* د. عادل صادق
يشكو الرجل من أن زوجته نكدية، وأن بيته قطعة من الجحيم، يعود إلى بيته فتداهمه الكآبة، إذ يطالعه وجه زوجته الغاضب الحاد النافر المتجاهل الصامت. بيت خال من الضحك والسرور ويغيب عنه التفاؤل مثلما تغيب الشمس عن بيته فتلتهمه الأمراض. يقول في بيتي مرض اسمه النكد. ويرجع السبب كله إلى زوجته ويدعى أنه لا يفهم لماذا هي نكدية ولماذا تختفي الابتسامة من وجهها معظم الوقت ويحل محلها الغضب والوعيد؟
ولماذا هي لا تتكلم؟! لماذا لا ترد؟! والحقيقة أن هذا الزواج لا يعرف أن زوجته بصمتها الغاضب إنما هي تدعوه للكلام. إنها تصدر إليه رسالة. في الحقيقة إنها رسالة سلبية ولكن هذه هي طريقتها لأنهما لم يتعودا معا ـ الزوج والزوجة ـ على طريقة أكثر إيجابية في التفاهم. ويقلق الزوج، يكتئب هو أيضاً، ثم يغلي في داخله، ثم ينفجر، وتشتعل النيران. بذلك تكون الزوجة قد نجحت، أي استفزته إلى حد الخروج عن توازنه، لأنها ضغطت على أهم شيء يوجع رجولته وهو التجاهل. أي عدم الاعتراف بوجوده، أي اللامبالاة ولكن هذه ليست حقيقة مشاعرها، فهي تغلي أيضاً لأنها غاضبة، غاضبة من شيء ما، ولكنها لا تستطيع أن تتكلم. فهذا هو طبعها. وبما يمنعها كبرياؤها، فهذا الزوج يخطئ في حقها، وهو لا يدري أنه يخطئ وأن أخطاءه ربما تكون غير إنسانية. ربما هو يتجاهلها عاطفياً، ربما هو يتجاهلها فراشياً .. ربما بخله يزداد. ربما بقاؤه خارج البيت يزداد بدون داع حقيقي. ربما أصبح سلوكه مريباً .. ربما و ربما .. وربما. وهناك عشرات الاحتمالات، ولكنه هو لا يدري، أو هو غافل، أو هو يعرف ويتجاهل. وهو لا يدري أنها تتألم، أي أنه فقد حساسيته، ولكنها لا تتكلم.
لا تفصح عن مشاعرها الغاضبة، وربما لأنها أمور حساسة ودقيقة. ربما لأن ذلك يوجع كرامتها. ربما لأنهما لم يعتادا أن يتكلما. ولهذا فهي لا تملك إلا هذه الوسيلة السلبية للتعبير. وهي في الوقت نفسه وسيلة للعقاب والتجاهل. وإذا بادل الزوج زوجته صمتا بصمت وتجاهلا بتجاهل فإن ذلك يزيد من حدة غضبها وربما تصل هي إلى مرحلة الثورة والانفجار فتنتهز فرصة أي موقف ـ وإن كان بعيداً من القضية الأساسية ـ لتثير زوبعة لقد استمر في الضغط عليها حتى دفعها للانفجار.
ضغط عليها بصمته وتجاهله رداً على صمتها وتجاهلها وتلك أسوأ النهايات أو أسوأ السيناريوهات فهي ـ أي الزوجة ـ تصمت وتتجاهل لتثير وتحرق أعصابه وتهز كيانه وتزلزل إحساسه بذاته ليسقط ثائراً هائجاً وربما محطماً. وهنا تهدأ الزوجة داخلياً ويسعدها سقوطه الثائر حتى وإن ازدادت الأمور اشتعالاً وشجاراً، تتطاير فيه الأطباق وترتفع فيه الأصوات. وهذا هو شأن التخزين الانفعالي للغضب. وتتراكم تدريجياً مشاعر الغضب حتى يفيض الكيل وتتشقق الأرض قاذفة بالحمم واللهب فتعم الحرائق.
قد يستمر هذا الأسلوب في التعامل والتفاعل سنوات وسنوات، وهذا يؤدي إلى تآكل الأحاسيس الطيبة، ويقلل من رصيد الذكريات الزوجية الحلوة، ويزيد من الرصيد السلبي المر. ويعتادان على حياة خالية من التفاهم وخالية من السرور ويصبح البيت فعلاً قطعة من جحيم. فتنطوي الزوجة على نفسها واهتماماتها الخاصة، ويهرب الزوج من البيت، وتتسع هوة كان من الممكن ألا توجد لو كان هناك أسلوب إيجابي للتفاهم.
