟ ولو كان العكس لصحّ ذلك منه .
ومع ذلك كلّه فبقية الحديث من قوله : فاستشار النبيّ (صلى الله عليه وآله) ... إلى آخره ، هي أساس ما نسج حوله الرواة ، كالمسور وأضرابه ، وهي في نفس الوقت تنفي وقوع الخطبة من علي ، كما تنفي خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الناس على المنبر معلناً غضبه ... ، فيكون الحديث بكلّ بساطة خاطرة خطرت لعلي ، فاستشار النبيّ (صلى الله عليه وآله) مستأذناً ، وقال : " أتأمرني بذلك " ، فقال : " لا ... " ، فقال علي : " لا آتي شيئاً تكرهه " .
وبهذا المعنى ردّ ابن عباس على عمر في محاورة جرت بينهما في حديث الخلافة ، أشار فيها إلى هذا المعنى ، والمحاورة طويلة جاء فيها : " قال عمر لابن عباس : إنّ صاحبكم هذا ـ يعني علي بن أبي طالب ـ إن ولي زهد ، ولكنّي أخشى عجب نفسه أن يذهب به .
قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنّ صاحبنا من قد علمت والله غير ما نقول ، إنّه ما غيّر ولا بدّل ، ولا أسخط رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّام صحبته له .
فقال : ولا في بنت أبي جهل ، وهو يريد أن يخطبها على فاطمة ؟
قلت : قال الله تعالى في معصية آدم (عليه السلام) ، ولم نجد له عزماً ، وصاحبنا لم
____________
1- سير أعلام النبلاء 2 / 125 .
|
الصفحة 134 |
|
يعزم على اسخاط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه ، وربما كانت من الفقيه في دين الله ، العالم العامل بأمر الله ... .
فقال : يا بن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها حتّى يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزاً " (1) .
هذه المحاورة رواها الزبير بن بكار في كتابه الموفّقيات ، كما نصّ على ذلك السيوطي في " الدرّ المنثور " ، ولكنّها لا توجد في المطبوع من الموفّقيات أخيراً ، بتحقيق الدكتور سامي مكّي العاني ، فهي ممّا يستدرك عليه ممّا فاته استدراكه ، فيما ذكر في آخر النسخة المطبوعة .
ومع ذلك ، فقد روى الهيثميّ في " مجمع الزوائد " نقلاً عن الطبراني في معاجمه الثلاثة ، والبزّار باختصار أيضاً ، وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف (2) .
كما أخرجه العقيلي في الضعفاء (3) ، وقال ابن حجر : ضعّفه الدار قطني وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم ... ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي ، روى أحاديث منكرة ... ، وقال الساجي : كذّاب يحدث بمناكير ... ، وذكره ابن الجارود والعقيلي ، وأورد له عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس : أنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل ، فبعث إليه النبيّ (صلى الله عليه وآله) : " إن كنت متزوّجاً فرد علينا بنتنا " (4) .
أقول : فحديث يرويه عبيد الله بن تمام الذي مرّ حاله ، وينتهي سنده إلى عكرمة الخارجي الكذّاب ، الذي حبسه علي بن عبد الله بن عباس على باب الكنيف ، لأنّه كان يكذب على أبيه ، وحديث كذبه شائع ذائع حتّى إنّ ابن عمر
____________
1- الدرّ المنثور 4 / 309 .
2- مجمع الزوائد 9 / 203 .
3- الضعفاء الكبير 3 / 118 .
4- لسان الميزان 4 / 97 .
|
الصفحة 135 |
|
حذّر غلامه أن يكذب عليه ، كما كذّب عكرمة على ابن عباس ، وقد أكذبه آخرون ، مضافاً إلى أنّه كان خارجياً يبغض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فهل يمكن أن نصدّق أنّ ابن عباس روى ذلك ؟
وثمّة حديث آخر وهو موضوع ، لأنّه أشدّ تعفّناً ممّا سبق ، حيث رووا عن علي نفسه إقراره بموجدة النبيّ (صلى الله عليه وآله) منه لذلك ، واستشفاعه بأبي بكر ، إلى غير ذلك ، ممّا يستبطن كذبه في سياق ما رواه المتّقي الهندي عن الحارث عن علي ، قال : " لمّا خطبت بنت أبي جهل بن هشام ، وجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) موجدة ، فرأيت في وجهه ، فخرجت إلى أبي بكر فأخذت بيده ، فأدخلته على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أبا بكر مقبلاً ، تهلّل وجهر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فرحاً ، فقلت : يا رسول الله رأيت في وجهك ما أكره ، فلمّا نظرت إلى أبي بكر تهلّل وجهك إليه فرحاً " !
