عربي
Tuesday 5th of November 2024
0
نفر 0

الموجود الفقير يحتاج إلى علّة

الموجود الفقير يحتاج إلى علّة

نحن حينما نقول : لا يمكن وجود موجود بدون علة ، إنما نعني ذلك الموجود الناقص الذي مصيره وبقاؤه بيد علته ، لاكل موجود ; حتى ولو كان واجداً لواقعيته من نفسه ولم يكن فيه أيّ ظاهرة من ظواهر النقص والمحدودية .

إن العلة الأولى إنما كانت علة أولى من حيث إن وجودها كامل غير محدود ، وغير متأثر بأيّ عامل من العوامل ، بل هو وجود غير مشروط وغنيّ عن كل علاقة ورابطة ، ولا أثر يه للتغيير والتحوّل .

وليس معنى كون الله علة أولى غنياً عن علة أن يكون مساوياً لسائر الموجودات من حيث الحاجة إلى العلة ، ولكنه خرج عن قانون العلية استثناء وتخصيصاً ، إذ ليس هو معلولاً كي يحتاج إلى علة وليس حادثاً حتى يحتاج إلى محدث ، بل إنّ جميع الصور والظواهر والحوادث هي من ذلك الموجد الأزلي ، إنّ قانون العلية إنما هو نافذ بالنسبة إلى الموجودات المسبوقة بالعدم .

وكذلك ليس معنى العلة الأولى أنها هي التي أوجدت نفسها بنفسها ، وأنها هي علة نفسها ، إن سبب حاجة المعلول إلى العلة إنما يتبع نوع وجوده وكيفيته، إن الموجود لا يحتاج إلى علة لوجوده بل إنما يحتاج إلى علة لكون وجوده متعلقاً ومرتبطاً بغيره، وإلاّ فإن الموجود غير المشروط وغير المرتبط

بغيره خارج عن شمول قانون العلية له .

إذن فلو كان هناك موجود غني عن العلة لكماله وغناه الذاتي ، فليست العلة هي التي جعلته في هذه المرتبة التي هو فيها ، وليس لأيّ علة أن تتدخل فيه ، إن العلة الأولى وجوده عن ذاته ، بخلاف ما وجوده إفاضة وعارية ، فإن التحول والخروج من العدم إلى الوجود هو الذي يحتاج إلى العلة .

وكيف لنا أن نتصوّر أن يكون الاعتقاد بوجود الله استسلاماً للتناقض ، بينما لا يكون تناقض في العقيدة بأن المعلول الماديّ بلا علة ؟ ! .

إننا نعيش في عالم كل شيء فيه في معرض التغيير والتحوّل والفناء ، والفناء والمقهورية مرتسمة على مظاهر جميع أجزاء هذا العالم ، إن الفقر والاستناد إلى الغير متأصل في أعماق أنفسنا وجميع موجودات الأرض والسماء ، وقد أحاط بجميع وجودنا ، إذ ليس وجودنا أزلياً ، ولم ينبع وجودنا من ذاتنا، لم نكن ثم ألبسنا لباس الوجود فوجدنا، ولا شك أن هكذا موجودات لابدّ لها لتسلك سبيلها إلى الوجود أن تتعلق بأذيال واهب الوجود .

أما الأزلي الأبدي واجب الوجود الذي وجوده من نفسه لا من غيره ولا أول ولا آخر له فلا حاجة له إلى علة .

إن معنى العلة في الفلسفة هو الذي يأتي بشيء من العدم إلى الوجود ويهب الوجود لشيء بعد العدم ، والعلل المادية لا قدرة لها على هذا ، ولا دور للمادة سوى أن تلبس صورة جديدة بعد أن تفقد صورتها الأولى ، صحيح أن الموجود الماديّ حسب التحوّل الذاتي يجد في كل لحظة هوية جديدة مختلفة عن السابقة ، إلاّ أن هذه الحركة الذاتية ( الجوهرية ) والحدوث والزوال المستمر على المادة تبين حاجتها الدائمة إلى يد محركة هي التي أثبتت سنابل الوجود وهي التي تسير بقوافل الوجود .

تتبع سلسلة العلل

لو أصرّ الماديون على إنكار الحقيقة ، ولجأوا إلى مغالطة أخرى وقالوا : نحن نختار أن لا نتوقف في سلسلة العلل ونتتبعها إلى ما لا نهاية ، وندافع عن تسلسل العلل .

للإجابة على هذه المغالطة نقول : إن تحليل وجود العالم بهذا الأسلوب ، هو الاستسلام لسلسلة العل والتقدم معها إلى ما لا نهاية ، وكل معلول فاقد للوجود بحكم كونه معلولاً ولا وجود له بلا علة موجدة وهكذا . .

