هذه مقتطفات من رؤيا القديس يوحّنا التي تحكي لنا ملحمةً إلهية بشكل رمزي كنائي، يدور فيها صراع بين المرأة المتسربلة بالشمس والمكللة بإكليل من اثني عشر كوكباً ونسلها ضد التنين، الذي هو رمز الطغيان والشر.
فسّر علماء الكنيسة المرأة التي تتسربل بالشمس بأنها مريم (عليها السلام) وأن الكواكب الاثني عشر التي فوق رأسها هم الحوارين أصحاب عيسى (عليه السلام) وأن ابنها الذي يرى الأمم بعصاه ـ وهو ما يرمز هنا إلى المخلّص الموعود ـ فسّروه بأنه المسيح عيسى بن مريم.
التفسير ظاهر البطلان، بصريح نصوص الأناجيل الأربعة التي يدينون بها. فمريم لم يكن لها نسل كثير ـ كما ينص الإنجيل ـ سوى ابنها عيسى (عليه السلام) وكذلك عيسى لم يكن له نسل قام بالجهاد في سبيل الله ومقاومة الطغاة والمستبدين بل ليس له ابن أصلاً.
كما أن عيسى (عليه السلام) نفسه لم يأمر أصحابه بالجهاد ضد المفسدين من رؤساء الكهنة والحكام وغيرهم بل جاءت دعوته سليمةً، لأنه لم يجد الأعوان على ذلك. والذي يفهم من الأناجيل أيضاً أن مريم (عليها السلام) لم يكن لها أي دور في تبليغ رسالة السماء مع ابنها، حيث كان دورها هامشياً لا يتعدى كونها أم المسيح.
فالمرأة العتيدة في هذه الرؤيا، بالتأكيد هي ليست مريم بل هي امرأة أخرى لها نسل كثير يقارعون الظلمة والطواغيت، ولها ابن يخشاه هؤلاء الطغاة فيحاولون قتله (فيخطفه الله إلى عرشه).
وهذه المرأة العظيمة هي فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي كان لها دور عظيم في إرساء قواعد الإسلام الحنيف، وكذلك نسلها الذي قدم الكثير من الأموال والأنفس فداءً للإسلام، أولهم ابنها الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار الذين قتلوا ظلماً عند نهر الفرات وهو مَن تشير إليه عبارة الإنجيل: (ذبيحة الرب في الشمال عند نهر الفرات).
وقد جاء في سنن ابن ماجة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريداً حتى ياتي قوم من المشرق معهم رايات سود فيسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون فيُعطون ما سألوا، فلا يقبلون حتى يدفعوها إلى رجلٍ من أهل بيتي فيملؤها قسطاً كما مُلئت جوراً)(9).
أما تفسيرهم (الكواكب الاثني عشر) بأنهم حواري عيسى (عليهم السلام) فهو أوهى من سابقه، وبشهادة أناجيلهم التي بين أيديهم. فما جاء في الأناجيل يصرح بأن بعض هؤلاء الحواريين قد أنكر المسيح في ساعة المحنة، وأن بعضهم كان يشك في صدق حديثه، مما حدا به إلى أن يصرخ بهم متهماً إياهم بقّلة الإيمان؟!.
ومنهم من تآمر مع رؤساء كهنة اليهود ليسلمه إليهم لقاء حفنة من الدراهم. فهذا هو حال الحواريين الذين وصفته لنا أناجيلهم، فكيف يكونون ـ وهم بهذا الحال ـ كواكب تهتدي بها البشرية؟!.
إن الكواكب التي تهتدي بنورها البشرية أئمة الهدى خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته وأمناؤه على رسالته، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم الحجة بن الحسن (عليهم السلام أجمعين) الذي يرعى الأمم بعصاً من حديد، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. وهو الذي يغيب شخصه عن الأبصار لأنه (اختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه) كي لا يهتدي إليه طغاة بني العباس فيقتلوه.
فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)..
قلت يا رسول الله! عرفنا الله ورسوله، فمن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هم خلفائي ياجابر وأئمة المسلمين من بعدي، أولهم علي بن أبي طالب ، ثم الحسين، ثم الحسن، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالتوراة بالباقر وستدركه ياجابر فإذا لقيته فإقرأه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي وكني حجّة الله في أرضه وبقيته في عباده أبن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله (تعالى ذكره) على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبةً لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان(10).
