ثانياً : الخطبة
ذكرنا إنّ أركان الخطابة ثلاثة أحدها الخطيب ، وقلنا إنّه يجب أن تتوفّر فيه سمات تكوينية وأخلاقية وعلمية ، وقد مرّ الكلام في ذلك مفصلاً ، والآن نتحدّث عن الركن الثاني ، إلاّ وهو الخطبة .
ومشكلة معاهدنا في هذا المجال إنّ الطالب يدخل إلى هذه المعاهد ويتخرّج منها وهو لا يعرف أي شيء عن أنواع الخطب ، ولا عن أجزاء الخطبة ؛ ليسلسل موضوعه على طبقها .
والأدهى من ذلك إنّه لا يعلّم بشيء عن الأسلوب الخطابي ولا خصائصه ، ولا عن كيفية إعداد الخطبة كما مرّ .
فأيّ خطيب متخرّج هذا الذي لا يعرف كلّ هذا أو بعضه ؟ وأيّ معهد خطابة ذاك الذي لا يركّز على مثل هذه المعلومات الهامّة للخطيب ؟
ثالثاً : الجمهور
الجمهور ركيزة أساسية من ركائز الخطابة ، وبدون جمهور مستمع لا تكون هناك خطابة ، وللجمهور أثر كبير في نجاح الخطيب والخطبة معاً ، وآية ذلك اطّراد الأداء عند أغلب الخطباء مع كثرة الحضور ؛ إذ يزداد الخطيب تألّقاً مع ازدياد عدد جمهوره ، ويضعف مستواه تبعاً لضعف الحضور وقلته ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى ، فإنّ وظيفة الخطيب هي إقناع الجمهور بما يلقيه على مسامعهم ، واستمالتهم إلى ما يدعو إليه ، وبالتالي فإنّ الهدف الأساسي والوظيفة العظمى للخطيب هي التأثير في الجمهور سلباً أو إيجابياً تجاه ما يعرض عليهم من أفكار أو معلومات أو غير ذلك .
وبالجملة : وظيفة الخطيب هي التأثير في الجمهور ؛ لإقناعه واستمالته إلى اتّخاذ الموقف المطلوب ، والسلوك الذي يريده الخطيب أن يتحقّق منهم خارجاً .
فالتأثير متبادل بين الجمهور والخطيب ، فهو يؤثر فيهم بالإقناع لما يقول ، وهم يؤثرون في زيادة حماسة وتألقه .
وللتعامل مع الجمهور فإنّ الخطيب بحاجة إلى مجموعة أخرى من العلوم والفنون ، إضافةً لما ذكرناه فيما سبق .
منها على سبيل المثال :
1ـ فن الإقناع
لا شك إنّ إقناع الآخرين برأي أو فكرةٍ أو معتقد لا يحدث اعتباطاً ، بل لذلك وسائل وأدوات ، بعضها فطريّة قد يحصل عليها بعض الناس هبةً من الله تعالى ، فيكون موهوباً وذا قدرة على إقناع الآخرين بهذه الموهبة الربّانية .
الصفحة (10)
وفي قبالة ذلك هناك طرق فنيّة ووسائل ؛ إمّا لزيادة نسبة الإقناع ، أو لتعليم الفاقد لهذه الموهبة بعض الوسائل والأساليب .
وهناك كتب تتحدّث عن هذا الفن ، فأين معاهدنا من هذا الفن وتدريسه لطلبتها ، وهل يعرف القائمون عليها شيئاً عنه أم لا ؟
2ـ فن الإلقاء
لا أحسب أنّ نجاح شخص ما في عملية الإلقاء الخطابي أو اللفظي ، أو بتعبير أخر ( توجيه الرسائل الإعلامية ) مسألة عادية متاحة لكل أحد إذا تركنا الموهبة جانباً .
فليس كلّ الخطباء يمتلك استعداداً وموهبة كبيرة في الإلقاء ، كما إنّ مَنْ يتوفّرون على هذه الموهبة يختلفون فيما بينهم نسبياً .