إذن فكل جزء من أجزاء هذه السلسلة المحكومة بالحاجة والفقر كيف يخرج من العدم إلى الوجود ، ومن أين جاء وجو هذه الأشياء التي هي مظاهر الحدوث والعجز ؟ وكيف وجد أكبر مجموعة من الموجودات على أثر اجتماع الأعدام المتسلسلة إلى ما لا نهاية ؟ ، فهل يمكن أن تولد الحياة من اجتماع عوامل الموت المتعددة إلى ما لا نهاية ؟ .

في حين أن هذه السلسلة اللامتناهية مهما تقدمت فهي بحكم كونهامعلولات لابدّ أن تتصف دائماً بصفات الفقر والحاجة والحدوث ، وأن سلسلةً لا ينبع الاستقلال والغنى من نفسها طبيعتها لا تلبس ثوب الوجود إلاّ أن تنتهي إلى الغنى بالذات المطلق وهو الوجود الإلهي الذي هو علة ـ إن صحّ التعبير ـ

بلا أن يكون معلولاً ، وأن نظام الموجودات لا يجد التفسير الصحيح من دون الاعتراف بوجود غير مشروط هو علة العلل ـ إن صحّ التعبير ـ وهو أساس وجود لجميع الموجودات .

افترضوا جبهة عسـكرية في ساحة قتال ، مع العدوّ ، ولكن تأبى كل وحدة من الجنود أن تبدأ الحملة وكـلما يأمر الـقائد وحدة قالت : لا نبدأ ما لم تبدأ الوحدة كذا ، وهكذا الوحدة الثانية والثالثة والرابعة إلى آخر الوحدات ، كلها تكرر هذا العذر ولا نجد بينها واحدة تبدأ الحملة بدون أيّ قيد أو شرط .

فهل تتحقق الحملة هكذا ؟ كلاّ قطعاً ، إذ كل منهم قد قيد نفسه بالآخر ، وواضح أن الحملات المشروطة ، لا تتحقق بدون الشرط والشرط نفسه لا يتحقق أبداً ، فلا إقدام قطعاً .

نحن لو تتبعنا سلسلة العلل والمعلولات فهي لاشتراط كل واحدة منها بالأخرى ، كأنما يسمع هذا النداء من أعماق وجودها تقول : ما لم توجد الأخرى لا ألبس ثوب الوجود أيضاً ، فكل هذه الوحدات مشروطات لم تتحقق شروطها ، إذن فلا تتمتع أيّ واحدة منهنّ بالوجود .

ونحن حينما نرى العالم مليئاً بالموجودات فلابدّ أن يكون في العالم وجود علة غير معلولة أو شرط غير مشروط .

إن تلك العلة الأولى غنيّ بالذات عن جميع صور الموجودات قادر على أعجب الحوادث والمبتدعات ، خلاق فاطر أراد فخلق ، وهو الذي يهب الحياة لجميع أجزاء الوجود ، ويستمر بنظام الخلقة العظيم في سبيل تحقيق أهدافها .

إن أتباع المذهب المادي يحاولون أن يجدوا جواباً لحاجة العالم إلى الخالق ، بالقول بقدم العالم ، وبذلك يهبون الاستقلال للعالم ، بينما هم لا يجدون نتيجة مرضية بهذه المحاولة وهذا الأسلوب ، هؤلاء يتصورون أن

العالم إنما يحتاج إلى الخالق في بدء الخلقة ، وإذا قضيت هذه الحاجة فلا حاجة إلى الخالق بعد ذلك ويقف الله والعالم مستقلان أحدهما عن الآخر بلا حاجة بينهما ، ولذلك فهم قطعوا أنظارهم عن حاجة اللحظة الأولى للعالم إلى الخالق ، ويظنون أنهم بإنكاره بدء الخلقة يحلون مسألة الخلقة والخالق ، وينحلون الغنى للعالم عن الله الخالق .

كلاّ ، بل إن كل لحظة هي بدء خلقة ، وكل ذرة من العالم في كل آن حادثة ، وإذا كانت الأجزاء في الحدوث في كل لحظة فالمجموع أيضاً حادث ، ولا صفة للمجموع مستقلة عن صفة الأجزاء .

إذن فنفس الحاجة التي كانت للعالم لحظة بدء الخلقة موجودة ومستمرة ودائمة حتى الآن وكل زمان ، ولا يمكن أن يستقل العالم عن الخالق بافتراض قدم العالم .

