رضا الله في رضا أهل البيت^
إنّ من يبلغ في مرحلة التوحيد والإخلاص مقام الولاية الإلهية، وأصبح ولياً لله عزّ وجلّ، فهو في الحقيقة سيكون مظهر >هو الولي< ويكون موحداً تاماً لله تبارك وتعالى في كل أموره وشؤون حياته، ويكون إقدامه وتنفيذ أوامره بمثابة توقير لله عزّ وجلّ واستجابة لأمره ونهيه.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ}([21]).
وحينئذ يكون الجميع أمامه مسؤولاً ومطيعاً، ذلك أنه سيكون هو الشفيع ويكون رضاه من رضا الله عزّ وجل.
إن الله تبارك وتعالى جعل من رضا النبي’ وأهل بيته أمراً هامّاً، ولقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها}([22]).
إن رضا النبي’ وآل البيت^ هو رضا الله عزّ وجلّ وهو المضمون الحقيقي لقول المعصوم «رضا الله رضانا أهل البيت»([23]).
ذلك أنهم في مقام الرضا وهم أهل التوحيد، يعني أنهم لا يرضون إلا برضا الله عز وجل، لا برضا أنفسهم أو رضا الآخرين، بل أن منتهى غايتهم هو الرضا الإلهي، ومن هنا فهم حالة التسليم التام لله تبارك وتعالى.
فيجب ـ والحال هكذا ـ على الآخرين الاقتداء بهم ومودّتهم؛ لأن في رضاهم يكمن رضا الله عز وجل.
وحقاً أن على من يسلك درب الحبيب فعليه أن يقتدي بأهل البيت^ في كل شؤون حياته، كل حسب سعته الوجودية وطاقته وقابلياته،
إن عليه أن يستفيض من ولايتهم ويتدرّج في مراتب الإنسانية العليا.
ولقد بيّن الله تبارك وتعالى في كتابه المحكم سيرتهم ومنهج الحياة لديهم، فهناك آيات فيها تصريح وآيات أخرى فيها تلميح تبين لنا خصائصهم الأخلاقية وسيرتهم العملية من أجل نهتدي بنورهم ونقتبس من ضوئهم.
فهناك إشارات إلى تفاصيل في حياتهم، من رصد لحركاتهم وسكناتهم وأفكارهم، وحتى نواياهم فعلى سبيل المثال: نجد قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}([24]).
وما جاء في سورة الإنسان على لسان حالهم: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ}([25]).
أهل البيت^ معدن الرحمة
الرحمة هي الحنان والتسامح والعفو والرقّة والرأفة والعطف.
وقد جاءت الرحمة في القرآن الكريم بمعان ومصاديق عديدة، ولذا يتوجب إدراك معنى الرحمة إدراكاً جيداً يمهد إلى أداء الواجب الشرعي.
إن الرحمة حقيقة إلهية وصفة ربّانية لأنّها من أوصاف الرب تبارك وتعالى متحدة مع ذات ذي الجلال، وهي تتجلى في صور عديدة في ساحة الوجود وأبعاد الحياة المختلفة، وبخاصّة في الإنسان.
إن عوالم الوجود المختلفة وكل عناصره وكل الكائنات ما ظهر منها وما بطن، وكل ذرّات الوجود إنما هي تجلّيات للرحمة الإلهية وسنا من أنوار الرحمة والحنان الرباني والرأفة الإلهية والإحسان.
الرحمة في القرآن الكريم
تطرق القرآن المجيد في العديد من آياته إلى الرحمة وآثارها وفيما أمثلة صور الرحمة ومفرداتها:
1ـ إن القرآن الكريم ينظر إلى الرسالة والنبوة التي هي الأساس في الرشد والتكامل والسبب في الخلاص من مشكلات الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة على أنها رحمة الله التي يختص بها من يشاء من عباده، فهناك من عباد الله عزّ وجلّ من بلغ به السموات أصبح جديراً أن تشرق عليه رحمة الله فيكون مأموراً بإبلاغ الوحي الإلهي إلى الناس وهدايتهم.
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([26]).
2ـ وربما جاءت الرحمة الإلهية على أنها تخفيف في الأحكام والواجبات والفرائض، ففي مسألة القصاص والديات، تطرق القرآن الكريم إلى ذكر تخفيف في هذا الخصوص رحمة من الله عزّ وجلّ.
{ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}([27]).
3ـ إنّ القرآن الشريف يعدّ سيادة الخلق الكريم والتعامل السمح مع الناس والرفق بهم رحمة من الله غمرت الناس.
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}([28]).
4ـ إنّ القرآن المجيد ينظر إلى من يدفع عنه العذاب يوم القيامة على أنه فائز إذ تداركته رحمة من الله فنجا من سوء العذاب.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}([29]).
5ـ إنّ القرآن المجيد يصرح بإن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة فمن اقترف ذنباً عن جهل ثم تاب فإن الله عزّ وجلّ يتجاوز عن ذنبه ويقبل توبته؛ لأن الرحمة الإلهية تشمل العصاة من عباده إذا تابوا وأنابوا وعادوا إلى طريق الحق.
{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([30]).
6ـ إن القرآن الكريم هو رحمة الله لعباده، وهذا ما صرّحت به آيات عديدة:
{فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ}([31]).
7 ـ إنّ القرآن الكريم يصرّح أنه لولا رحمة الله لكان الناس من الخاسرين، فالرحمة الإلهية هي التي تحفظ العباد من السقوط في هاوية الجحيم: {فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}([32]).
8ـ إن القرآن الكريم هو الدليل والهادي لجميع الناس وإن الرحمة الإلهية تغمر كل من شرح صدره للحق وعمل صالحاً وأحسن في حياته حينئذ تشمله رحمة الله ويدخل الجنة وذلك هو الفوز يوم القيامة.
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}([33]).
9ـ إن القرآن المجيد يعتبر رحمة الله عز وجل هي السبب في نجاة المظلومين من ظلم الظالمين والجبارين.
{فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}([34]).
10ـ إن القرآن الحكيم ينظر إلى السعة الوجودية وانشراح الصدر وتوهج الباطن بالنور والإشراق الروحي التي هي تجلّيات الفيض الإلهي في الإنسان رحمة إلهية.
{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}([35]).
11ـ إن القرآن المجيد ينظر إلى انبعاث الحياة في الأرض بعد أن تسودها مظاهر الموت في فصل الشتاء، فإذا بنسائم الربيع تحيي الأرض بعد موتها وتنبت الأعشاب، وتظهر النباتات وتتفتح الأزهار والورود وتورق الأشجار وتصبح الأرض مخضرّة معشوشبة.
إن كل هذه الظواهر إنما هي رحمة الله تتجلى وتنعكس على الأرض.
{فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ}([36]).
13ـ إن القرآن الكريم يصرّح بأن رحمة الله عز وجل تغمر كل ذرّة في الوجود، فما من كائن أي إلا وهو قائم برحمة الله وآثار رحمة الله هي أساس الوجود من مثقال الذرّة إلى نجوم المجرّة.
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ}([37]).
14ـ إن القرآن الكريم يعتبر اليأس من رحمة الله كفراً، وهو من خصائص الكافرين:
{ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}([38]).
15ـ إن القرآن الكريم يعتبر الرحمة الإلهية هي خير من الدنيا وما فيها، إنها أسمى وأغلى من الثروة والمال والجاه والنفوذ، وإن رحمة الله لهي أعظم بكثير من كل ما يجمعه المرء في حياته من ثراء وغنى، إن رحمة الله’ أفضل من ذلك بكثير:
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}([39]).
معدن الرحمة
إن الآيات الكريمة التي أشارت إلى الرحمة تؤكد بما لا يقبل الشك، إن أعظم ما في الوجود وأسمى ما فيه الكون هو رحمة الله عز وجل، وإن معدن الرحمة في هذا العالم والعالم الآخر، هم أهل البيت^، وهذا ما أشار إليه الإمام الهادي× في الزيارة الجامعة الكبيرة:
>معدن الرحمة<([40]).
وعلى هذا فإن من يريد الأمان في الدارين: الدنيا والآخرة ومن يريد النجاة يوم القيامة، ومن يريد الانتهال من معارف القرآن المجيد ومن يريد أن يكون من المحسنين ومن يريد أن يشرح الله صدره للحق فعليه أن يقتدي بأهل البيت وينهل من ثقافتهم ويعمل بإرشاداتهم ويهتدي بهداهم، ويكن لهم الحب والمودّة.
بعبارة واحدة أن يطيعهم؛ لأن من يطيعهم يشمله كل ما تحدثت به الآيات الكريمة عن رحمة الله عز وجل، فيحيا مطمئناً في الدنيا؛ لأنه يسير في طريق الحق والصراط المستقيم ويعيش سعيداً في الآخرة؛ لأنه سيكون من الفائزين يوم القيامة.
وما كانت وصايا النبي’ في كل مناسبة طوال ثلاثة وعشرين سنة في وجوب طاعة أهل البيت إلا من أجل أن يهتدي الذين آمنوا برسالته ويسيروا على هداه.
إن طريق أهل البيت هو طريق الإسلام الحق، كما جاء به النبي’ فهم الأمناء على الرسالة بعد غياب النبي’ وإن طاعة آل البيت^ هي طاعة للنبي’ التي هي طاعة لله عز وجل.
وهذا الصحابي الجليل زيد بن أرقم وهو في طليعة الرواة المعتمدين لدى كتب العامة يذكر هذه الرواية عن النبي’:
>قام رسول الله’ يوماً فينا خطيباً ـ بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد ألا يا أيها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، ثم قال وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي<([41]).