تفويضهم من قبل الله تعالى :
السؤال : يذكر إمامكم ـ محمّد بن يعقوب الكلينيّ ـ في كتابه " أُصول الكافي / باب : أنّ الأرض كلّها للإمام " ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : " إنّ الدنيا والآخرة للإمام ، يضعها حيث يشاء ، ويدفعها إلى من يشاء ، جائز له من الله " .
فماذا يستنبط المسلم المنصف من هذه العبارة ، مع أنّ الله تعالى يقول في محكم آياته : { للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (1) ، ويقول : { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى } (2) .
ويذكر نفس الإمام الشيعيّ الكلينيّ تحت باب : أنّ الأئمّة يعلمون علم ما كان ، وما يكون ، وأنّه لا يخفى عليهم شيء ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : " إنّي لأعلم ما في السماوات ، وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة ، وما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون " ، مع أنّ الله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } (3) ، ويقول : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } (4) .
أرجو أن لا يكون الردّ بحذف الموضوع ، وشكراً .
الجواب : أمّا قولك : إنّ إمامكم محمّد بن يعقوب الكليني فغير واضح ، إذ لم نعهد عندنا غير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) المعروفين لديك ، وهم اثنا عشر إماماً ، ولعلّك لم تطّلع على أُصول الإمامية التي تعتقد باثني عشر إماماً وخليفة ، فاطلاعك أكثر سوف يغنيك عن أيّ إشكالٍ آخر إن شاء الله .
واعلم : أنّ ما ذكرت من رواية في الكافي فهي ضعيفة السند بعلي بن أبي حمزة البطائنيّ ، فالشيعة متّفقة على عدم الأخذ برواياته ، وتضعيفه عندهم مشهور ، ولك أن تراجع كتبهم الرجالية في ذلك .
ولو أخذنا بالرواية ، فلا تعدو أن تكون الرواية مبيّنة لرتبة الإمام ومنزلته ، فكون الإمام خليفة الله في أرضه فله الولاية من قبل الله تعالى على أرضه ،
____________
1- المائدة : 120 .
2- النجم : 25 .
3- النمل : 65 .
4- الأنعام : 59 .
|
الصفحة 391 |
|
ولا ضير في ذلك .
فإنّ الخليفة لو ولّى شخصاً عنه في ما فوّض له الولاية في ذلك ، فلا يعني أنّ الخليفة قد انقبضت يده عن سلطانه ، فولاية الوالي غير مطلقة ، وهو غير خارجٍ عن طاعة الخليفة وسلطانه ، وهكذا الإمام ، فإنّ له الولاية بما هو إمام ، وخليفة الله في أرضه ، ولا يتنافى مع سلطان الله وملكه { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى } ، وولاية الإمام والخليفة متفرّعة من ولاية الله تعالى ، فولاية الله هي الأصل ، وولاية النبيّ أو الخليفة بالتبع .
ثمّ ما تقول في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ... } (1) .
فعن ابن عباس : المراد من الأنفال ما شذّ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال ـ من دابةٍ أو عبد أو متاع ـ فهو إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يضعه حيث يشاء ، راجع تفسير الفخر الرازي في تفسير الآية .
أي إنّ الله تعالى قد فوّض له أمر الأنفال يضعها حيث شاء ، وبما تقتضيه حكمته (صلى الله عليه وآله)، فهل ترى في ذلك سلب لملكِ الله تعالى ، أو تعطيل لسلطانه ؟
وهكذا قول الإمام (عليه السلام) : " إنّ الدنيا والآخرة للإمام " لا تعني سلب إرادة الله تعالى ، بل هو تفويض الإمام بما تقتضي حكمة الإمام وولايته .
ثمّ إنّك تتساءل عن قول الإمام : " إنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ... " ، فما الضير في ذلك ، إذا قلنا : إنّ الله تعالى يحبي من يشاء بلطفه ، ولا يخفى عليك قوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } (2) ، فهل يمكنك أن تفسّر لي هذه الآية بأنّها تنافي علم الله تعالى وقدرته ؟ بل إنّ العبد إذا أخلص طاعته لله تعالى وتمحّض في عبوديته له حباه الله ببديع لطائفه ، وأعظم ما يحبيه علمه ، فهل ترى أعظم طاعة لله من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وهم ورثة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعترته ؟
ثمّ بلحاظ كونه خليفة ، فإنّ مقتضى الخلافة أن يطلع الله خليفته على كافّة شؤون الخلافة ، أما ترى قوله تعالى في خليفته آدم إذ قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ
____________
1- الأنفال : 1 .
