* د. منى فياضي
ألتفتُ حولي في الجامعة فأجد الصبايا أكثر عدداً من الفتيان، وأجد أن معظمهن عازبات، والمتزوجات النادرات بينهن تزوجن باكراً. تلفتني هذه الظاهرة منذ فترة بحيث يمكنني القول أن صفوفي، حتى العالية منها (دبلوم، ما يعني الأكبر سناً)، مكونة من طالبات عازبات.
ما السبب؟ لا يمكن أن تكون الإجابة على هذا السؤال بسيطة، كأن أقول أن الفتيات اللواتي يكملن تعليمهن فقط هن العازبات، خاصة في بلد يعتبر ذا طابع شرقي، أي أن الزواج المبكر وتكوين أسرة تعد من الأولويات الاجتماعية. لابد من الاعتراف إذاً بأن واقعنا يتغير، أولويات فتياننا وفتياتنا تتغير. إن نظرة سريعة من حولنا سوف ترينا أن سن الزواج يتأخر من ناحية، وإن عدد العازبين والعازبات يتزايد من ناحية أخرى. وكأن ما يطلق عليه اسم (عانس) صار أبعد في الزمن وأقل إثارة للخوف!
سألت طالباتي عن السبب الذي يبقيهن عازبات وعن نظرتهن إلى الزواج، وسألت الطالب الوحيد الذي كان بينهن، وهذه بعض الإجابات والانطباعات التي كونتها:
سألتني ريما: ((مَن تريدين أن أتزوج؟ معظم الشباب الذين حولنا لا يناسبوننا، لأنهم اشتركوا في الحرب ولم يكملوا تعليمهم، وليس بإمكاني الزواج من شاب لا يتمتع بمستوى فكري وثقافي لائق. أما الباقون الذين كان يمكن أن أتزوج من أحدهم، فقد هاجروا للعمل في الخارج أو لإكمال تعليمهم، وعندما يعود واحدهم يبحث عمن هي أصغر سناً أو يتزوج حيث هو)).
عبرت لمياء عن معاناة متقاطعة ومختلفة، قالت: ((سبب بقائي عزباء حتى الآن (أعمار الطالبات يتراوح بين 22 عاماً و 25 عاماً بشكل عام، لكن هناك البعض من اللواتي يقاربن الثلاثين)، ونحن ست بنات في المنزل، هو أن أمي ترى أن على البنت أن تتسلح بالعلم حتى إذا تزوجت وحصل لها مشاكل زوجية أو مادية يكن باستطاعتها إعالة نفسها. أتى العديد من الخطاب، ولكنها كانت تقول إننا نكمل تعليمنا لأن حالتهم المادية غير جيدة، ولأنهم غير متعلمين. أمي عانت كثيراً، قامت بدور الأب والأم في نفس الوقت، لا تريدنا أن نتعذب في حياتنا. كما نعرف بعض الأشخاص الذين سافروا إلى الخارج. كان بيننا الإعجاب والتفاهم، لكن السفر غير أوضاعهم المادية، وبحثوا عن بنات من مستواهم الجديد. يطلبون الآن شقة ولا يهمهم المعاشرة أو الجمال. لكنني لم أتأثر كثيراً، يجب على واحدتنا أن لا ترتبط بأحد، وعلينا أن نكون أكثر واقعية في هذه الحياة. السعادة نحن مَن نبنيها ولا تهبط من فوق ولا يهم إذا كان البيت صغيراً. النجاح يكمن في العمل على الاستمرارية. ليس الحب هو الأساس بل التفاهم)).
علي، الشاب الوحيد في تلك الجلسة، رفض الزواج من ابنة عمه الموجودة في تركيا والذي أراد أبوه تزويجه إياها، رفض لأنه لم يرها ولا يعرفها. علي يقول: ((لن أتزوج بدون حب أكيد ومتبادل، خطبة 6 أشهر لا تكفي قد تظهر على غير ما هي عليه، أنا متحرر نوعاً ما، أخرج مع الفتيات، لكن لا أقيم علاقات جنسية، يجب أن أتعرف جيداً على مَن سوف أتزوجها)).
تعلق الفتيات أنهن لا يردن الخروج مع الشباب، لأن المسألة تبدأ بالخروج ثم تنتهي بالغرام. ليس الجميع هكذا، لكن غاية الكثير من الشباب هو الجنس.
لينا (22 عاماً) تجد أن الوقت مبكر جداً الآن للزواج، لكنها لن تختار مَن هو أكبر منها، أو أصغر، بعشر سنوات. أعجبت بكثير من الشبان كما تقول، لكن أكثر شخص تأثرت به منذ سنة ونصف بسبب شخصيته القوية، يقولون لها أنه لا يناسبها، لأنه يقوم بعمل يدوي. احتارت لينا فترة طويلة لكنها خطبت إلى ذلك الشاب بعد تردد، وقررت أن تغلب الحب.
تتساءل ناديا إن كان على الفتاة الزواج. تقول إن الأمر ليس إلزامياً، لكن من الأفضل لو يحصل ذلك. رفضت بعض الأشخاص لانعدام التفاهم.
