قضايا العصر
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُون)(1)
خلق الله تبارك وتعالى الخلق ابتداعاً، واخترعهم بمشيئته اختراعاً، وجعلهم على طريق محبته وعدالته، لا يملكون تأخيراً لما قدمهم إليه، ولا يملكون تقديماً لما أخرهم عنه. ثم قسم الله سبحانه بينهم معايشهم، ووضعهم في الدنيا مواضعهم، وزودهم بفطرة لا ترتوي إلا بذكر الله، وركب فيهم العقول، وجعل فيهم أنوار الإيمان في القلوب، ولم يتركهم هكذا وإنما زود هذا العطاء بعطاء يمده وينسجم معه، وهو إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، لتكون لله الحجة البالغة على خلقه، فلا حجة لأحد على الله سبحانه وتعالى بعد هذه التركيبة من الخلق، وبعد إرسال الرسل والأنبياء.
ثم بدأ القرآن الكريم بإرشاد الناس وهدايتهم، وصار يبشر أهل العقل والفهم (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(2) ويركز على القلة المؤمنة التي تحرك بإيمانها قوانين الغيب في الكون ويذم الكثرة الغوغائية التي لا سبيل لها للهداية والحق، إنما أرادت لنفسها هذا الطريق حتى قال عز من قائل (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)(3)
لكن الله في القرآن الكريم يبين أن هذه الحركة للإنسان وهذه التركيبة وهذه الحكمة إنما تتحقق بشيء واحد.
فالله تبارك وتعالى هو خالق الوجود وباعث الأنبياء والرسل والقرآن وخالق الفطرة لتنظيم الكون، إلاّ أن هناك أسباب مجتمعة إذا فقد منها سبب واحد لا تتحرك بمسيرتها.
فعلى سبيل المثال كل شيء لو أحضرته في مركبتك _ في سيارتك أو في راحلتك _ ونسيت شيئاً بسيطاً منها، على سبيل المثال مفتاح السيارة أو أن السيارة ليس فيها وقود أو أن هذه المركبة ليس فيها الوجهة أو الدليل الذي يأخذها على وجهتها لا يمكن أن تنطلق ولا يمكن أن تسير.
الله تبارك وتعالى جعل بتقديره وبعلمه وقضائه، كما قدر الإنسان وجعله في أحسن تقويم، قدر عقل الإنسان، وقدر روح الإنسان، وقدر دين الإنسان والعقيدة التي يمشي بها كلها بتقدير الله سبحانه وتعالى، وخصوصاً في ليلة القدر، لكنه جعل هذه المسيرة وهذا النجاح لا يتحقق أبداً ومطلقاً إلا بوجود إمام معصوم فمن دون إمام معصوم لا تتحقق هذه الأمور كلها.
ولا تستغرب عندما تسمع القرآن الكريم يحدثنا أن أشرف الخلق وأعظم الخلق الذي هو أبو الزهراء المصطفى محمد صلى الله عليه وآله والذي خلق الله الكون كله من نوره(4)، يحدّثنا أن الله أمر حبيبه المصطفى أن يعلن عن الإمامة وأن يعلن عن ولاية علي بن أبي طالب في يوم الغدير(5) وفي آيات واضحة يقول له: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(6).
فإذا كان الأمر بهذا التقدير وبهذا الشكل، إذا كان الله يخاطب حبيبه المصطفى يقول: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، في الوقت الذي لم يبق شيء عند رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبلغه إلى يوم الغدير وإلى حجة الوداع، فالصلاة والصيام والحج وكل شعائر الدين ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يبق إلا الإمامة التي يركز عليها الحبيب المصطفى دائماً، يركز عليها في كل مكان وفي كل موطن، لكن في ذلك المكان يأتيه النداء: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(7)
إذا أخذنا هذا الأمر بنظر الاعتبار، إضافة إلى أننا سنجد أيضاً الإمامة لها أثر كبير وفعال، في صحاح المسلمين (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(8) ففي سكرات الموت تسأل عن إمامك، إذ أن الحديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه) يعني في القبر أيضاً سؤال منكر ونكير: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ من إمامك؟ لأنه يقول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه) فربط قضية الموت بمعرفة إمام الزمان.