فمنهم مَنْ يمتلك ناصية هذا الفن فطرياً إلى درجة عالية ، وهناك مَنْ هو دونه من المستويات ، والمطلوب تطوير هذه المواهب فضلاً عن تعليم مَنْ لا يمتلك منها شيئاً .
ومعاهدنا لا تعير أيّ أهمية لهذا الفن ، بل ربّما يُفاجأ بعضهم بوجود كتب ، أو دراسات عن شيء كهذا .
3ـ النفوذ
وبغية زيادة التأثير في السامع لا بد أن يكون الخطيب نافذاً ومهيمناً على المستمع ؛ ليتعمّق تأثيره فيه ، وغير خافٍ إنّ للنفوذ آليات ، فما هي هذه آليات وكيف يتسنّى للطالب التوفّر عليها ؟
4ـ العلاقات العامة
وهي جزء من مباحث علم النفس الاجتماعي التي يجب التركيز عليها .
إنّ الخطيب عندما يذهب إلى بلدة ما ليمارس فيها الخطابة ، فلا شك إنّه سيمارس وظائف أخرى إلى جانب الخطابة .
والسؤال : هل التفتت معاهد الخطابة إلى هذه الوظائف وعدّة لها العدّة ؟
الخلاصة : أعود هنا لأختصر مكامن الخلل في المناهج الدراسية في معاهد ومدارس الخطابة وأوجزها بما يلي :
1ـ إنّ المواد الدراسية ومفردات المنهج الدراسي في هذه المعاهد لا يتجاوز المألوف تدريسه في الحوزة ، وإذا ما تجاوزها بشيء فإنّها لا تتجاوز إلاّ ما هو قريب منها إلى الأذهان التقليدية ، كالتاريخ والسيرة ، وعلوم القرآن والعقائد والأخلاق .
ولا أقول : إنّ هذه المواد ليس فيها الفائدة البتة ، بل أقول إنّ الطلبة الجيّدين قادرون على تحصيلها خارج نطاق الدرس ، ممّا يجعل بالتالي مقاعد الدراسة في معاهدنا مقتصرة على ذوي المستويات العلمية والثقافية الهابطة .
الصفحة (11)
2ـ إنّ هذه المناهج الدراسية أخذت بنظر اعتبارها النجاحات التي حققتها الأجيال السابقة ، ولم تلتفت إلى فارق عنصر الزمن والتقدّم العلمي والثقافي ، وتعقيدات وسائل الاتصال الحديثة وأساليبها المتنوعة .
3ـ إنّ غالب هذه العلوم تلقينية يُحشى بها رأس الطالب دون أن تحرّك فكره ، أو تنمّي فيه روح الإبداع ، أو تولّد لديه القدرة على الابتكار والتفنن على المستوى العملي والنظري .
4 ـ وجود الخلل التنظيمي المتمثّل بجمع الطالب الذكي مع البليد ، والقديم مع الجديد ، وممارس الخطابة لسنوات مع المبتدأ .
5 ـ عدم أخذها فن الخطابة منطلقاً وأساساً ؛ لوضع المناهج المطلوبة والمناسبة من خلال ملاحظة الفراغ الموجود فيها وسدّه بالمناسب من المواد الدراسية .
6ـ لا تقوم في وضع مناهجها على دراسات ميدانية ؛ لمعرفة حاجة الخطيب الفعلية للمواد الدراسية التي يحتاج لها فعلاً .
2ـ الأساتذة
العائق الآخر الذي يتسبب في فشل معاهد الخطابة ، وعدم تحقق المرجو منها بتخريج مجموعة من الخطباء الأكفّاء الذين يسهمون في رفد المنبر الحسيني بالتنوع الثقافي ، والارتقاء به إلى مستوى أفضل ممّا هو عليه الآن من ناحيتي الشكل والمضمون ، أو توسعة تأثيره في الجمهور وإقبال الناس عليه ، أو غير ذلك من الأهداف التي وجد من أجلها المنبر الحسيني ، وسعى أهل البيت (عليه السلام) لترسيخه وتأصيل دوره في حياة الأمّة ، هم الكادر التدريسي الذي يقوم بالتدريس في هذه المدارس والمعاهد ، وهؤلاء ثلاثة أصناف :
أـ الصنف الأول : مجموعة من العلماء وأهل الفضل ، وهم على درجة عالية من العلم والفضل والفقاهة ، وربّما يكون لبعضهم ذراع طويلة في التفسير أو الأخلاق أو غيرهما من أبواب العلم المختلفة .
