إن مسألة القضاء والقدر من المسائل الضوضائية التي حرفت في كثير من الموارد بسبب عدم الوعي والمعرفة الدقيقة أو بسوء النبية ، ونحن هنا لتحليل الموضوع نلخص بعض نتائج التحقيقات فيه :
لقد ابتني كل شيء في هذا العالم على أساس قوانين دقيقة محسوبة مقدرة ، وهي تكتسب مشخصاتها وحدودها من قبل عللها وموجباتها ، فكل موجود كما يحصل على وجوده من قبل علته ، كذلك يأخذ كل خصائصه الظاهرية والباطنية من ناحية علته ، ويتحدد بحدودها ويتقدر بقدرها ، وحيث لابدّ من المجانسة والسنخية بين المعلول والعلة لا تعطي العلة لمعلولها سوى الأثر المناسب لذاتها .
إن القضاء والقدر في الرؤية الإسلامية : يعني الأحكام الإلهية القطعية في مجاري أمور العالم ومقاديرها وحدودها ، وكل ظاهرة وحادثة في نظام الوجود ومنها أعمال الإنسان تصل إلى مرحلة التحديد القطعي بعللها ، ولا يعني هذا سوى شمول واستيعاب أصل العلية العام حتى بالنسبة إلى أفعال البشر الاختيارية .
القضاء : يعني العمل المحتوم المبرم الذي لا رجوع فيه ، وهو من فعل الله سبحانه .
والقدر : يعني المقدار وكيفية جريان نظام الوجود الكونية ، فالقدر أيضاً من خالقية الله الماضية في جميع موجوداته ، وعلى هذا التفسير فالقضاء والقدر يعني : أن الله هو الذي خلق التقنية الكونية ونظامها ، وهو الذي قدّرها وقدّرها وقضى بجريانها .
والمقصود من التقدير هو التحديد العملي والعيني الخارجي ، لا التقدير الذهني كما يقدر المهندس حدود البناية المقصودة وجميع خصوصياتها في ذهنه قبل تجسيدها .
والقرآن الكريم يرى هذه الأحجام الثابتة بجميع خصوصياتها وحدود كل شيء من قدر الله تعالى إذ يقول :
( إنّا كل شيء خلقناه بقدر )(1) .
( قد جعل الله لكل شيء قدراً )(2) .
نرى في القرآن الكريم أن القضاء جاء تعبيراً عن الضرورات الطبيعية والعقلية ، وعن العلل وتحقق معلوماتها ، وكأنه يعني : ما لم تتم تلك المقادير المعينة بشروطها ولم تتكامل المقتضيات لا يتحقق القضاء الإلهي في الوجود .
أي أن الله قدر الموقع المكاني والزمني وحدود الحوادث ثم حكم عليها بقضائه ، فأي عامل يظهر في العالم ويؤثّر إنما هو مظهر لإرادة الحق وعلمه ووسيلة لتنفيذ قضائه .
إن المادة المحكومة بقانون « الحركة » تضمر استعداد النمو والتطور والتكامل ، وهي على استعداد لتقبل الصور المختلفة والحالات والكيفيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القمر : الآية 49 .
2 سورة الطلاق : الآية 3 .
المتنوعة حسب آثار العوامل ، باصطدامها ببعض العوامل الأخرى ، قد تتقدم وتطرد وتطوي المراحل المختلفة إلى الكمال ، وقد تتوقف في مسيرتها التقدمية ، قد تسرع في حركتها بصورة عاجلة ، وقد تفقد سرعتها اللازمة في التقدم والكمال وتبطيء في مسيرتها . .
إذن فمصيرها ليس نوعاً واحداً من القضاء والقدر ، والعلة هي التي تعين مصير المعلول ، وحيث إن الموجودات المادية تتعلق بعلل مختلفة لذلك تجد التفاوت في مصير بعضها عن بعض ، وإن كل علة تجعل الموجود في مسيرة خاصة .
فلو ابتلي أحد بمرض « المصران الأعور = الزائدة الدودية » فهو لعلّة خاصة ، ومصيرة أحد أمرين : فإن خضع لعملية جراحية استعاد سلامته وبذلك يتغير مصيره ، وإن لم يخضع للعملية ومات ، كان ذلك مصيره الآخر .
