الحقيقة الوجودية (الإنسان الباطن)
يقول مولى العارفين وروح العالمين سيدي ومولاي علي بن أبي طالب عليه السلام اللَهُمَّ بَلَي لاَ تَخْلُو الاَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ ـ وَاللَهِ الاَقَلُّونَ عَدَداً وَالاَعْظَمُونَ قَدْراً، يَحْفَظُ اللَهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتَهُ حَتَّي يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُونَهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ.
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الاَعْلَي.
إن كلام أمير الحكمة هذا يدل على وجود أناس سيحملون سر الإنسان والدين في بواطنهم، بعد غياب جسده على مسرح الحياة، لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، فمن هؤلاء الذين سوف يحملون ما لم يستطع الآخرون حمله؟ إنهم محبي الحق والحقيقة والمحبة الإلهية والسلام والخير للناس جميعا، فهذا أويس القرني يبكي شوقا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويكابد ألم الفراق ويبيت متأملا نجوم السماء يداوي والدته المريضة منتظرا فرصة للقاء محبوبه رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي سمع عنه واشتاق إلى رؤيته. لقد تشوقت روح أويس إلى معانقة الرسول الذي رحل عن الدنيا عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وهو يوصي بجبته إلى أويس وبالدعاء إلى أمة محمد بالغفران.
وهذا سلمان الفارسي الذي صحب رسول الله وأحبه حتى أصبح سلمان المحمدي، فقال فيه لو علم ابو ذر رضي الله عنه ما فيه باطن سلمان لقتله وفي رواية أخرى لكفره، ونحن جميعا ندرك ما وصل إليه إيمان أبو ذر رضي الله عنه، ألا يعني هذا أن باطن سلمان عليه السلام يحمل أسرارا وجودية صعبة وخطيرة تجعل الذين وصلوا إلى أقصى درجات الإيمان يكفرونه.
وهذا كميل بن زياد الذي كان حامل سر علي عليه السلام وكان دائم السؤال في حضرة أمير المؤمنين عليه السلام عن كنه الأشياء والمغيبات، الشيء الذي جعل أمير المؤمنين عليه السلام يخصه بدعاء جميل يحمل معاني عرفانية ،فعندما يواظب المؤمن منا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام الدعاء بهذا الدعاء في كل ليلة جمعة، ويلتزم به يفتح الله له أبوابا من المعرفة الإلهية، ألا يجعلنا هذا نطرح سؤالا آخر لماذا كان أمير المؤمنين يناقش أسرار الوجود مع أناس مخصصين؟ هل ذلك يعني وجود طائفتين من المؤمنين طائفة تحمل أسرار الشريعة وأخرى تحمل أسرار الطريقة والحقيقة .
في القرن الأول انتشر عبر أقطار الأمة الإسلامية الزهاد وكبار العابدين مثل أويس القرني والحسن البصري وسفيان الثوري، الذين بدلوا أرواحهم العاشقة في سبيله، فكانت سيرتهم المليئة بالعبر والقدوة الحسنة والزهد والابتعاد عن كل الشبهات أهم ما ميز هذا الجيل الأول من الزهاد العابدين، بعدها بدأت تتطور المدارس الفكرية والعرفانية عن طريق الاحتكاك بالمدارس الأخرى الموجودة في عصر ما قبل الإسلام فهناك الرهبانية المسيحية والديانات الهندية القديمة بأطيافها ومعتقداتها ، وهنا بدأت التحديات تهجم على العابد المسلم الزاهد ليبرز مكانته الوجودية في ظل هذه التحديات ، وخصوصا مع وجود أئمة أهل البيت عليهم السلام الحاملين لكل سر وجودي وفهم إلهي.