في ساحة المحشر كذلك (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)(9)
إذن المسألة واضحة، وأنت تعيش الآن في الحياة _ وعمرك طويل _ فالسؤال الذي يوجه إليك وإلي، القرآن الكريم يتحدث عنه، وهو: من إمامك؟ من هنا لابد أن تعرف من إمامك وإلا في عالم البرزخ ونحن مذهولون لا نعرف كيف نجيب.
المسألة لا تقتضي مقدمات ولا تقتضي تطويل حديث، مسائل واضحة (بَلِ الإِْنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(10) لكن الناس غافلون عن هذه الحقيقة، وكفر الناس لا يلغي الحقائق، إذ أن الحقائق موجودة، لكن من أين نأخذ الحقائق؟ الله تبارك وتعالى عندما خلقنا بهذا الشكل وأمر الملائكة أن تسجد للإنسان _ ونحن نتحدث في عصر انقلبت فيه الموازين والمقاييس بالكامل _ من أين نأخذ الحق؟ إلى أين نتجه؟ هل نتجه إلى أهل الباطل ونأخذ منهم الحق أم المعرفة نأخذها من أهل الجهل والحمق؟ أم نذهب إلى أهلها؟
القرآن الكريم يوجهنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(11) والقرآن يؤكد أن كل كلمة يقولها رسول الله صلى الله عليه وآله هي وحي يوحى، سواء آية أو حديث (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى)(12)
بعد ذلك القرآن الكريم يبين أن رسول الله ليس فقط فعله حجة وشرع وأحكام، وإنما قوله حجة وتقريره حجة، وحتى ملامح وجه رسول الله حجة وحكم إسلامي، فإذا كان راضٍ أو كان غاضباً ملامح وجهه تعتبر حكماً إسلامياً.
فإذا كان الأمر هكذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله أكد في حياته على ولاية أهل البيت عليهم السلام، وأكد على ولاية الأئمة الاثني عشر، وأكد على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، حتى يصل إلى الإمام الثاني عشر، الإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه.(13)
هذا الحديث الذي أقوله ليس من كتب مدرسة معينة في الإسلام، بل كل المدارس الإسلامية وكل المسلمين، أنقل لكم هذا الحديث: الرسول عندما يصل إلى الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه يكثر بالحديث عنه، يتحدث عن مواصفاته، يتحدث عن ملامح وجهه(14)، يتحدث عن علامات آخر الزمان(15)، يتحدث عن شكل الإنسان في ذلك الزمان(16)، يتحدث عن وسائل النقل(17)، يتحدث الرسول عن العلامات التي تظهر في السماء وفي الأرض(18)، يتحدث عن الجيوش التي يقودها الآخرون مثل جيش الدجال وجيش السفياني وجيش اليماني، وهذه كلها تخرج والناس ينظرون إليها(19)، يتحدث أن الشمس تشرق من المغرب(20)، يتحدث بظهور عمود من نار فيطبق الليل بالنهار، الكرة الأرضية تصبح في النهار وفي النور، يتحدث أن الإمام المهدي إذا ظهر يقف بين الركن والمقام يخطب وكل من على وجه الأرض من إنسان يسمع صوته ويرى شخصه بلسان فصيح وبكل لغات العالم(21) في نفس اللحظة، وفي نفس اللحظة يسمعون الصيحة التي تأتي من السماء من قبل جبرئيل، لا يبقى ذو روح في الأرض إلا يسمع تلك الصيحة: ألا يا أهل العالم لقد خرج مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله.(22)
بعد ذلك يعطي مواصفاته بدقائق: يخرج الإمام من ولدي، الإمام المهدي ابن أربعين عاماً(23)، لكن هو عمره مديد لأن ولادته سنة 255_ وهو نفس رقم آية الكرسي _ للهجرة ليلة النصف من شهر شعبان، ولد لأبيه الإمام الحسن العسكري، والإمام الحسن العسكري، ابن الإمام علي الهادي ابن الإمام محمد الجواد ابن الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم باب الحوائج ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين، والحسين بن علي بن أبي طالب، الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
الإمام يصفه رسول الله صلى الله عليه وآله، يصف علامات وجهه: أقنى الأنف، خالٌ أسود على خده الأيمن، وجهه كأنه كوكب دري(24)، إذا مشى الإمام سلام الله عليه على رأسه غمامة _ كل ذلك حتى لا نضل عن الحق _ يمشي وعلى رأسه غمامة فيها مناد ينادي: أيها العالم هذا خليفة الله المهدي.(25)
هذه الصفات كلها يذكرها النبي، والأحاديث الواردة فيها يذكرها الشيعة والسنة بالإجماع، ولا فرق بين الشيعة والسنة، لكن أقولها لمعنى.