أما القمر الذي هو تحت رجلي المرأة العتيدة، فهو يرمز إلى صالحي شيعة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم كالقمر الذي يستمد نوره من الشمس. فهم يستمدون نور هدايتهم من نور الرسالة والولاية. وكون القمر تحت رجلي المرأة، فهذا كناية عن كون الشيعة هم المرتكز الأساس لتبليغ مهام الرسالة والولاية والدفاع عنها وعن حقوق أصحابها الذين هم أهل البيت (عليهم السلام): فهم كالأرض التي يثبت الإنسان عليها دعائمه ومرتكزاته.
وهناك نصوص أخرى عن المخلّص الموعود موجودة في أناجيل وأسفار النصارى أعرضنا عن إيرادها مخافة التطويل.
جاء دين الإسلام ليؤيد ما جاء في الأديان السماوية السابقة، من وجود المخلّص الذي بُشر به، وسُمي المخلص عند المسلمين بالمهدي. واعتبر الدين الإسلامي أن الإيمان به هو أصل من أصول الدين، لا يجوز لأي فرد ينتسب إلى الإسلام إنكاره.
فلذا نرى أن النصوص التي تحدثت عن شخصية المهدي كثيرة جداً، وقد أحاطت بجميع خصوصيات هذه الشخصية التي ستكون من أمة الإسلام. ولكثرة هذه النصوص يمكن تقسيمها إلى نوعين من حيث دلالاتها.
(النوع الأول): من النصوص جاءت بخصوص عقيدة المهدي، كالأحاديث التي تُحدد نسبه ، والأحاديث التي تبين أوصافه وأحوال ولادته وغيبته. ومن هذه الأحاديث: ما أخرجه أبو داوود وابن ماجة والطبراني عن أم سلمة قالت: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)(11).
وما رواه الصدوق في (إكمال الدين) بأسناده عن عبد الرحمن بن سليط، قال: قال الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام): منّا اثنا عشر مهدياً، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم التاسع من ولدي وهو الإمام القائم بالحق، يحيي الله به الأرض بعد موتها، ويظهر دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون، له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيُؤذون ويقال لهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)(12).
ومن الأحاديث التي ذكرت ملامح المهدي (عليه السلام) ما روي عن الإمام الباقر بسنده عن آبائه (عليهم السلام) عن سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنه قال وهو على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان، أبيض اللون، مشربٌ بالحمرة، مندح البطن، عريض الفخذين، عظيم شاش المنكبين، شامة على لون جلده، وشامته على شبه شامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(13).
أما (النوع الثاني) من النصوص، فهي تلك التي تتحدث عن خروج الإمام المهدي (عليه السلام) من بين الركن والمقام ليبدأ عملية التغيير.
منها ما روي عن أبي حمزة الثمالي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: خروج السفياني من المحتوم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم، وأشياء كان يقولها من المحتوم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): واختلاف بني فلان من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم)(14).
وأخرج نعيم بن حماد عن علي بن أبي طالب قال: (يخرج رجل قبل المهدي من أهل بيته بالمشرق، يحمل السيف على عاتقه ثمانية عشر شهراً، يقتل ويمثل ويتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه حتى يموت)(15).
وأخرج الدارقطني في سننه عن محمد بن علي قال: (لمهدينا آيتان لم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض، يخسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض)(16).
وهناك نصوص أخرى تتضمن كلا النوعين وهي كثيرة أيضاً، ويمكن استخراجها من مصادر كلا الفريقين الشيعة والسنة.
إن عقيدة المخلص الموعود هي من الحقائق التي أثبتتها الديانات السماوية الثلاث بنصوص واضحة المعالم كالتي أوردنا قسماً منها فيما تقدم. ولاحظنا في هذه النصوص كيف أنها ربطت بين المخلص الموعود والنبي الخاتم للأديان، مما يدل على وحدة العقيدة والنسب بين كلا الشخصيتين.
إن علماء اليهود والنصارى الذين وضعوا كتبهم وأسفارهم قديماً يدركون يقيناً أن هذا المخلّص الموعود ابن النبي الخاتم وهو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قال الله (عز وجل) في كتابه العزيز: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).