2- الجنّ : 26 ـ 27 .
|
الصفحة 392 |
|
الأَسْمَاء كُلَّهَا } (1) ، إشارة إلى خصوصية آدم بلحاظ خلافته وولايته .
وهكذا هو الإمام كونه خليفة الله تعالى فإنّ مقتضى خلافته أن يعلمه ما يحتاجه العباد ، وما تقتضيه شؤون خلافته وولايته .
( حامد . السعودية . ... )
حبّهم شيء وإعطاء حقّهم شيء آخر :
السؤال : شكراً على هذا الجهد الطيّب ، لو تكرّمتم ، هل بإمكانكم أن تردّوا على هذا الكلام ، أرجو الشرح :
وصف الشيعة الإمامية بأنّهم ينتمون إلى مدرسة أهل البيت ، إنّ حبّ أهل البيت وتعظيمهم محلّ اتفاق بين طوائف المسلمين ، وكتب أهل السنّة مليئة بالأحاديث التي تثني على علي وآله ، ومنها ما رواه مسلم عن علي (عليه السلام) قال : " والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، إنّه لعهد النبيّ الأُمّي (صلى الله عليه وآله) إليّ ، أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق " (2) .
فكيف يزايد أحد على حبّ آل البيت وتبجيلهم ، إلاّ إذا كان المراد : الغلوّ بهم فوق مرتبة البشرية ، ومنحهم خصائص إلهية ، فهذا من جنس دعوى حبّ المسيح باعتباره ابناً لله ، أو شريكاً له .. ، وهذا ما يرفضه المسلمون ، ويعتبرون دعوى النصارى في محبّته مناقضة للواقع .
إنّ الذي حملني على هذا التعليق ، شريط رأيته وسمعته ينقل صوراً من حسينيات الشيعة ، فيها الشرك الذي لا يحتمل تأويلاً بحال ، ومن ذلك السجود للقبور .
وهنا سألت نفسي : إذاً ما العمل الذي لا يجوز صرفه إلاّ لله ؟ ولكن ــ للأسف ـ لم أسمع إلاّ رجع الصدى ! لقد سمعت أحد المتحدّثين في هذا الشريط يقول : إنّ النبيّ ليلة الإسراء سمع صوتاً من فوق العرش ، فلمّا دنا منه ، إذا الصوت صوت علي ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ! أفكان علي هو الله ؟ أم كان الله يقلّد صوت علي ؟ تباركت يا ذا الجلال
____________
1- البقرة : 31 .
2- صحيح مسلم 1 / 61 .
|
الصفحة 393 |
|
والإكرام ، فإلى متى يظلّ العقلاء في عزلتهم ، ويتركون العامّة لهذه الأباطيل ، ولهذا السخف ؟
ومتى نتحرّر من المجاملة ، ونعلن رفض هذه الأفكار التي لا يقبلها عقل ، ولا يقتضيها نقل ، والتي جعلت منّا مسخرة للأُمم والشعوب ؟ إنّها مجرد خاطرة نفثتها بهذه المناسبة ، وفي انتظار صداها .
كاتب هذا الكلام الشيخ سلمان بن فهد العودة .
الجواب : إنّ من الدعاوي الباطلة أن تدّعي حبّ شخص وأنت توالي أعداءه ، ومن لطيف القول أنّ المتكلّم نقل قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعلي إنّه لا يحبّه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ، فمتى ما أعلن هذا المتكلّم براءته من معاوية بن أبي سفيان ـ المحارب لعلي (عليه السلام) والآمر بسبّه كما في صحيح مسلم وغيره : " أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب ... " ـ نصدّقه في دعوى حبّه لأهل البيت، وأمّا مجرّد الدعوة فهو كلام فارغ لا روح له .
ولو تنزّلنا وقلنا أن المتكلم محبّ لأهل البيت واقعاً نقول : إنّ حبّ أهل البيت شيء وإعطاء حقّهم شيء آخر ، فلابدّ أن يقرن الحبّ بالإيمان بأنّهم الثقل الثاني بعد كتاب الله ؛ فيجب التمسّك بهم وطاعتهم وإتباعهم لأجل الحصول على الهداية من الضلال ؛ وذلك لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : " إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا : كتاب الله وأهل بيتي ... " . فنحن لا ندعو لعبادة غير الله عزّ وجلّ ، ومن عبادة الله طاعة نبيّه الآمر بإتّباع أئمّة هداة من أهل البيت ، إنّما الكلام فيمن يدعى عبادة الله ويعرض عن إتباع أوامر نبيّه عليه الصلاة والسلام ، فتأمّل . هذا أولاً .