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : " ما يمنعني أن تهلّل وجهي إلى أبي بكر فرحاً ، وأبو بكر أوّل الناس إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأطولهم سمتاً ، وأكثرهم مناقب ، رفيقي في الهجرة إلى المدينة ، وأنيسي في وحشة الغار ، ومن بعد ذلك ضجيعي في قبري ، كيف لا يتهلّل وجهي إلى أبي بكر فرحاً " ؟ (1) .
ولا تعليق لنا على ذلك إلاّ تنبيه القارئ على مدى العبث في التاريخ ، والمغالاة في صياغة الشخصية المحبوبة عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والنزعة الخفية في التفضيل ، وأنّ أبا بكر هو الأنموذج الأمثل للصحابة .
ألا سخنت عيون البكرية ما أشدّ غباءهم ، فما داموا استمرؤوا الكذب ، كيف فاتهم أن يضيفوا إلى هذه الحبكة المفتعلة جملة ، وهو خليفتي من بعدي ، لتتمّ لهم الحجّة ، ولكنّهم فيما يبدو رأوا سقوط أبي بكر في حمأة الحيرة المملة التي عاناها حين سأله الأعرابي ، وقال له : أنت خليفة رسول الله ؟ فقال : لا .
فقال : فما أنت ؟ قال : أنا الخالفة بعده ، فلم يذكروا له ذلك مادام أبو بكر
____________
1- كنز العمّال 12 / 516 .
|
الصفحة 136 |
|
قال عن نفسه هو الخالفة ، والخالفة كما قال ابن الأثير : " الذي لا غناء ولا خير فيه " ، وإنّما قال ذلك تواضعاً .
وطبيعي أن يقول ذلك أبو بكر ، فهو أعرف بنفسه من غيره ، ولأنّه يعلم ذلك من نفسه ، كما أنّه من الطبيعي أن يقول ذلك ابن الأثير ، ويقوله جميع البكريين معه ، الذين هم أكثر بكرية من أبي بكر على مقولة : ملكيّون أكثر من الملك .
ولكن ما يصنع ابن الأثير وأضرابه ، وتفسير قوله تعالى : { فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ } (1)، والمفسّرون قالوا : " فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم، من خلوف فم الصائم ، فعلى هذا يكون المعنى فاقعدوا مع الفاسدين " (2) .
ومهما يكن مراد أبي بكر في قوله : أنا الخالفة ، فإن البكرية لم يجعلوه في حديثهم السابق خليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولكن هلّم الخطب في جعلهم له أوّل الناس إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وهذا عين ما قاله رسول الله لابنته فاطمة (عليها السلام): " أو ما ترضين أنّي زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً " (3) .
وتلكم عائشة ابنة أبي بكر تقول في خطبتها بعد الجمل : " وأبي رابع أربعة من المسلمين " (4) .
____________
1- التوبة : 83 .
2- الجامع لأحكام القرآن 8 / 218 .
3- مسند أحمد 5 / 26 ، مجمع الزوائد 9 / 114 ، المصنّف لابن شيبة 7 / 505 ، الآحاد والمثاني 1 / 142 ، المعجم الكبير 20 / 230 ، شرح نهج البلاغة 13 / 227 ، نظم درر السمطين : 188 ، كنز العمّال 11 / 605 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 126 و 70 / 113 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 291 .
4- كنز العمّال 12 / 499 ، تاريخ مدينة دمشق 30 / 390 ، بلاغات النساء : 6 .
|
الصفحة 137 |
|