فاليهود تمنوا أن يكون هذا المخلص يهودياً من نسل داوود، لذلك حاولوا تأويل بعض النصوص وإخفاء البعض الآخر وتحريفه حسداً من عند أنفسهم، لأنهم عرفوا أن هذا المخلّص هو من نسل إسماعيل ابن إبراهيم الخليل (عليهما السلام). ووضعوا في أسفارهم علامات خروج هذا المخلّص بشكل لا يمت إلى الواقع بصلة، بل هي مجموعة من الأمنيات بالثراء وإذلال الآخرين.
أما علماء النصارى فقد قالوا إن المسيح الذي جاء ذكره في أسفار العهد القديم هو عيسى بن مريم، وهو المخلص الموعود. لكنهم توقفوا عند تفسير النصوص التي تدل على وحدة الكيان بين المخلص الموعود والنبي الخاتم.
إن عدم الإيمان بقدسية النصوص عند اليهود والنصارى هو الذي دفعهم إلى التحريف والتأويل وتضييع الحقائق إرضاءً لأهوائهم وشهواتهم، لذلك نرى أن فكرة المخلّص الموعود تتناقض دلالاتها في كلا الديانتين اليهودية والنصرانية.
فاليهود لم يحددوا هوية هذه الشخصية ، ولكن وضعوا علامات لخروجه. أما النصارى فقد عيّنوا الشخصية ولم يحددوا علامات خروجه. والذي جاء في الدين الإسلامي، يضع حداً لهذه الإشكاليات والتناقضات التي وقع بها اليهود والنصارى.
فقد حدد الدين الإسلامي هوية هذا المخلّص بدقة وسمّاه بالمهدي وصرّح بأنه من نسل رسول الله خاتم النبين، ودينهُ خاتم الأديان. ثم ذكرت الروايات علامات خروجه بتفاصيل دقيقةً، مما يثبت بشكل قطعي إن هذا المخلّص الموعود هو ابن النبي الخاتم.
وألفتنا النظر في بداية مقالتنا إلى أن البشارة بالموعود المخلّص لا تقتصر على الأديان السماوية الثلاث، بل جاءت هذه البشارة عبر الأنبياء والرسل الذين سبقوا هذه الأديان، وأولهم نبي الله آدم أبو البشر.
فدين الله واحد، وخط الأنبياء والرسل واحد، وهو الدعوة إلى الله تعالى. وهذه الأديان السماوية الثلاث تعتبر الامتداد الطبيعي لخط هؤلاء الأنبياء العظام (عليهم السلام) لذلك نرى أن كل البشرية ورثت هذه البشرى من مختلف الأديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية.
وأخيراً لا بد من القول إن المخلّص الموعود هو أمل البشرية في تحريرهم من شرور أعمالهم، وإن الله (سبحانه) وعدهم في كتبه التي أنزلها على أنبيائه بإرسال المصلح المنقذ لخلاصهم في آخر الزمان بعد أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً، فيملؤها قسطاً وعدلاً. إن الله لا يخلف الميعاد.
ــــــــــــــــــ
1ـ كتاب بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار ، ص55 .
2- صحيح مسلم ج6/ 4 الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
3- كتاب بشائر الأسفار، ص 130 .
4 ـ البرهان في علامات مهدي آخر الزمان ص91 .
5 ـ بشائر الأسفار ص239 .
6 ـ المحجّة في ما نزل في القائم الحجّة ص127، عن كتاب كامل الزيارات ص63 .
7 ـ بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار ص141 .
8 ـ بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار، ص219 .
9 ـ بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار ص230 .
10 ـ كتاب الإمام المهدي ص66، عن الدمعة الساكبة 3/ 238.
11 ـ البرهان في علامات مهدي آخر الزمان ص89 .
12 ـ الإمام المهدي من المهد إلى الظهور ص79.
13 ـ حياة الإمام المهدي ص 32 .
14 ـ كتاب الغيبة للطوسي ص 435 .
15 ـ البرهان في علامات مهدي آخر الزمان ص103 .
16 ـ المصدر السابق ص 107 .