وثانياً : ما نسبه المتكلّم لبعض عوام الشيعة من أفعال وقمّة تلك الأفعال هو السجود للقبر ، وادّعى أن ذلك شركاً ، فنقول : لو تنزّلنا وفرضنا أنّ بعض الشيعة يسجد للقبر واقعاً ، فما أبعد هذا المتهم لهم بالشرك عن كتاب الله القائل : { اسْجُدُوا لآدَم } ، والقائل : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ... } ، فهل كان الله يأمر بالشرك حينما أمر ملائكته بالسجود لآدم ؟ أم
|
الصفحة 394 |
|
كان أنبياء الله يُقرّون الشرك كما ي قصة يوسف ؟ إذاً السجود إذا لم يكن بقصد العبادة لا يكون شركاً . نعم يجب أن يبحث في أنه هل يجوز السجود لغير الله أم لا ، وهذا بحث فقهيّ يراجع به الفقهاء ، وهذا بخلاف لو كان الساجد إنما سجد إقراراً منه بألوهية المسجود له ، حينها لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الساجد مشرك ، إنما الكلام فيمن يسجد على نحو المبالغة في الاحترام والتقدير ـ كما يفعل ذلك بعض الشعوب الآسيوية ـ حينها لا يصحّ أن يقال بأنّ الساجد مشركاً ، نعم كما قلنا يجب أن يبحث في جواز ذلك وعدمه . كلّ هذا لو تنزلنا وقلنا بأنّ من ذكرهم الشخص كانوا يقصدون السجود للقبر . ولكن لو لاحظنا الواقع بعين الإنصاف لوجدنا أنّ من ظنّهم المتكلّم يسجدون للقبر ليسوا كما تصوّر ، فإنهم لم يقصدوا السجود أصلاً ، إنّما قصدوا تقبيل أعتاب تلك البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وقد أخذهم وَلَه العشق لمحمّد وآل محمّد ، وهذا المعنى لا يفهمه المتكلّم قطعاً .
أما ما ذكره المتكلّم من رواية أن الله في المعراج خاطب رسوله (صلى الله عليه وآله) بصوت علي (عليه السلام) وقال : " أفكان علي هو الله ؟ أم كان الله يقلّد صوت علي ؟ " . فنقول :
أوّلاً : لم تقتصر الشيعة على رواية هذا الخبر بل رواه بعض أعلام العامّة مثل أخطب خوازم في كتاب المناقب .
ثانياً : إنّ الله خاطب نبيّه موسى من الشجرة أو من جهة الشجرة ، فلو أردنا أن نفكر بمستوى تفكير المتكلّم لقلنا : هل كانت الشجرة هي الله ؟ أم أن الله تجسّد في الشجرة أو حلّ في جهة الشجرة ؟ هذا إذا تنزّلنا في التفكير لمستوى المتكلّم ، أمّا إذا أردنا أن نتكلّم بشكل علميّ فنقول : إنّ منشأ الإشكال عند المتكلّم هو أنّه يعتقد بأنّ الله يتكلّم حقيقة ـ والعياذ بالله ـ وهذا باطل لما يستلزم من أمور لا يصحّ أن تنسب لله كاللسان والحنجرة ..
أمّا ما نعتقده نحن فإنّنا نقول : بأنّ الله متكلّم بمعنى أنه يخلق الصوت الذي
|
الصفحة 395 |
|
يخاطب به غيره ، فكلامه مع موسى إنّما كان بخلقه الصوت من الشجرة أو من جهة الشجرة ، وكذلك خلق الصوت بنبرة علي (عليه السلام) ـ وهو الخالق لعلي وكل شؤونه ـ وخاطب به نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) .
ولو كان المتكلّم منصفاً لفهم السبب من ذلك من خلال نفس الرواية : " ... خلقتك من نوري ، وخلقت عليّاً من نورك ، فاطلعت على سرّك فلم أجد إلى قلبك أحبّ منه في قلبك ، فخاطبتك بلسانه كي يطمئن قلبك " .
( محمّد . ... . ... )