عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

كيف تتحق إرادة الله

القضاء والقدر

كيف تتحق إرادة الله

إن مسألة القضاء والقدر من المسائل الضوضائية التي حرفت في كثير من الموارد بسبب عدم الوعي والمعرفة الدقيقة أو بسوء النبية ، ونحن هنا لتحليل الموضوع نلخص بعض نتائج التحقيقات فيه :

لقد ابتني كل شيء في هذا العالم على أساس قوانين دقيقة محسوبة مقدرة ، وهي تكتسب مشخصاتها وحدودها من قبل عللها وموجباتها ، فكل موجود كما يحصل على وجوده من قبل علته ، كذلك يأخذ كل خصائصه الظاهرية والباطنية من ناحية علته ، ويتحدد بحدودها ويتقدر بقدرها ، وحيث لابدّ من المجانسة والسنخية بين المعلول والعلة لا تعطي العلة لمعلولها سوى الأثر المناسب لذاتها .

إن القضاء والقدر في الرؤية الإسلامية : يعني الأحكام الإلهية القطعية في مجاري أمور العالم ومقاديرها وحدودها ، وكل ظاهرة وحادثة في نظام الوجود ومنها أعمال الإنسان تصل إلى مرحلة التحديد القطعي بعللها ، ولا يعني هذا سوى شمول واستيعاب أصل العلية العام حتى بالنسبة إلى أفعال البشر الاختيارية .

القضاء : يعني العمل المحتوم المبرم الذي لا رجوع فيه ، وهو من فعل الله سبحانه .

والقدر : يعني المقدار وكيفية جريان نظام الوجود الكونية ، فالقدر أيضاً من خالقية الله الماضية في جميع موجوداته ، وعلى هذا التفسير فالقضاء والقدر يعني : أن الله هو الذي خلق التقنية الكونية ونظامها ، وهو الذي قدّرها وقدّرها وقضى بجريانها .

والمقصود من التقدير هو التحديد العملي والعيني الخارجي ، لا التقدير الذهني كما يقدر المهندس حدود البناية المقصودة وجميع خصوصياتها في ذهنه قبل تجسيدها .

والقرآن الكريم يرى هذه الأحجام الثابتة بجميع خصوصياتها وحدود كل شيء من قدر الله تعالى إذ يقول :

( إنّا كل شيء خلقناه بقدر )(1) .

( قد جعل الله لكل شيء قدراً )(2) .

نرى في القرآن الكريم أن القضاء جاء تعبيراً عن الضرورات الطبيعية والعقلية ، وعن العلل وتحقق معلوماتها ، وكأنه يعني : ما لم تتم تلك المقادير المعينة بشروطها ولم تتكامل المقتضيات لا يتحقق القضاء الإلهي في الوجود .

أي أن الله قدر الموقع المكاني والزمني وحدود الحوادث ثم حكم عليها بقضائه ، فأي عامل يظهر في العالم ويؤثّر إنما هو مظهر لإرادة الحق وعلمه ووسيلة لتنفيذ قضائه .

إن المادة المحكومة بقانون « الحركة » تضمر استعداد النمو والتطور والتكامل ، وهي على استعداد لتقبل الصور المختلفة والحالات والكيفيات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة القمر : الآية 49 .

2 سورة الطلاق : الآية 3 .

 

المتنوعة حسب آثار العوامل ، باصطدامها ببعض العوامل الأخرى ، قد تتقدم وتطرد وتطوي المراحل المختلفة إلى الكمال ، وقد تتوقف في مسيرتها التقدمية ، قد تسرع في حركتها بصورة عاجلة ، وقد تفقد سرعتها اللازمة في التقدم والكمال وتبطيء في مسيرتها . .

إذن فمصيرها ليس نوعاً واحداً من القضاء والقدر ، والعلة هي التي تعين مصير المعلول ، وحيث إن الموجودات المادية تتعلق بعلل مختلفة لذلك تجد التفاوت في مصير بعضها عن بعض ، وإن كل علة تجعل الموجود في مسيرة خاصة .

فلو ابتلي أحد بمرض « المصران الأعور = الزائدة الدودية » فهو لعلّة خاصة ، ومصيرة أحد أمرين : فإن خضع لعملية جراحية استعاد سلامته وبذلك يتغير مصيره ، وإن لم يخضع للعملية ومات ، كان ذلك مصيره الآخر .