وتشخيصاً للموقف نستطيع أن نقول:
ـ إننا أمام زوج لا يعرف ما يضير ويضايق ويؤلم زوجته.
ـ وهذا الزوج يتمادى في غيه مع الوقت.
ـ وهو أيضاً قد فقد حساسيته تجاه زوجته.
ـ وإننا أمام زوجة تكتم انفعالاتها وتخزن أشجانها، وتحترق بالغضب.
ـ وهذه الزوجة تلجأ إلى أسلوب سلبي في الرد على زوجها، وذلك بإشاعة جو النكد في البيت لتحرم الزوج من نعمة الهدوء والاستقرار والسلام ونعمة الإحساس بذاته.
ـ وتظل الزوجة تستفز زوجها بهذا الأسلوب حتى يثور.
ـ ولكنهما لا يتعلمان أبداً، بل يستمران في نفس أسلوب الحياة الذي يهدد بعد ذلك سنوات أمن واستقرار البيت.
واستمرار حالة الاستفزاز معناه تراجع المودة والرحمة، وهناك ألف وسيلة تستطيع الزوجة عن طريقها استفزاز زوجها. وكذلك هناك أكثر من ألف طريقة يستطيع بها الزوج استفزاز زوجته، أهمها كما قلنا الصمت والتجاهل والوجه الغاضب والكلمات اللاذعة الساخرة والناقدة والجارحة أو يتعمد أي منهما سلوكاً يعرف أنه يضايق الطرف الآخر. أو قد يلجأ كل منهما إلى أسوأ أنواع الاستفزاز وهي إثارة الغيرة والشك.
والعناد هو شكل من أشكال الاستفزاز:
واستمرار الزوجين في العناد معناه عدم النضج أو معناه أن أحدهما يعاني ألماً نفسياً حقيقياً وأن الطرف الآخر يتجاهل عن عمد أو عن غير عمد هذا الألم.
وهذا معناه أننا أمام مشكلة زواجية تحتاج إلى رعاية .. فكلاهما يعاني، وكلاهما غاضب، وكلاهما خائف، وكل منهما يتهم الآخر ويحمله النصيب الأكبر من المسؤولية ويرى نفسه ضحية، أي لا يوجد استبصار، ولا توجد أيضاً بصيرة.
الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الزوجان أن يجعلا المشاكل تتراكم بدون مواجهة، بدون توضيح، بدون حوار بصوت عال هادئ، بدون أن يواجه كل منهما الآخر بأخطائه أولاً بأول، بدون أن يعبر كل منهما عن قلقه ومخاوفه وتوقعاته وآلامه وهمومه .. يجب أن يرفع كل منهما شكواه إلى الآخر بكلمات واضحة وصوت مسموع ونبرة ودودة، ويجب الاستمرار والمثابرة والإلحاح في عرض الشكوى حتى تصل إلى ضمير الطرف الآخر. قد يكون تجاهل الزوج لمتاعب الزوجة ليس عن قصد أو سوء نية أو خبث، ولكن لأنه لا يعرف، لا يعلم، لأنها لم تتحدث إليه، لأنها لم تعبر بشكل مباشر. ربما لأنها تعتقد أنه يجب أن يراعى مشاعرها دون أن تحتاج هي أن تشير له إلى ذلك. ربما تود هي أن يكون هو حساساً بالدرجة الكافية ربما تتمنى هي أن يترفع هو عن أفعال وسلوكيات تضايقها وتحرجها. وهذا جميل وحقيقي، جميل أن يكون لديها هذه التصورات وهذه الأمنيات المثالية. ولكن الأمر يحتاج أيضاً إلى نبيه رقيق .. إشارة مهذبة .. تلميح راق، كلمات تشع ذوقاً وحياء دون مباشرة. ولا مانع وخاصة في الأمور الهامة والحساسة والدقيقة من المواجهة المباشرة والحوار الموضوعي. فهذا حق كل منهما على الآخر، وهذا هو واجب كل منهما تجاه الآخر، وهذا هو أصل المعنى في المودة والرحمة لأن الزوجين اللذين وصلا إلى هذه المرحلة من الاستفزاز المتبادل يكون قد غاب عنهما تماماً المعنى الحقيقي للمودة والرحمة.
والحقيقة أن أي إنسان مقدم على الزواج ـ رجلاً أو امرأة ـ يجب أني كون متفهماً بعمق وبقلبه وعقله وروحه المعاني الحقيقية لأعظم كلمتين: المودة والرحمة.