وهكذا نجد أن الرجال الذين تربوا في حضن الأئمة عليهم السلام كانوا عارفين تطلق عليه العامة كلمة صوفية مثل أبي يزيد البسطامي الذي أخد علومه الشرعية على يد جعفر الصادق عليه السلام والمعروف بمقولته الشهيرة والخالدة في اليوم الأول زهدت في الدنيا وفي اليوم الثاني زهدت في الآخرة وفي اليوم الثالث زهدت في ما سوى الله وفي اليوم الرابع قيل له ما تريد قلت أريد ألا أريد ، يحكى أن إمامنا الصادق عليه السلام طلب من تلميذه البسطامي يوما كتاب كان فوق رأسه فأجابه أين يا سيدي هذا الكتاب فقيل له فوق رأسك يا بسطامي، فأعاب عليه بعض الجاليس فقال لهم لم أنتبه إلى شيء قط وأنا في محضر مولاي الصادق عليه السلام. لكن الذين تربوا على يد هؤلاء العارفين الصوفية مثل أبا يزيد البسطامي كانوا متصوفين، يقلدون الصوفية، وهنا بدأت الإنحرافات الباطنية تدخل إلى مملكة باطن الإنسان، فتوسعت دائرة تلك الانحرافات على يد جماعة أخرى تتعلم من المتصوفين مستعينة بالرهبنة المسيحية والزراديتشية والمانوية ، حتى سولت لهم نفوسهم عبادة شيوخهم، فكانت هذه الطبقة الذي سماها أحد الباحثين الإسلاميين بالمستصوفين، هي أكبر تحدي يعصف بمملكة الباطن ويجعلها تعبد نفسها كما عبد فرعون نفسه ، فالعرفان الإسلامي الأصيل هو ذلك العرفان المبني على أسس قرآنية وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )، فهذا كلام الله وهذا قول رسوله ناطقا به القرآن ، وسيرة الأئمة عليهم السلام من بعده، لذا نجد الذين تربوا بعيدا عن هذه الدائرة وهم جماعة المستصوفين هم من أبدع الخرافات وزرع الضلالات عبر العصور إلي يومنا هذا.
لذا نجد شيوخ الصوفية هرعوا في تحصين علومهم فبدأوا يعلمون مريديهم ظاهر الشريعة ومحاسبة النفس عن ضياع أي ركن منها ولا يمكن للمريد الدخول في أسرار الباطن حتى يتقن واجبات الظاهر، وهذا ما وجدناه عند صوفية المغرب وخصوصا عند المتأخرين منهم مثل أبو عجيبة الحسني والشادلي قدس الله سرهما وأعلى مقامهما في القرن 19 الميلادي، حيث قاما بإصلاح ديني جهادي جعلهم يطورون أسلوب التربية الروحية وكان ذلك جليا في أتباعهم ومريدهم في كل زوايا المغرب حيث الذكر ودروس الفقه يتعانقان معا داخل حضرة الشيخ المربي.
العرفاء والإنسان الكامل.
عرفت الأمة الإسلامية عرفاء يحملون أسرار الرب المتعالي في كياناتهم، تربوا في دائرة الولاية العلوية والحقيقة المحمدية كالإمام النفري ومولانا جلال الدين الرومي والبسطامي والحلاج والسهروردي ومحي الدين بن العربي وفريد الدين العطار ونجم الدين كبرى وصدر المتألهين الشيرازي ، والسستري والفيض الكاشاني وعبد الكريم الجيلي والجنيد والشبلي وبهاء الدين العاملي وحيدر الآملي والقطب المغربي عبد السلام بن مشيش وبومدين المدعو الغوث وأبو عجيبة الحسني وعبد العزيز الدباغ والرفاعي المصري ومن المحدثين الشيخ أحمد الوائلي ومحمد باقر الصدر وموسى الصدر، والفيلسوف المجاهد العملاق مطهري مطهر الأفهام، والكثير منهم انتشروا على بقاع المعمورة من شرق بلاد المسلمين إلى غربها، أما الذي جمع هذه العلوم الباطنية وطبقها تطبيقا في نفسه وزرعها في أتباعه هو السيد روح الله الخميني الموسوي رضي الله عنه وأعلى مقامه في فناء الذات الإلهية المقدسة. وأخيرا وليس آخرا الشيخ محمد تقي بهجت وتد العبادة في هذا العصر وأحد الممهدين لظهور مولاي أبا صالح المهدي عج.
يقول عبد الكريم الجيلي في كتابة الإنسان الكامل: اعلم أنّ (الإنسان) هو نسخة الحقّ تعالی كما أخبر صلّي الله عليه و آله وسلّم حيث قال: خَلَقَ اللهُ آدَمَ علی صُورَةِ الرَّحْمَنِ . وفي حديث آخر: خَلَقَ اللَهُ آدَمَ علی صُورَتِهِ . وذلك أنّ الله تعالی حَيٌّ علیمٌ قادِرٌ مُريدٌ سَمِيعٌ بَصيرٌ مُتَكلِّمٌ، وكذلك الإنسان حيّ علیم إلخ، [إلی آخر الصفات]. ثمّ يقابل الهويّة بالهويّة، والانيّة بالانيّة، والذات بالذات، والكلّ بالكلّ، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص .
وله مقابلة أُخري يقابل الحقّ بحقائقه الذاتيّة .
واعلم أنّ الإنسان الكامل هو الذي يستحقّ الاسماء الذاتيّة والصفات الإلهيّة استحقاق الاصالة والملك بحكم المقتضي الذاتيّ، فإنّه المعبّر عن حقيقته بتلك العبارات والمشار إلی لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلاّ الإنسان الكامل . فمثاله للحقّ مثال المرآة التي لا يري الشخص صورته إلاّ فيها، وإلاّ فلا يمكنه أن يري صورة نفسه إلاّ بمرآة الاسم: الله، فهو مرآته والإنسان الكامل أيضاً مرآة الحقّ ؛ فإنّ الحقّ تعالی أوجب علی نفسه أن لا تري أسماؤه وصفاته إلاّ في الإنسان الكامل، وهذا معني قوله تعالی:
إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ علی السَّمَـاوَا تِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً. إلی أن يقول: وَلِلإنْسَانِ الْكَامِلِ تَمَكُّنٌ مِنْ مَنْعِ الْخَوَاطِرِ عَنْ نَفْسِهِ جَليلِهَا وَدَقِيقِهَا ؛ ثُمَّ إنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الاْشْيَاءِ لاَ عَنِ اتِّصَافٍ وَلاَ عَنْ آلَةٍ وَلاَعَنِ اسْمٍ وَلاَ عَنْ رَسْمٍ ؛ بَلْ كَمَا يَتَصَرَّفُ أَحَدُنَا فِي كَلاَمِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ـالخ
ويذكر ابن سيبنا في الإشارات: َإذَا عَبَرَ الرِّياضَةَ إلی النَيْلِ، صارَ سِرُّهُ مِرْآةً مَجْلُوَّةً مُحاذِياً بِهَا شَطْرَ الْحَقِّ ؛ وَدَرَّتْ علی هِ اللَّذَّاتُ الْ علی ؛ وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ لِمَا بِهَا مِنْ أَثَرِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُ نَظَرٌ إلی الْحَقِّ وَنَظَرٌ إلی نَفْسِهِ وَكَانَ بَعْدُ مُتَرَدِّدَاً .
يقول مُحي الدين بن عربي في كتابه « فصوص الحِكَم » في فَصِّ الآدميّ وهو يتحدّث عن حقيقة آدم وخلافته:
فَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ كَفَصِّ الْخَاتَمِ مِنَ الْخَاتَمِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّقْشِ وَالْعَلاَمَةِ الَّتِي بِهَا يَخْتِمُ الْمَلِكُ علی خَزَآئِنِهِ ؛ وَسَمَّاهُ خَلِيفَةً مِنْ أَجْلِ هَذَا: لاِنـَّهُ الْحَافِظُ خَلْقَهُ كَمَا يَحْفَظُ بِالْخَتْمِ الْخَزَائِنُ ؛ فَمَا دَامَ خَتْمُ الْمَلِكِ علی هَا لاَيَجْسُرُ أَحَدٌ علی فَتْحِهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ فِي حِفْظِ الْعَالَمِ ؛ فَلاَ يَزالُ الْعَالَمُ مَحْفُوظاً مَادَامَ فِيهِ هَذَا الإنسانُ الْكَامِلُ .
الإنْسَانُ الْكَامِلُ بِالْفِعْلِ حَيْثُ إنَّهُ بِوَحْدَتِهِ جامِعٌ لِكُلِّ ما فِي الْوُجُودِ مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالاشْبَاحِ وَالاْرْواحِ ؛ لَيْسَ مِنَ اللَهِ بِمُسْتَنْكَرِ أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ ؛ فَهُوَ بِحَيْثُ كَانَ الْكُلُّ مِنَ الدُّرَّةِ إلی الذَّرَّةِ مَرآئيّ ذاتِهِ كَمَا هُوَ مِرْآةُ الْحَقِّ وَمَقَامُ الْوَحْدَةِ فِي الْكَثْرَةِ.
وسوف نعلق على ما تكلمت عليه جماعة العرفاء حول الإنسان الكامل في العنوان التالي.