فغيبة الإمام المهدي بن الإمام العسكري(عليهما السلام) قد عُرِفَتْ إذاً قبل حدوثها بعشرات السنين، وذلك من خلال ما سمعوه من أهل البيت: مباشرة، ولهذا ألَّفوا فيما سمعوه بهذا الخصوص كتباً عديدة، وقد شهد غير واحد من أعلام الإمامية وأجلاّئهم المشهورين على هذه الحقيقة.
قال الشيخ الصدوق: «إنّ الأئمّة: قد أخبروا بغيبته(عليه السلام) ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم، واستحفظ في الصحف، ودوّن في الكتب المؤلّفة من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمّة: إلاّ وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوّنه في مصنّفاته، وهي الكتب التي تعرف بالاُصول، مدوّنة مستحفظة عند شيعة آل محمّد(صلى الله عليه وآله) من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين..»(33).
وإلى هذا أشار الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة فقال بعد استدلاله بجملة من الأخبار الموجودة في الكتب المؤلّفة قبل زمان الإمام المهدي(عليه السلام) ما هذا لفظه: «موضع الاستدلال من هذه الأخبار ما تضمّن الخبر بالشيء قبل كونه فكان كما تضمّنه»(34).
كما شهد بهذا أيضاً ابن قبّة الرازي، وهو من فحول متكلّمي الإمامية في عصره، فقد نقل الشيخ الصدوق عنه قوله في هذا الخصوص: «وهذه كتبهم فمن شاء أن ينظر فيها فلينظر»(35).
كما شهد الإربلي في كشف الغمّة والطبري الإمامي في دلائل الإمامة بعد نقل حديث عن الإمامين: الباقر والصادق(عليهما السلام) صريح بغيبة الإمام المهدي(عليه السلام) بأنّهما نقلاه من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب الزرّاد(36) والحسن بن محبوب مات; سنة 224 / هـ ، أي قبل زمان الغيبة الصغرى بستّة وثلاثين عاماً، على أنّ ظاهرة الإخبار بالشيء قبل وقوعه كانت ظاهرة معروفة في حياة الأئمّة:، وقد أذعن لها الشيعة برمّتهم واعترف بهذا غيرهم أيضاً.
قال ابن خلدون (ت / 808 هـ ) في تاريخه في الفصل الثالث والخمسين عن الإمام الصادق(عليه السلام) ما هذا لفظه: «وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول، وقد حذّر يحيى ابن عمّه زيد من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف، وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم، فما ظنّك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوّة؟ وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة»(37).
وقال أيضاً: «ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك، مستندهم فيه ـ والله أعلم ـ الكشف بما كانوا عليه من الولاية، وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم، وقد قال صلى الله عليه [وآله] وسلّم: (إنّ فيكم مُحَدَّثين)، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة، والكرامات الموهوبة»(38).
وقال علي بن محمّد الجرجاني (ت / 816 هـ ) في شرح المواقف لعضد الدين الايجي (ت / 756 هـ ) في المقصد الثاني، مبحث العلم الواحد الحادث، هل يجوز تعلّقه بمعلومين؟ ما هذا نصّه: «وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى رضي الله عنهما إلى المأمون: إنّك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك، فقبلت منك عهدك إلاّ أن الجفر والجامعة يدلاّن على أنّه لا يتمّ»(39).
وقد نقل هذا الكلام بعينه الكاتب الحلبي المعروف بحاجي خليفة (ت / 1067 هـ )، وأضاف عليه قوله: «وكان كما قال; لأنّ المأمون استشعر فتنة من بني هاشم، فسمّه، كذا في مفتاح السعادة»(40).
وقد زعم بعض خصوم الشيعة بأنّ أخبار أهل البيت: عن الإمام المهدي(عليه السلام) التي يدّعي الشيعة وجودها في الكتب المؤلّفة في عصر الإمام الصادق(عليه السلام) أخبار مكذوبة، نظراً لما تضمّنته من علم الغيب، وهو منفي عن غير الله عزّ وجل! وهذا جهل فظيع، لأنّ العلم المنفي عن غيره تعالى هو ما كان للشخص لذاته بلا واسطة في ثبوته له; لمكان الإمكان فيه ذاتاً وصفة، وكلّ ممكن لا يثبت له شيء من هذا العلم بلا واسطة، وما وقع لأهل البيت: فهو ليس من العلم المنفي في شيء; لأنّه متلقّى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الوحي، عن الله عزّ وجل، ولا مانع أيضاً من أن يفيضه الله تعالى عليهم عن طريق الإلهام، لأنّهم: «مُحَدَّثون» كما مرّ في كلام ابن خلدون ما يشير إلى هذا، وفي الصحيح عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «نحن إثنا عشر مُحَدَّثاً»(41).
ولا مانع أيضاً من القول بقول الآلوسي (ت / 1270 هـ )، بشأن علم الخواص، قال: «إنّهم أُظْهِرُوا أو أُطْلِعُوا ـ بالبناء للمفعول ـ على الغيب، أو نحو ذلك ممّا يُفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم»(42).
ومن هنا يظهر بوضوح وجه المغالطة في نسبة إخبار أولياء الله بالشيء قبل حدوثه إلى علم الغيب المنفي عن غير الله عزّ وجل، كما فعل بعض أدعياء العلم، هذا فضلا عمّا في تلك المغالطة من إنكار لشيء مادّي ملموس!! أعني المصنّفات الكثيرة المؤلّفة في غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) قبل ولادته، وفيها من الأخبار الكثيرة المتواترة ما يكشف عن غائب بالتحديد، وشخص معيّن لا مجال للاشتباه فيه أو الترديد، وهو ما شهد به غير واحد ممّن ذكرناهم.