وتأخذ الكتب تتحدث عن الإمام المهدي، فلاحظ الإمام المهدي في صحيح البخاري(26) وفي صحيح مسلم(27) وفي كل الكتب، ولكن لا تسمع أحداً يتحدث عن الإمام المهدي في خطبة يوم الجمعة، ولا تسمع أحداً يتحدث عن الإمام المهدي في إذاعة أو تلفزيون.
لكن العالم كله يتحفز علم أم لم يعلم، شاء أم أبى، كل إنسان على الأرض اليوم بفطرته وواقعه ينتظر قدوم الإمام المهدي عجل الله فرجه، ولذلك موجة التشكيك كثرت هذه الأيام وموجة اليأس أنه إذا ظهر الإمام كيف يقابل هذه الأسلحة الفتاكة أو هذه القنابل الذرية، وهذه طبيعة الناس من أيام إبراهيم الخليل، فالناس لما نظروا إلى إبراهيم كيف قابل الفراعنة والنماردة، قابلهم بجيش نظامي لأول مرة، أول من أسس الجيوش بالأرض هو إبراهيم الخليل قاد الجيش فانتصر على أعداء الله(28)، وبنى البيت الحرام.
فلما مرّت الدنيا ومضى التأريخ الناس الذين كانوا ينتظرون موسى بعد إبراهيم قالوا: كيف موسى سيأتي بالجيش الآن؟ الفراعنة في مصر عندهم جيش نظامي عرمرم لا يمكن لموسى أن يقابل هذا النظام وهذا الجيش، وإذا يأتي موسى بما لم يكن في الحسبان، بتسع آيات بينات وبعصاه التي تلقف ما يأفكون وبالبحر هل سمعت بمثل ذلك؟ لو أن إنساناً يحدثك، يقول لك: إن الله سيبعث نبياً يستخدم البحر لضرب أعدائه، يلطمهم بالبحر، فستقول: كيف يلطمهم بالبحر؟ وإذا ظهر موسى (ع) ضرب البحر وإذا البحر قوة هائلة يحركها موسى كما تحرك الخاتم بإصبعك مع التسع آيات مع العصا.
بعد ذلك الناس الذين كانوا ينتظرون قدوم عيسى قالوا: كيف يأتي عيسى والآن المسألة انقلبت والمعايير تغيرت والموازين تحولت، الآن أطباء وعلماء في هذا العصر يأتون للإنسان الذي يصل إلى درجة قريبة من الموت فيشافونه ويعالجونه بدقة متناهية، كيف يستطيع عيسى أن يتقدم؟ أي هل يمكن أن يأتي بنفس الآيات؟! فإن آيات موسى لا تؤثر الآن في هذا الزمن، فجاء بقوة بالغة، وإذا به ليس فقط يشفي المرضى وإنما يبرئ الأكمه والأبرص من دون دواء، وإنما بمسحة يد فقط بعد ذلك يحيي الموتى، قال لهم: (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ)(29) وما أحيي الميت الذي مات قبل ساعة، بل أمشي معكم إلى قبر مات صاحبه قبل خمسمائة عام وبدنه كالرميم أنا أناديه فيقوم وينفض التراب عن بدنه ويقف أمامكم، وإذا تلك العظمة التي أعطاها الله لعيسى، وخرج عيسى والناس ينتظرونه، دائماً البشرية تنتظر مخلص _ التفت إلى القرآن حتى تعرف أن قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه قضية فطرية في عقيدتنا وفي أعماقنا يجب أن نلتفت إليها _ وإذا البشرية تنتظر قدوم عيسى وعيسى يخرج بهذه الآيات العظيمة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)(30) وينبئ الناس بما يأكلون..الأطباء كانوا في زمن عيسى إذا نظروا للشخص يقولون له: أكلت كذا وكذا، عيسى (ع) كان ينبئهم بما يدخرون في بيوتهم من الطعام ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وينبئهم بما كان وما يكون.. (31) ثمّ امتدت البشرية.
أبين لكم هنا ملاحظتين: