بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين .
قال تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )(1) .
ألم يأن للمؤمنين ـ الذين أنعم الله عليهم بالعقل والتمييز ـ أن يفكّروا في أنفسهم ، وينظروا إلى الآيات في الكون من السماوات والأرض بل وفي جميع ذرّات الكون ، وما جرى على الاُمم الغابرة والحاضرة .. ألم يكن ذلك كلّه سبباً وعاملاً لرقّة القلب وخشوعه وخضوعه لذكر الله .
الخشوع لله (عزّ وجلّ)
قال تعالى :(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(2) .
في اللغة : قال الراغب الأصفهاني : الخشوع الضراعة وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح . والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ؛ ولذلك قيل فيما روى : إذا ضرع القلب خشعت الجوارح ، قال تعالى : ( وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا )(3) وقال : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ- وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ - وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ- أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ )(4) كناية عنها وتنبيها على تزعزعها... (1) .
وعند المتشرّعة : قال الطبرسي في تفسير الآية المباركة : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) أي : خاضعون ، متواضعون ، متذلّلون ، لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم ، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً .
وروي أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : (( أما إنّه لَوخشع قلبُه ، لخشعت جوارحُه )) . وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح .
فأمّا بالقلب : فهوأن يفرغ قلبه بجمع الهمة لها ، والإعراض عما سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود .
وأما بالجوارح فهوغضّ البصر ، والإقبال عليها ، وترك الالتفات والعبث .
قال ابن عبّاس : خشع فلا يعرف مَن على يمينه ، ولا مَن على يساره .
وروي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان رفع بصره إلى السّماء في صلاته . فلمّا نزلت الآية ، طأطأ رأسه ، ورمى ببصره إلى الأرض(2) .
وقال الطباطبائي : قوله تعالى ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) الخشوع : تأثّر خاص من المقهور قبال القاهر ، بحيث ينقطع عن غيره بالتوجّه إليه ، والظاهر أنّه من صفات القلب ثمّ ينسب إلى الجوارح وغيرها بنوع من العناية كقوله (صلّى الله عليه وآله) - على ما روي - فيمن يعبث بلحيته في الصلاة : (( أما إنّه لوخشع قلبه لخشعت جوارحه )) . وقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا )(5) .
والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسّربها الخشوع في الآية ، كقول بعضهم : هوالخوف وسكون الجوارح ، وقول آخرين : غضّ البصر وخفض الجناح ، وتنكيس الرأس ، وعدم الالتفات يميناً وشمالاً وإعظام المقام وجمع الاهتمام ، والتذلّل إلى غير ذلك(3) .
الخشوع في الصلاة
وإذا كان الخشوع مطلوباً في كلّ وقت وفي كلّ شيء ، فإنّ الخشوع في الصلاة هوأهمّ كلّ شيء ولهذا قد اهتمّ رجال الإسلام بهذا الجانب ، فقد جاء في الصحيح عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) قَالَ : (( كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السّلام) إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ فَإِذَا سَجَدَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى يَرْفَضَّ عَرَقاً ))(4) .
وعَنْ جَهْمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) قَالَ (( كَانَ أَبِي (عليه السّلام) يَقُولُ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السّلام) إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ سَاقُ شَجَرَةٍ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْ ءٌ إِلَّا مَا حَرَّكَهُ الرِّيحُ مِنْهُ ))(5) .
ذكر الله (عزّ وجلّ)
قيل الذِّكر ذِكران ؛ ذِكر بالقلب وذِكر باللسان .
وكلّ واحد منهما ضربان ؛ ذِكر عن نسيان وذِكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ .
وكلّ قَول يقال له ذكر ، فمن الذِّكر باللسان قوله تعالى : ( لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ )(6)(6) .
ألم يأن للذين آمنوا أن يتعرّفوا على عظمة المولى سبحانه حتى تخشع قلوبهم لذكر الله ، ويتذكّروا ما حلّ بهم من مصائب وويلات ، وأنّه لا دافع ولا مانع عنهم إلاّ الله ولا نافع لهم إلاّ الله حتّى توجل قلوبهم لذكر الله .
صفات المؤمنين
صفات المؤمنين عديدة وبكثرة ولكن من أهمّها هووَجَل القلب عند ذكر الله .
قال تعالى في وصوف الذين استجابوا لله في ما أراده منهم وتأثّروا : اُولئك هم ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(7). وقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )(8) .
هاتان الآيتان تشكّلان أهمّ صفات المؤمنين ، فإنّ من صفات المؤمن حقّاً ، هوإنّه إذا ذكر الله عنده وسمع ذلك وَجِل قلبُه ، وإذا سمع آيات الله تُتلى عليه زادته إيماناً وتصديقاً بالله وبكُتبه ورُسله .
وكلمة ( إنّما ) وإن كانت أداة حصر فحصرت المؤمنين وقصرتهم على مَن يتَّصف بهذه الصفات وهي ؛
1- أن يوجل قلبه ، ويخضع ويلين عند ذكر الله .
2- إذا سمع آيات الله ، يزداد إيماناً على إيمانه .
3- إنّ اعتمادهم وتوكّلهم على الله .
ويمكن أن تكون هذه الصفات الثلاثة للمؤمن من أعلى الصفات له ، والآية السّابقة تكمّل تلك الصفات السّابقة .
4- الصبر على المصائب .
5- الإتمام بإقامة الصلاة مع الخشوع والخضوع .
6- الإنفاق بسخاء .
ذِكر اللهِ أكبر
قال السيّد الطباطبائي : قوله : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )(9) . وقال تعالى : ( فَاسعَوا إلى ذِكرِ اللهِ )(10) . يريد به الصلاة وقال : ( وأقِم الصَّلاةَ لِذِكرِي )(11) ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد ذكر سبحانه أولاً ذكره ، وقدّمه على الصلاة ؛ لأنّها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهيّة ، وهوالروح الحيّة في جثمان العبوديّة ، والخميرة لسعادة الدنيا والآخرة ، يدلّ على ذلك قوله تعالى لآدم أول يوم شرع فيه الدِّين : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (12) ، وقوله تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورا ) (13) ، وقوله تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )(14) ، ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ )(15) .
فالذكر في الآيات إنما هوما يقابل نسيان جانب الربوبية المستتبع لنسيان العبودية وهوالسلوك الديني الذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ )(16)(7) .
فالذكر لا يختص بالذكر اللساني واللفظي بل الآية الأخيرة تشير إلى الذكر المعنوي وهوالالتفات إلى جانب الربوبية والتوجه إلى الله (عزّ وجلّ) ، وعدم التوجّه والغفلة عن الله هونسيان لله .. نسيان لذِكره وبعد ذلك أنّ الله ينسيهم أنفسهم وهذا هوالخطر العظيم الذي يمرّ به الإنسان في هذه الدنيا .
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السّلام) : (( أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السّلام) كَانَ يَقُولُ : طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ الْعِبَادَةَ وَ الدُّعَاءَ وَ لَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاهُ ، وَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ ، وَ لَمْ يَحْزُنْ صَدْرَهُ بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ ))(8)