ومن ثَمَّ فإنّ محدّثي الإماميّة الذين عاشوا في الغيبة الصغرى (260 ـ 329 هـ ) أو بعدها كالبرقي (ت /274 وقيل سنة / 280 هـ )، والصفّار (ت / 290 هـ )، والكليني (ت / 329 هـ )، والصدوق الأوّل (ت /329 هـ )، والنعماني (ت / بعد سنة 342 هـ )، والصدوق (ت / 381 هـ )، والشيخ المفيد (ت / 413 هـ )، والشيخ الطوسي (ت / 460 هـ )، وغيرهم من أعلام الإمامية قد جمعوا تلك الأحاديث من الكتب المعروفة بالاُصول الأربعمائة، وغيرها من المصنّفات المعتمدة المؤلّفة في عصور الأئمّة التي شاع اعتمادها; حتى صار مرجعهم إليها ومعوّلهم عليها، وأودعوا ما جمعوا منها في مؤلّفاتهم المعروفة، وفيها ما يكشف عن غيبة الإمام المهدي في فكر جدّه الإمام الصادق(عليهما السلام) بكلّ وضوح، ولا يضرّ وجود الإجمال في بعضها مع وجود التفصيل، كما لا يقدح الإبهام في دلالاتها مع توفّر البسط والتوضيح; إذ لم يقتصر إمامنا الصادق(عليه السلام) على إخبار شيعته بمجرّد غيبة إمام من أهل البيت: ، حتى يمكن القول بعدم دلالة ما أخبر به على غياب شخص معيّن. وإنما أخبرهم كذلك بشخص من سيغيب، وحدّد رقمه من بين الأئمّة الإثني عشر، وذكر اسمه وكنيته، وسلّط الضوء على كامل هويّته، وما يقوله المبطلون في ولادته، وطول أمد غيبته، وما يجب على المؤمنين من انتظار فرجه، مع تبيين واسع لعلامات ظهوره، ومكان الظهور، وعدد أنصاره، ومدّة حكمه بعد ظهوره، وقوّة دولته، وسعة العدل فيها، والرخاء العميم في جنباتها، وسيطرة دين الإسلام في ظلالها على سائر الأديان كلّها في مشارق الأرض ومغاربها، بما لا يبقى مع تلك الأخبار أدنى مجال للقول بمهدي مجهول يخلقه الله تعالى في آخر الزمان.
وهكذا حكم الإمام الصادق(عليه السلام) من خلال تلك الأحاديث بزيف دعاوى المهدوية السابقة على عصره والمعاصرة له، واللاحقه به، وبيّن كذبها جميعاً; كمهدوية محمّد بن الحنفية ( ت / 73 هـ ، وقيل غيرها) ومهدوية عمر بن عبدالعزيز الاُموي (ت / 101 هـ )، ومهدوية محمّد بن عبدالله بن الحسن الذي قتله المنصور الدوانيقي سنة / 145 هـ ، ومهدوية الملقّب زوراً بالمهدي العباسي (ت / 169 هـ )، ولم يكتف الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا كلّه، وإنّما حاول تنبيه الشيعة إلى ما سيحصل بعده من قول الناووسيّة بمهدويّته(عليه السلام)، وقول الواقفية بمهدوية إبنه الإمام الكاظم بعد وفاته(عليه السلام). ومن هنا نفى الإمام الصادق(عليه السلام) المهدوية عن نفسه وعن ولده الإمام الكاظم(عليه السلام) بوضوح وصراحة تامّين; لكي لا يغتر أحد بمقولة الناووسيّة، ولا يعبأ بمقولة الواقفية، ولا يصغي لغيرهما كالفطحية وأمثالها، ممّا نتج عن ذلك التنبيه الواعي المدروس أن تبخّرت تلك المزاعم الباطلة وذهبت أدراج الرياح، واضمحلّت فرقها الفاسدة بعد ظهورها على مسرح الأحداث، وزالت بأسرها عن صفحة الوجود كلمح في البصر، وعاد مثلها كمثل الفقاعات التي تظهر على سطح الماء الساخن فجأة ثمّ سرعان ما تنفجر وتتلاشى، بحيث لا ترى لها رسماً ولا طللا، وهكذا كانت تلك الفرق، محى الله تعالى آثارها ودثر أخبارها، ولم يُبقِ لها حتى أثراً بعد عين، لأنها ذهبت جفاءً كالزبد الذي لا يمكث في الأرض إلاّ قليلا.
وعوداً على بدء، فإن منهج الإمام الصادق(عليه السلام) في طرح موضوع الغيبة قد اتسم بالعمق والشمول والسعة; بحيث استوعب الإجابة على ما يحيط بقضية الإمام المهدي(عليه السلام) من تساؤلات، وكوّن ـ بهذا ـ وحدة موضوعية متجانسة، كافية في مقام معرفة من هو الغائب على وجه التحديد، بلا أدنى حاجة الى التماس أحاديث اُخرى عن أهل البيت: للكشف عن هوية الإمام الغائب.
وها نحن نذكر مكوّنات الوحدة الموضوعية لغيبة إمام العصر والزمان في فكر الإمام الصادق(عليه السلام)، وبحسب العناوين الآتية:
ــــــــــــــــــــــــــــ