سناء المتزوجة (34 عاماً)، تزوجت منذ 15 عاماً، بعد قصة حب وغرام، رفض الأهل في البداية لأنها صغيرة، لكنهم عادوا وقبلوا. تقول كان الوقت مختلفاً، لم يكن غنياً بل موظفاً. تقول سناء إنهم الآن يفكرون بعقلهم أكثر، بينما بنات جيلها لم يكن يقبلن الزواج دون الغرام وعلاقة الحب. لكنها تفكر أنها لو خيرت فلن تعيد الكرة. لأنها تتعذب الآن وتقضي وقتها في الركض، لأنها أم لثلاثة أولاد وموظفة، وتتابع تعليمها في نفس الوقت. الآن تفضل أن تختار زوجاً مرتاحاً مادياً وليس الغرام.
سألت بعض الطالبات في صفوف أخرى، هل تشعر واحدتهن بأنها تأخرت حقاً عن الزواج وهل تخاف بأن توصف بالعانس وهل تقوم بتضحيات معينة كي لا تبقى عزباء؟
اتصلت بي حديثاً صحافية من أجل حديث، وحصل حوار بيننا سألتها خلاله إن كانت متزوجة، نفت الأمر وعندما اعتقدت أنها لا زالت صغير علقت أنها تبلغ الرابعة والثلاثين من العمر، وإنها لا تفكر بالزواج بل تسعى إلى تحقيق ذاتها والتفرغ إلى الكتابات الفلسفية. لهذه الصحافية أختان واحدة فقط منهما متزوجة.
يتبين لي أن الفتيات لم يعدن يخفن كثيراً من فكرة البقاء دون زواج ولسن على استعداد لتقديم كل التنازلات الممكنة للحصول بأي ثمن على مرتبة زوجة. لكن من الواضح أن العقلانية (بمعنى آخر البراغماتية) هي الغالبة، وشعار الحب مع الخبز والزيتون لم يعد هو السائد. لكن هناك أيضاً متطلبات متعارضة، الحيرة بين الاستقرار والحب، بين الراحة المادية والغرام، وعندما يكون القرار بيد الشخص، كما هو حال علي، فإنه يقرر الزواج عن حب، ربما لأنه أكثر رومنطيقية أيضاً؟
لم يعد ممكناً على الأجيال الجديدة تقبل تدخل البالغين المستمر أو احتمال وجودهم الدائم. لم يعد ممكناً أيضاً تحمل فكرة إمكانية مشاركة منزل الزوجية مع أحد ولو لفترة محددة: نموذج ندى طلاقها قبل أن تتزوج، بسبب موقف الأخت والأسرة.
وبينما كان تكوين الأسرة هو أحد أهم أسباب الزواج، يتم البحث الآن عن تحقيق الذات وعن الاستقلالية وإمكانية الاستمرار اعتماداً على النفس، بدليل موقف سناء التي لا تكتفي بكونها أماً وزوجة وموظفة، بل تريد شيئاً آخر أيضاً، وهو البحث عن ذاتها.
كذلك موقف أم لمياء من اعتبار أن الأولوية هي لتعليم بناتها لضمان مستقبلهن، إذ لم يعد المستقبل مرتبطاً فقط بحسن اختيار الزوج، بل بالمهنة بإمكانية الاستقلالية.
من الملاحظ أيضاً ضياع الأوهام حول الزواج: ((الحب الذي لا يدوم))، أو تطلب الواقعية، وإن السعادة تبني ولا تهبط علينا من فوق، السعادة التي تصبح أحد أهم أولويات الأفراد.
لم يعد الزواج بأي ثمن أولوية مطلقة، فتياتنا يعطين لأنفسهن الوقت الكافي للتفكير، ويتطلبن شريكاً كفؤاً على الأقل إذ لم يكن مكتفياً مادياً.
يبرز هنا مفهومي العلم والعمل وضرورتهما المطلقة، لم يعد الزواج هو صمام الأمان، بل العلم والعمل. لذا تم تعد فكرة إيجاد زوج بأي ثمن سائدة أو مثار نقاش تفضل الفتيات الآن الاعتماد على أنفسهن. يراودهن طبعاً حلم الحب والزواج عن حب، لكن ذلك لن يعني الجنون أو التضحية بكل شيء من أجله، العقل يبدو في أحسن حالاته الآن.
تعبير ((عانس)) لم يعد فزاعة لأحد، ولم يعد يطل برأسه مبكراً جداً على كل حال. يتم توطيد النفس على العزوبية ولو لفترة، ولم تعد الفتاة على ما يبدو زائراً آنياً سرعان ما يترك الأسرة.
السؤال: ما هو الأثر الذي سوف يتركه هذا الوضع على العلاقات داخل الأسرة وبين الجنسين؟ كيف ستتحول بنية الأسرة؟ هل سوف تنعكس انحساراً ديموغرافياً؟ أم علاقات خارج الأطر التقليدية؟ أم توترات نفسية؟ أم إنتاجية أعلى؟ أم ماذا؟ ذلك كله خاضع للنقاش.