ما هو السر في جعلها جزءاً من آية أُخرى :
قد اتضح مما ذكرنا أن القرآن الكريم إنّما انتقل إلى موضوع أهل البيت
1 . سورة المائدة: 3.
2 . سورة المائدة: 3.
[ 51 ]
وخطابهم لاَجل إعلام نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّهن في جوار هوَلاء المطهرين فيجب عليهن القيام بأداء حقوق هوَلاء العظماء، الذين ميّزهم اللّه تعالى عن غيرهم من هذه الا َُمّة بالتطهير والعصمة و الاقتداء بهم في القول والسلوك.
ولكن يبقى هنا سوَال آخر، وهو أنّه إذا كانت الآية ، آية مستقلة فلماذا جاءت في المصحف جزءاً من آية أُخرى، ولم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الا َُخرى ؟
الجواب: التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت (عليهم السلام) ، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار، فاقتضت الحكمة الاِلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت ، وان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما بيّناه قبل قليل.
وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه ـ قدّس اللّه سرّه ـ بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه : (إنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) منزل في حق الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) طرح سوَالاً ، وهو أنّه إذا كان أمير الموَمنين «عليه السلام» هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع؟
فقال: إنّ العرب قد تعبّـر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب، ثم قال: وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس، فإنّ شانئي علي
1 . المائدة: 55.
[ 52 ]
وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه ولا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الاِسلام فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة وبث فيهم أمر الولاية تدريجاً حتى أكمل اللّه الدين وأتمَّ النعمة جرياً منه ص على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم، ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً، وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير الموَمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى، وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا «سبيل الموَمنين» و «تنزيل الآيات» والحمد للّه على الهداية والتوفيق والسلام . (1)
1 . المراجعات:المراجعة: 42 ص 166.
[ 53 ]
نظريات أُخرى في تفسير أهل البيت :
قد عرفت القولين المعروفين حول الآية ، كما عرفت الحق الواضح منهما، فهلم معي ندرس سائر الاَقوال الشاذة التي لا تعتمد على ركن وثيق وإنّما هي آراء مختلقة لاَجل الفرار من المشاكل المتوجهة إلى ثاني القولين، ونحن نذكرها واحداً بعد آخر على نحو الاِيجاز :
1. المراد من «البيت»هو بيت اللّه الحرام والمراد من أهله هم المقيمون حوله.
2. المراد من «البيت» هو مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد من أهله هم القاطنون حوله، وكان لبيوتهم باب إلى المسجد .
3. المراد من تحرم عليهم الصدقة وهم ولد أبي طالب: علي، جعفر، وعقيل، وولد العباس.
4. المراد من البيت بيت النسب والحسب، فيعم أبناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونساءه.(1) وهذه الوجوه كلّها عليلة ، أمّا الاَوّل والثاني، فلاَنّ إطلاق «أهل البيت» واستعماله في أهل مكة والمدينة استعمال بعيد لا يحمل عليه الكلام إلاّ بقرينة قطعية، والمتبادر منه هو أهل بيت الرجل، وعلى ذلك جرى الذكر الحكيم في موردين أحدهما في قصة إبراهيم قال سبحانه : (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) . (2) وثانيهما في قصة موسى قال سبحانه: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ). (3)
أضف إليه أنّ الآية واقعة في سياق البحث عن نساء النبي، فصرف الآية عنه ص وإرجاعها إلى من جاور بيت اللّه أو من بات حول مسجده لا يساعد عليه ظاهر الآيات أبداً .
1 . لاحظ في الوقوف على هذه الاَقوال تفسير الطبري: 22|5 ـ 7؛ وتفسير القرطبي: 14|182؛ ومفاتيح الغيب للرازي: 6|615؛ والكشاف: 2|538؛ وغيرها.
2 . هود: 73.
3 . القصص: 12.
[ 54 ]
ويتلوهما الثالث: فإنّ تفسير «أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) » بمن تحرم عليه الصدقة من صلب أبي طالب والعباس تفسير بلا شاهد ، وكأنّه حمل البيت على البيت النسبي، أضف إليه أنّ الصدقة غير محرمة على خصوص أبنائهما، بل هي محرمة على أبنائهما وكل من كان من نسل عبد المطلب .
قال الشيخ الطوسي في الخلاف: تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم من ولد أبي طالب العقيليين والجعافرة والعلويين، وولد العباس بن عبد المطلب، وولد أبي لهب، وولد الحارث بن عبد المطلب، ولا عقب لهاشم إلاّ من هوَلاء، ولا يحرم على ولد المطلب، ونوفل، وعبد شمس بن عبد مناف، قال الشافعي: تحرم الصدقة المفروضة على هوَلاء كلهم وهم جميع ولد عبد مناف.(1)
وقال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات: 2|353، المسألة 26.
وعلى ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم، وقد قدمنا نصّه عند ذكر الاَحاديث الواردة حول الآية. (2)
وأمّا النظرية الرابعة: فقد ذهب إليها بعضهم، جمعاً بين الاَحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة، وسياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده وأزواجه، وجعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته وملازمته للنبي ص .
قال الرازي: والاَولى أن يقال هم: أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي معهم، لاَنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي وملازمته. (3)
وقال البيضاوي: والتخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية وما
1 . الخلاف: 2|227، المسألة 4 كتاب الوقوف والصدقات.
2 . لاحظ ص 398، الحديث 35.
3 . مفاتيح الغيب: 6|615.
[ 55 ]
بعدها، والحديث يقتضي أنّهم من أهل البيت لا أنّ غيرهم ليس منهم.(1)
وقال المراغي: أهل بيته من كان ملازماً له من الرجال والنساء والاَزواج والاِماء والاَقارب. (2)
وهذه النظرية موهونة أيضاً :
أوّلاً: انّ اللام في «أهل البيت» ليس للجنس ولا للاستغراق، بل هي لام العهد وهي تشير إلى بيت معهود بين المتكلم والمخاطب، وهو بيت واحد، ولو صح ذلك القول لوجب أن يقول «أهل البيوت» حتى يعم الاَزواج والاَولاد وكل من يتعلّق بالنبي نسباً أو حسباً أو لعلاقة السكنيّة مثل الاِماء.
والحاصل: انّه لو أُريد «بيت النبي» المادي الجسماني لا يصح، إذ لم يكن له بيت واحد، بل كان لكل واحدة من نسائه بيت مشخص، فكان النبي صاحب البيوت لا البيت الواحد.
ولو أُريد منه بيت النسب، كما يقال: بيت من بيوتات «حمير» أو «ربيعة»، فلازمه التعميم إلى كل من ينتمي إلى هذا البيت بنسب أو سبب، مع أنّه كان بعض المنتمين إليه يوم نزول الآية من عبدة الوثن وأعداء النبي ، فإنّ سورة الاَحزاب نزلت سنة ست من الهجرة، وقد ورد فيها زواج النبي من زينب بنت جحش، وهو حسب ما ذكره صاحب «تاريخ الخميس» من حوادث سنة الخمس، وعلى ذلك فلا تتجاوز الآيات النازلة في نساء النبي عن هذا الحد وكان عند ذاك، بعض من ينتمي إلى النبي بالنسب مشركاً، كأبي سفيان بن عبد المطلب ابن عم رسول اللّه، وعبد اللّه بن أُمية بن المغيرة ابن عمته، وقد أسلما في عام الفتح، وأنشد الاَوّل قوله في إسلامه واعتذر إلى النبي ممّا كان مضى منه فقال:
1 . أنوار التنزيل: 4|162.
2 . تفسير المراغي: 22|7.
[ 56 ]
لعمرك إنّـي يوم أحمِلُ رايةً *** لتَغْلِبَ خَيلَ اللات، خيلُ محمد
لكالمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُــهُ *** فهذا أواني حين أُهدي وأهْتدى (1)
ولو أُريد منه «بيت الوحي» فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع والتقوى ذروتهما، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون، ومثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت، وإن كان في جانب الاِيمان والعمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.
ثانياً: قد عرفت أنّ الاِرادة الواردة في الآية تكوينية تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب والحسب؟!
ثالثاً: انّ النظرية في جانب مخالف للاَحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة، وقد قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الاَوّل، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المبين الاَوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ). (2)
فليست وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القراءة والتلاوة بل التبيين والتوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.
هذا هو موجز القول في تفسير الآية ولا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الاِسلاميين حول أهل البيت وفضائلهم، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الاِسلامية لم يكن إلاّ العترة الطاهرة، أعني: فاطمة وأباها وبعلها وابنيها سلام اللّه عليهم أجمعين ، وإليك نزراً يسيراً في هذا المجال.
1 . السيرة النبوية: 2|401.
2 . النحل: 44.
[ 57 ]