إذن فالمصير مختلف ومتغيّر وتابع لتصميم المريض نفسه ، ولا يخرج تصميمه عن حوزة القضاء الإلهي .

ولا يجوز أن يقعد ويقول : لو كان من المقدار أن أعيش فسوف أعيش ، وإن لم يكن من المقدار أن أعيش فسأموت مهما سعيت للعلاج ، لا يجوز شرعاً ولا يجوز عقلاً ولا يجوز تكويناً أيضاً .

فلو مضيت للعلاج وتحسنت خالك فالتقدير كذلك ، ولو متّ تاركاً العلاج فالتقدير أيضاً كذلك ، إن ذهبت أم لم تذهب ، أو عملت أم لم تعمل كل ذلك من التقدير .

إن الذين تكاسلوا عن العمل ولم يحاولوه كان ذلك باختيارهم ، حتى إذا ما ضاقوا بالفقر حملوا اللوم على تقدير الله تعالى ( صحيح أن التقدير هنا هو الفقر ولكن كان ذلك باختيارهم ) ولو كانوا يصممون على العمل والفعالية وسعوا للرزق سعيه كان ما يحصلون عليه أيضاً من التقدير ، فسواء إن عملت

أو كسلت لم تعمل شيئاً خلاف القدر .

إذن فتقرير لتغيير المصير المتصور لا يعني مقاومة القضاء والقدر أو خلاف قانون العلية الكلية ، وما يغير المصير هو بدوره حلقة من حلقات سلسلة العلل والمعلولات وعامل آخر من عوامل القضاء والقدر الإِلهي ، وبكلمة : إن القضاء والقدر يتغير بحكم قضاء وقدر آخر .

إن القوانين الميتافيزيقية ( إن صحّ التعبير ) لا تتعلق بالحوادث على وضع واحد فقط ، كما لا تساعد قواعد العلوم على أكثر من ذلك ، إنها ـ أي القوانين الميتافيزيقية ـ تحكم الظواهر والحوادث ولكنها لا تتحكم في اتجاهاتها ، وفي الحقيقة : الحوادث والظواهر واتجاهاتها كلها محكومة للقوانين الميتافيزيقية الشاملة ، فأينما اتّجهت الحوادث كانت في إطارها غير خارجة عنها تماماً كأنما الحوادث موجودات حية متحركة ماشية تسرح في واد معين واسع ، فأينما اتّجهت يساراً ويميناً ، شمالاً وجنوباً لم تكن تخرج عن محيط ذلك الوادي المعين .

إن القضاء والقدر الالهي هو شمول أصل العلية ، حسب القوانين الميتافيزيقية ، وأصل العلية لا يقول بأكثر من : أن لكل حادثة سبباً ثم لا يهتدي هذا الأصل إلى أي تنبوء بشأن الحوادث ، إن القانون الميتافيزيقي الذي هو صعيد مجاري الأمور المختلفة ، سواء عليه ما يحدث ، تماماً كالشارع العام الذي يمهد المرور للمارة ولكنه لا يختلف عنده اتجاهاتهم .

إن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) عدل من جدار مائل مشرف على السقوط إلى جدار آخر . . . فقيل له : يا أميرالمؤمنين . . أتفرّ من قضاء الله ؟ !  قال ( عليه السلام ) « أفرّ من قضاء الله إلى قدره »(1) أي أفر من تقدير  إلى تقدير آخر ، فالجلوس والخلوص كلاهما مشمولان للتقدير على سواء ، فلو تهدم الجدار وأصابني منه شيء كان ذلك بقضاء وقدر ، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 راجع كتاب التوحيد الصدوق (رحمه الله) ص 369 .

 

بعدت  عن الخطر وسلمت كان ذلك أيضاً قضاء وقدراً ، وهذا هو معنى شمول واستيعاب التقدير .

إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الطبيعة السائدة في العالم والسنن الكونية الحتمية بأنها سنن إلهية إذ يقول :

( ولن تجد لسنة الله تبديلا )(1) .

وكذلك يرى من سنة الله :

( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً .ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )(2) .

وكذلك يرى من سنة الله :

( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم )(3) .

وفي الرؤية الإِلهية لا تنحصر الواقعيات في العلل المادية ، ولا ينبغي قصر النظر على العلاقات الحسية والأبعاد المادية للحوادث فحسب ، فإن العوامل المعنوية تصل إلى حدود ليس الوصول إليها بإمكان العوامل المادية ، وله دور مستقل مصيري في وقوع الحوادث .

لا يستوي العمل الصالح والآخر السيّىء ، ولعمل الإِنسان ردود فعل في الحياة ، فالإِحسان إلى بني نوع الإِنسان وإرادة الخير لهم والخدمة والمحبة والمودّة لخلق الله ، كل ذلك من العوامل التي تؤدّي إلى تغيير المصير  إلى السعادة والنعيم الدائم ، والظلم وإرادة السوء والعدوان واتّباع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الاحزاب : الآية 62 .

2 سورة النور : الآية 55 .

3 سورة الرعد : الآية 11 .

 

الهوى وحب النفس غير المشروع يستتبع ثماراً مرة وآثاراً مضرة ونتائج خاسرة لا تجتنب ، وكأنما العالم بنفسه بصير سميع ! بل إن عواقب الأعمال أيضاً من القضاء والقدر .

يقول القرآن الكريم بصدد الدور المصيري للعوامل المعنوية :

( ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )(1) .

( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون )(2) .

إن مسألة القضاء والقدر أصبحت مستمسكاً للجبريين قائلين : لا يستقلّ الإِنسان بصدور أي عمل منه ، إذ قد قدر الله أعمال الإِنسان كلّيّها وجزئيّها ، صالحها وفاسدها ، وعلى هذا فلا يبقى مورد اختياري للإِنسان .

والفرق بين الجبر والمصير المحترم هو : إن وقوع كل ظاهرة تصبح ضرورة بعد تحقق جميع أسبابها وعللها ومن سلسلة العلل والأسباب إرادة الإِنسان ، وبما أن الإنسان لا يحقق أعماله إلا بأهداف معينة بصفته موجوداً مختاراً ، إذن فهو لا يسير خلف أعماله متابعاً لها كقطرة المطر التي تسقط في مجرى خاص خاضعة لقانون الجاذبيّة ، ولو كان هو أيضاً كذلك لم يكن يمكنه أن يتابع أهدافه التي يفكر فيها ، في حين أن مدرسة الجبر تنظر إلى الإِنسان وكأنه موجود قد عطلت إرادته مع حريته ، وترى أن العلل خارجة عن ذات الإِنسان ولا تتعلق إلا بالله .

إذن فالقضاء والقدر إنما يؤدي إلى الجبر فيما لو أصبح بديلاً عن إرادة البشر ، ولم يبق أي دور لإِرادته في أعماله ، بينما ليس القضاء والقدر الإِلهي سوى نفس الأسباب والمسببات .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الأعراف : الآية 96 .

2 سورة القصص : الآية 59 .

 

لا شك أننا لا ندرك كل ما نتمناه ، إلّا أن هذه الحقيقة لا تشكل أقل دليل على الجبر ، إذ لا منافاة بين إثبات الاختيار للبشر مع محدودية اختياره لأعماله ، وأدلة إثبات الاختيار لا تتضمن الدلالة على عدم محدودية اختياره .

إن الله قد أجرى عوامل عديدة على صعيد الوجود ، قد تبدو واضحة وأخرى لا تبدو كذلك ، وإن التفسير الدقيق الواقعي لمفهوم القضاء والقدر يبعث الشخص على السعي الأكثر في سبيل استزادة الإِفادة من طاقاته في إطار معلوماته ، ولكي يتمكن من التعرّف على الواقع ومحاسبة الواقعيات ، وبالتالي يتمكن من الوصول إلى إمكانات أكثر ، إن محدودية قدرات الإِنسان هي العلة عدم توصله إلى عوامل أكثر في سبيل الوصول إلى انتصارات أكبر ، وبالتالي لا يصل إلى تحقيق آماله .

إذن فمصير كل موجود مرتبط بعلله السابقة على أساس أصل العلية العامة ، وسواء كنا مؤمنين بالمبدأ الإِلهي أم لا فإن ذلك غير مؤثّر في مسألة الحيرة والمصير ، أي سواء كان الإِنسان يرى نظام الأسباب والمسببات في العالم مستنداً إلى إرادة الله ومشيئته ، أو كان يفترض استقلال هذا النظام عن الاستناد إلى الخالق ، إذن فلا يمكن أن نرى أن عقيدة الجبر ناتجة عن العقيدة بالقدر ، إن الغرض من المصير هو علاقة كل حادثة بعللها التي منها اختيار الإِنسان وإرادته ، وليس المقصود من تقدير المصير إنكار الأسباب والعلل .

إن الله قد قدر وقضى أن تبدو كل ظاهرة من مجاري عللها الخاصة ، وأن مشيئة الخالق تسود العالم كقانون عام ، وأن كل تغيير إنما يتحقق على أساس السنن الكونية الإِلهية ، وإلا فلا يتحقق ذلك ، وأن تؤمن كذلك بهذه الروابط والعلاقات ، سواء كانت مدرسة مادية أو إلهية .

إذن فلو كان ظهور أية حادثة ـ ومنهاأفعال الإِنسان ـ قطعياًمن قبل علله

وأسبابه ، وكان هذا الحدوث القطعي مفيداً للجبر فما الفرق بين المدرسة الإِلهية والمادية ؟ .

أجل ، إن التفاوت الثابت هو أن التصور الديني ـ بخلاف التصوّر المادّي ـ يرى أن هناك سلسلة من الأمور المعنوية هي جزء من العوامل المؤثّرة جداً في حدوث كثير من الحوادث ، إن هذا التصورّر يرى وجود أسرار ورموز معنوية في الوجود هي أدق وأعقد من العوامل المادية ، إن هذا التصوّر يهب الحياة روحاً وهدفاً ومعنى ، والإِنسان نشاطاً وعمقاً في البصيرة وقوّة في الفكر واتّساعاً في الأفق ويمنعه من السقوط في هوّة الفراغ المهولة ، ويدفعه في سيره نحو الكمال دون توقف وركود .

وعلى هذا ، فإن المؤمن الإِلهي الذي يؤمن بالقضاء والقدر ، ويدرك أن هناك أهدافاً حكيمة في خلقة الإِنسان والعالم ، يكون أوثق وآمل من غيره بنتائج فعالياته وثمارها مع ما هو عليه من الاعتماد والتوكّل على الله في مسيرته في الحياة ، وهو يرى نفسه محاطاً بحماية الله وتأييداته .

أما الأسير في سدى ولحمة التصوّر المادي ، وله تصوره الخاص عن القضاء والقدر في إطار تفكيره الخاص ، فلا يتمتع بهذه المزايا الإِيمانية الإِلهية قطعاً ، فإنه لا يطمئن بتأييد في تحقيق آماله ، وبدهي ما بين هذين المذهبين من الفواصل العميقة بالنظر إلى الآثار الاجتماعية والتربوية والنفسية .

يقول (  أناطول فرانس ) : «  إن من قدرة الأديان تعلّم الإِنسان الأسباب  والعواقب في الأعمال ، وحينما نطرد نحن أصول فلسفة العقائد الإِلهية ـ كما نحن عليه الآن في عصر العلم والحرية ـ لا تبقى أية وسيلة أخرى نفهم منها : لماذا أتينا إلى هذه الحياة ؟ ولماذا أقدمنا إليها ؟ إن سرّ المصير قد أحاطنا بما له من هيمنة ، وعلينا أن لا نفكر في شيء قط كي لا نحس باللغز المبهم للحياة ، وإن جذور أحزاننا وآمالنا إنما هي في جهلنا المطلق بعلة وجودنا في هذه الحياة ، وإن آمالامنا الجسمية والروحية كانت

تصبح ممّا يطاق فيما لو كنا ندرك فلسفتها ولو بالاعتقاد بمشيئة الله سبحانه .

إن المؤمن ليلتذ حتى من عذابه الروحي ، وحتى الأخطاء التي تصدر منه لا تسلبه أمله ، أما مع خمود شعلة الإِيمان فلا معنى حتى للأمراض والأدواء إلا أن تحسب مزاحاً قبيحاً واستهزاءً من الطبيعة للإِنسان » .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العدل
لباس النساء بين القرآن والكتاب المقدس
الإخلاص لله سبحانه وتعالى
كيف تبرمج عقلك اللاوعي لحفظ القرآن الكريم
إشكالية قدم العالم وحدوثه بين ابن رشد وكانط
مفهوم الإنتظار
العقاعد الکلام 3
السفيانيون الجدد وتهديد الشيعة
المُناظرة العاشرة/مناظرة التيجاني مع أحد ...
الشفاعة في الإسلام

 
user comment