العلم يرد على أزلية العالم

كما أن الإنسان يفتقد قواه على مرّ الزمان وسينطفئ مصباح عمره يوماً ، كذلك العالم يسير نحو التحليل والفناء شيئاً فشيئاً .

لهذا لا يمكننا أن تحسب المادة جوهراً أزلياً بل لابدّ من الإذعان بضرورة مخلوقية العالم ، بدليل أن الطاقات الموجودة في العالم تسير نحو الوحدة النوعية ، فالذرات تتبدل إلى طاقات ، والطاقات الفعالة إلى طاقات ساكنة غير فعالة ، وحينما تتبدل الطاقات إلى طاقات متساوية واحدة في النوع لا يبقى لها إلاّ أن تبيت في سكون وسكوت مطلق .

إن الأصل الثاني من أصول ( ترموديناميك ) والذي يعبر عنه باصطلاح ( انتروبي الاستنزاف والبلى ) يعلمنا أننا وإن لم نتمكن من تعيين تأريخ ظهور هذا العالم إلاّ أن من المقطوع به أنه لابدّ له من بداية ، إذ أن الحرارة في العالم في حالة تقلل وتضاؤل ، والعالم في فقدانه للحرارة كقطعة حديدية متوقدة لا تزال تفقد حرارتها تدريجياً في الفضاء حتى يصل اليوم الذي تتساوى فيه حرارة الحديد والفضاء والهواء والأجسام الأخرى المجاورة .

فلو لم يكن للعالم نقطة بداية لكانت الذرات الموجودة جميعاً قد تبدلت منذ سنين ممتدة في الأزل إلى طاقات ولكانت حرارة العالم قد انتهت منذالقديم جداً، إذ أن المادة تتلاشى وتتبدّل إلى طاقات غير مرئية تالفة على

طول التحولات المستمرة والمتسلسلة ، بحيث لا يمكن بعد ذلك أن ترجع هذه الطاقات التالفة فتتبدّل مرة أخرى ، إلى مواد وأجرام متناسبة منسجمة مع عالم الوجود هذا .

إن الأصل المذكور يقول : إن الطاقات إذا أفادت عملها فلا ترجع إلى تفاعلاتها الكيمياوية مؤثرة أو متأثرة ، ومع العلم باستدامة التفاعلات الكيمياوية واستمرار الحياة على ظهر هذه الكرة الأرضية ، واستمرار إشعاع الشمس الذي يصل في اليوم إلى ثلاثمئة ألف مليون من الأطنان من الأسعار الحرارية ، بهذا كله يتضح حدوث العالم ويتبين .

إن موت السيارات والنجوم وانعدام الكواكب والنجوم والشموس ، كلّ ذلك دليل على ثبوت الحدوث والتحولات والولادة والموت للنظام الموجود ، ودليل على أن العالم يسير نحو الفناء والنهاية المحتومة .

وهكذا نرى أن العلوم الطبيعية تخرج المادة من خندق القدم ، وتثبت حدوث العالم ، بل وتشهد بحدوث العالم في بداية معينة ; ولابدّ للعالم في بداية ولادته من قدرة خارقة مما وراء الطبيعة ، إذ في البداية حيث كان كل شيء بلا تفاوت فلابدّ من إشعاع الحياة على العالم من خارجه ، وإلاّ فكيف يمكن لمحيط فاقد لكل طاقة فعالة والذي يسوده السكوت والسكون المطلق ، أن يصبح منشأ النشاط والحركة ؟

يقول البروفسور ( روايه ) :

« لو كانت خلقة الكائنات نابغة من انفجار مهيب أولي ـ كما يدعي العلم البشري اليوم ـ فلابدّ من القول بوجود وقود الانفجار وفضاء مطلق تحققت فيه مثل هذه الحادثة العجيبة ، وبعبارة أخرى يجب أن نفترض وجود المادة الأولى لجميع الظواهر في العالم من الطاقات والأنوار ومليارات الكواكب والسيارات والمجرات ، وهذه حقيقة غير قابلة للإنكار من الناحية العلمية والفكرية والروحية والمحاسبات الرياضية .

ولكن كيف قد أودع مصير هذه الظواهر المتناثرة في الفضاء على أثر ذلك الانفجار ، في دخيلة الجرم المعين ؟ ومن أين أتى ذلك الجرم وكيف تراكم بعضه على بعض ؟ فالذين يدعون المعرفة الكاملة بالعالم بعتقدون : بعدم ثبات أيّ شيء في العالم ، وأن كل شيء هو في حالة تغيير وتحول وصيرورة وخلقة ، وأن لا معنى للمادة بدون الروح ، وأن كل حركة حياتية في الأرض ـ مهما كانت صغيرة ـ فهي مقدرة تقديراً دقيقاً وظريفاً بحكمة مقتدرة عالية بحيث لا يمكن أن تحسب من باب الصدف قطعاً .

ولا يمكن تفسير هذه التقديرات الدقيقة تفسيراً معقولاً إلاّ كما يقول ( آنشتاين ) : بالقول بوجود الإله العظيم ، فقط »(1) .

والميكانيك يقول لنا : إن الجسم الساكن ساكن دائماً ، وإذا أراد أن يتحرك فلابدّ أن يكون متأثراً بقوة خارجة عن نفس ذلك الجسم ، وهذا قانون معتبر أصيل في عالمنا المادي ، ولذلك فنحن لا يمكننا أن نعتقد باحتمال الصدفة ، إذ لم يكن أبداً أن يتحرك أيّ جسم ساكن من دون تأثير قوة خارجة عنه ، فعلى أساس هذا الأصل الميكانيكي يجب أن تكون هناك قوة غير عالم المادة أوجدت المادة ومنحتها القوة والحركة ، فتشكلت وتنوعت وتفاوتت صورها .

ولأستاذ الفيزياء الاجتماعية ( فرانك آلن ) الشخصية العلمية البارزة استدلال جميل على وجود الله سبحانه حيث يقول : « حاول كثير أن يتظاهروا بعدم حاجة العالم المادي إلى خالق . والذي لا نشك فيه هو وجود هذا العالم وبإمكاننا أن نتصور لمنشأ هذا العالم أربعة فروض وحلول .

الأول : أن لا نحسب العالم ـ على الرغم مما سبق ـ إلاّ طبقاً من الأحلام أو الخيال .

والثاني : أن يكون العالم وجد بنفسه من العدم بلا خالق .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ألفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 15 ( بالفارسية ) .

 

والثالث : أن لا يكون للعالم بداية وأن يكون أزلياً .

والرابع : أن يكون مخلوقاً حادثاً مبتدعاً .

أما الفرض الأول فهو يستلزم افتراض عدم وجود أيّ مسألة للحل إلاّ مسألة ميتافيزيقية هي الضمير ووعي الإنسان ، والتي هي أيضاً على هذا الافتراض مسألة خيالية ووهمية .

وعلى هذا الفرض يمكننا أن نفترض القطارات الخيالية مليئة بمسافرين وهميين تعبر فوق جسور غير مادية مبنية من مفاهيم ذهنية على أنهر ووديان غير واقعية ! .

وأما الفرض الثاني يعني أن تكون المادة والطاقة منبعثة من العدم فهو أيضاً كالفرض الأول محال لا معنى له بحيث لا يستحق الملاحظة والعناية .

وأما الفرض الثالث يعني أن يكون العالم موجوداً من الأزل فهو يشترك مع افتراض الخلقة في نقطة هي : أن تكون المادة الميتة والطاقة المنبعثة منها أو الخالق موجودين من الأزل .

ولا يرى في أيّ واحد من هذين التصورين إشكال أكثر من نفسه في التصور الآخر ، إلا أن قانون ( الترموديناميك ) أثبت أن العالم لا يزال سائراً نحو حالة تصل فيها جميع الأجسام إلى درجة حرارية متشابهة ، ولا تبقى حينئذ طاقة تصرف ، وحينئذ تمتنع الحياة على هذه الكرة .

ولو لم يكن للعالم بداية وكان موجوداً من الأزل للزم أن يكون هذا الموت حادثاً قبل هذا ، في حين أن الشمس الساطعة والنجوم المضيئة والأرض النابضة بالحياة خير شهود على أن للعالم بداية زمنية حادثة بعد العدم ، وأن بداية ظهوره ، كانت لحظة خاصة من الزمان ، وعلى هذا فلا يمكن إلاّ أن يكون مخلوقاً ، ولابدّ أن تكون هناك علة كبرى أولى أو خالق أبديّ عالم قادر أوجد هذا العالم »(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 اثبات وجود الخالق : ص 17 ( بالفارسية ) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المُناظرة الثالثة والاربعون /مناظرة الطالب مع ...
المنهج الصحيح لمعرفة آراء الفرق والمذاهب ...
الموجود الفقير يحتاج إلى علّة
غياب الحياء مجاهرةٌ بمعصية الله
أمير المؤمنين ومن تقدم عليه: أبو بكر وعمر وعثمان
ضرورة العدالة في القرآن والسنة
هل يجوز الأخذ بأخبار الآحاد في العقيدة
إشكالية قدم العالم وحدوثه بين ابن رشد وكانط
الآيات النافية لاِمكان الرؤية
تجسم الأعمال

 
user comment