إذن فالمصير مختلف ومتغيّر وتابع لتصميم المريض نفسه ، ولا يخرج تصميمه عن حوزة القضاء الإلهي .
ولا يجوز أن يقعد ويقول : لو كان من المقدار أن أعيش فسوف أعيش ، وإن لم يكن من المقدار أن أعيش فسأموت مهما سعيت للعلاج ، لا يجوز شرعاً ولا يجوز عقلاً ولا يجوز تكويناً أيضاً .
فلو مضيت للعلاج وتحسنت خالك فالتقدير كذلك ، ولو متّ تاركاً العلاج فالتقدير أيضاً كذلك ، إن ذهبت أم لم تذهب ، أو عملت أم لم تعمل كل ذلك من التقدير .
إن الذين تكاسلوا عن العمل ولم يحاولوه كان ذلك باختيارهم ، حتى إذا ما ضاقوا بالفقر حملوا اللوم على تقدير الله تعالى ( صحيح أن التقدير هنا هو الفقر ولكن كان ذلك باختيارهم ) ولو كانوا يصممون على العمل والفعالية وسعوا للرزق سعيه كان ما يحصلون عليه أيضاً من التقدير ، فسواء إن عملت
أو كسلت لم تعمل شيئاً خلاف القدر .
إذن فتقرير لتغيير المصير المتصور لا يعني مقاومة القضاء والقدر أو خلاف قانون العلية الكلية ، وما يغير المصير هو بدوره حلقة من حلقات سلسلة العلل والمعلولات وعامل آخر من عوامل القضاء والقدر الإِلهي ، وبكلمة : إن القضاء والقدر يتغير بحكم قضاء وقدر آخر .
إن القوانين الميتافيزيقية ( إن صحّ التعبير ) لا تتعلق بالحوادث على وضع واحد فقط ، كما لا تساعد قواعد العلوم على أكثر من ذلك ، إنها ـ أي القوانين الميتافيزيقية ـ تحكم الظواهر والحوادث ولكنها لا تتحكم في اتجاهاتها ، وفي الحقيقة : الحوادث والظواهر واتجاهاتها كلها محكومة للقوانين الميتافيزيقية الشاملة ، فأينما اتّجهت الحوادث كانت في إطارها غير خارجة عنها تماماً كأنما الحوادث موجودات حية متحركة ماشية تسرح في واد معين واسع ، فأينما اتّجهت يساراً ويميناً ، شمالاً وجنوباً لم تكن تخرج عن محيط ذلك الوادي المعين .
إن القضاء والقدر الالهي هو شمول أصل العلية ، حسب القوانين الميتافيزيقية ، وأصل العلية لا يقول بأكثر من : أن لكل حادثة سبباً ثم لا يهتدي هذا الأصل إلى أي تنبوء بشأن الحوادث ، إن القانون الميتافيزيقي الذي هو صعيد مجاري الأمور المختلفة ، سواء عليه ما يحدث ، تماماً كالشارع العام الذي يمهد المرور للمارة ولكنه لا يختلف عنده اتجاهاتهم .
إن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) عدل من جدار مائل مشرف على السقوط إلى جدار آخر . . . فقيل له : يا أميرالمؤمنين . . أتفرّ من قضاء الله ؟ ! قال ( عليه السلام ) « أفرّ من قضاء الله إلى قدره »(1) أي أفر من تقدير إلى تقدير آخر ، فالجلوس والخلوص كلاهما مشمولان للتقدير على سواء ، فلو تهدم الجدار وأصابني منه شيء كان ذلك بقضاء وقدر ، ولو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع كتاب التوحيد الصدوق (رحمه الله) ص 369 .
بعدت عن الخطر وسلمت كان ذلك أيضاً قضاء وقدراً ، وهذا هو معنى شمول واستيعاب التقدير .
إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الطبيعة السائدة في العالم والسنن الكونية الحتمية بأنها سنن إلهية إذ يقول :
( ولن تجد لسنة الله تبديلا )(1) .
وكذلك يرى من سنة الله :
( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً .ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )(2) .
وكذلك يرى من سنة الله :
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم )(3) .
وفي الرؤية الإِلهية لا تنحصر الواقعيات في العلل المادية ، ولا ينبغي قصر النظر على العلاقات الحسية والأبعاد المادية للحوادث فحسب ، فإن العوامل المعنوية تصل إلى حدود ليس الوصول إليها بإمكان العوامل المادية ، وله دور مستقل مصيري في وقوع الحوادث .
لا يستوي العمل الصالح والآخر السيّىء ، ولعمل الإِنسان ردود فعل في الحياة ، فالإِحسان إلى بني نوع الإِنسان وإرادة الخير لهم والخدمة والمحبة والمودّة لخلق الله ، كل ذلك من العوامل التي تؤدّي إلى تغيير المصير إلى السعادة والنعيم الدائم ، والظلم وإرادة السوء والعدوان واتّباع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الاحزاب : الآية 62 .
2 سورة النور : الآية 55 .
3 سورة الرعد : الآية 11 .
الهوى وحب النفس غير المشروع يستتبع ثماراً مرة وآثاراً مضرة ونتائج خاسرة لا تجتنب ، وكأنما العالم بنفسه بصير سميع ! بل إن عواقب الأعمال أيضاً من القضاء والقدر .
يقول القرآن الكريم بصدد الدور المصيري للعوامل المعنوية :
( ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )(1) .
( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون )(2) .
إن مسألة القضاء والقدر أصبحت مستمسكاً للجبريين قائلين : لا يستقلّ الإِنسان بصدور أي عمل منه ، إذ قد قدر الله أعمال الإِنسان كلّيّها وجزئيّها ، صالحها وفاسدها ، وعلى هذا فلا يبقى مورد اختياري للإِنسان .
والفرق بين الجبر والمصير المحترم هو : إن وقوع كل ظاهرة تصبح ضرورة بعد تحقق جميع أسبابها وعللها ومن سلسلة العلل والأسباب إرادة الإِنسان ، وبما أن الإنسان لا يحقق أعماله إلا بأهداف معينة بصفته موجوداً مختاراً ، إذن فهو لا يسير خلف أعماله متابعاً لها كقطرة المطر التي تسقط في مجرى خاص خاضعة لقانون الجاذبيّة ، ولو كان هو أيضاً كذلك لم يكن يمكنه أن يتابع أهدافه التي يفكر فيها ، في حين أن مدرسة الجبر تنظر إلى الإِنسان وكأنه موجود قد عطلت إرادته مع حريته ، وترى أن العلل خارجة عن ذات الإِنسان ولا تتعلق إلا بالله .
إذن فالقضاء والقدر إنما يؤدي إلى الجبر فيما لو أصبح بديلاً عن إرادة البشر ، ولم يبق أي دور لإِرادته في أعماله ، بينما ليس القضاء والقدر الإِلهي سوى نفس الأسباب والمسببات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف : الآية 96 .
2 سورة القصص : الآية 59 .
لا شك أننا لا ندرك كل ما نتمناه ، إلّا أن هذه الحقيقة لا تشكل أقل دليل على الجبر ، إذ لا منافاة بين إثبات الاختيار للبشر مع محدودية اختياره لأعماله ، وأدلة إثبات الاختيار لا تتضمن الدلالة على عدم محدودية اختياره .
إن الله قد أجرى عوامل عديدة على صعيد الوجود ، قد تبدو واضحة وأخرى لا تبدو كذلك ، وإن التفسير الدقيق الواقعي لمفهوم القضاء والقدر يبعث الشخص على السعي الأكثر في سبيل استزادة الإِفادة من طاقاته في إطار معلوماته ، ولكي يتمكن من التعرّف على الواقع ومحاسبة الواقعيات ، وبالتالي يتمكن من الوصول إلى إمكانات أكثر ، إن محدودية قدرات الإِنسان هي العلة عدم توصله إلى عوامل أكثر في سبيل الوصول إلى انتصارات أكبر ، وبالتالي لا يصل إلى تحقيق آماله .
إذن فمصير كل موجود مرتبط بعلله السابقة على أساس أصل العلية العامة ، وسواء كنا مؤمنين بالمبدأ الإِلهي أم لا فإن ذلك غير مؤثّر في مسألة الحيرة والمصير ، أي سواء كان الإِنسان يرى نظام الأسباب والمسببات في العالم مستنداً إلى إرادة الله ومشيئته ، أو كان يفترض استقلال هذا النظام عن الاستناد إلى الخالق ، إذن فلا يمكن أن نرى أن عقيدة الجبر ناتجة عن العقيدة بالقدر ، إن الغرض من المصير هو علاقة كل حادثة بعللها التي منها اختيار الإِنسان وإرادته ، وليس المقصود من تقدير المصير إنكار الأسباب والعلل .
إن الله قد قدر وقضى أن تبدو كل ظاهرة من مجاري عللها الخاصة ، وأن مشيئة الخالق تسود العالم كقانون عام ، وأن كل تغيير إنما يتحقق على أساس السنن الكونية الإِلهية ، وإلا فلا يتحقق ذلك ، وأن تؤمن كذلك بهذه الروابط والعلاقات ، سواء كانت مدرسة مادية أو إلهية .
إذن فلو كان ظهور أية حادثة ـ ومنهاأفعال الإِنسان ـ قطعياًمن قبل علله
وأسبابه ، وكان هذا الحدوث القطعي مفيداً للجبر فما الفرق بين المدرسة الإِلهية والمادية ؟ .
أجل ، إن التفاوت الثابت هو أن التصور الديني ـ بخلاف التصوّر المادّي ـ يرى أن هناك سلسلة من الأمور المعنوية هي جزء من العوامل المؤثّرة جداً في حدوث كثير من الحوادث ، إن هذا التصورّر يرى وجود أسرار ورموز معنوية في الوجود هي أدق وأعقد من العوامل المادية ، إن هذا التصوّر يهب الحياة روحاً وهدفاً ومعنى ، والإِنسان نشاطاً وعمقاً في البصيرة وقوّة في الفكر واتّساعاً في الأفق ويمنعه من السقوط في هوّة الفراغ المهولة ، ويدفعه في سيره نحو الكمال دون توقف وركود .
وعلى هذا ، فإن المؤمن الإِلهي الذي يؤمن بالقضاء والقدر ، ويدرك أن هناك أهدافاً حكيمة في خلقة الإِنسان والعالم ، يكون أوثق وآمل من غيره بنتائج فعالياته وثمارها مع ما هو عليه من الاعتماد والتوكّل على الله في مسيرته في الحياة ، وهو يرى نفسه محاطاً بحماية الله وتأييداته .
أما الأسير في سدى ولحمة التصوّر المادي ، وله تصوره الخاص عن القضاء والقدر في إطار تفكيره الخاص ، فلا يتمتع بهذه المزايا الإِيمانية الإِلهية قطعاً ، فإنه لا يطمئن بتأييد في تحقيق آماله ، وبدهي ما بين هذين المذهبين من الفواصل العميقة بالنظر إلى الآثار الاجتماعية والتربوية والنفسية .
يقول ( أناطول فرانس ) : « إن من قدرة الأديان تعلّم الإِنسان الأسباب والعواقب في الأعمال ، وحينما نطرد نحن أصول فلسفة العقائد الإِلهية ـ كما نحن عليه الآن في عصر العلم والحرية ـ لا تبقى أية وسيلة أخرى نفهم منها : لماذا أتينا إلى هذه الحياة ؟ ولماذا أقدمنا إليها ؟ إن سرّ المصير قد أحاطنا بما له من هيمنة ، وعلينا أن لا نفكر في شيء قط كي لا نحس باللغز المبهم للحياة ، وإن جذور أحزاننا وآمالنا إنما هي في جهلنا المطلق بعلة وجودنا في هذه الحياة ، وإن آمالامنا الجسمية والروحية كانت
تصبح ممّا يطاق فيما لو كنا ندرك فلسفتها ولو بالاعتقاد بمشيئة الله سبحانه .
إن المؤمن ليلتذ حتى من عذابه الروحي ، وحتى الأخطاء التي تصدر منه لا تسلبه أمله ، أما مع خمود شعلة الإِيمان فلا معنى حتى للأمراض والأدواء إلا أن تحسب مزاحاً قبيحاً واستهزاءً من الطبيعة للإِنسان » .