ووجود أمثال هؤلاء العلماء ضمن الكادر التدريسي في هذه المعاهد والمدارس يكسبها سمعة طيبة ، ويرفع من درجة ثقة الطلاب المنتمين إليها بها .
وهؤلاء بلا شك لهم خبرة جيده في كثير من المجالات العلمية والثقافية ، بحسب الحقول العلمية التي يتقنونها .
إلاّ إنّ المشكلة تكمن في إنّ هؤلاء الأجلاّء لا يعرفون ماذا يريد الخطيب ، وأي مادة يفضّل ، وإلى أي شيء يطمح ؟ وما هي طبيعة المعلومات التي يحتاج إليها ؟
لذا تتبعثر جهودهم الجبارة للأسف في كثير من الأحيان وتذهب إلى غير وجهتها ؛ إمّا لعدم حاجة الطلبة لمثل هذه المواد والمعلومات التي يلقونها على مسامعهم ، أو لعجزهم عن فهم واستيعاب مراداتهم الشريفة .
الصفحة (12)
ب ـ الصنف الثاني : وهم مجموعة من الأساتذة الأكاديميين الماهرين في تخصّصاتهم ، لكن المشكلة التي يواجهونها هي نفس ما يواجهه العلماء ، كما إنّ عدداً منهم ليس بمستوى الطموح ، ويشهد لهذا العديد من الطلبة الذين حضروا دروسهم .
على إنّ وضع هذه المعاهد بيضها كلّه في سلة الأكاديميين لا يخلو من أخطار على المستوى القريب والبعيد . أهونها ظهور انطباع عجز الطالب الحوزوي عن التدريس ، وضعف مستوياتهم العلمية ، وبالتالي تابعية هذه المعاهد للأكاديميات ، واضمحلال الصفة الحوزوية عنها .
ج ـ الصنف الثالث : طلبة العلوم الدينية من الخطباء وغيرهم .
يتصوّر البعض إنّ مشاهير الخطباء هم الأكثر قدرة على التدريس في معاهد الخطابة ، وغرّ هؤلاء الذين يحملون هذا التصوّر الشهرة التي حققها أولئك الخطباء .
ولكن الواقع غير ذلك ، وتشهد التجارب السابقة إنّ هؤلاء الخطباء لم يوفّقوا في إنشاء معهد ، أو مدرسة للخطابة تتميّز بمواصفات جيدة ؛ لا من الناحية الإدارية والتنظيمية ، ولا من ناحية المناهج المعدّة لتدريس الطلاب ، ولا حتى من ناحية محض التدريس فحسب .
فأغلب الأساتذة منهم يختارون على أساس المجاملات التعارفية ، وعلى أساس السمعة والشهرة بعيداً عن الموضوعية في هذا المجال .
فأغلبهم لم يدرّس فنون الخطابة وأساليبها ، ولا الإلقاء ولا الإقناع ، ولا يعرف كذلك شيء عن العلوم الإنسانية ، كعلم النفس وعلم الاجتماع أو غيرها ، ولا يعرفون شيئاً عن مناهج البحث .
وإن عرف بعضهم شيئاً من هذا القبيل فإنّه لا يعيره أيّ أهمية ؛ للاعتقاد السائد ، والطابع الغالب إنّ الخطيب ليس إلاّ مجرد ( صوت ) ، إن قدر على الأداء الشعري الملحون بشكل يهيج المشاعر ، فقد أصبح خطيباً بنظرهم .
وهذا للأسف هو سبب ضمور خطابتنا وتراجعها ، والحديث في هذا السياق ذو شجون ، وقد خصّصت لهذا الموضوع دراسة سبق نشرها تحت عنوان (تطوير المنبر الحسيني مسؤولية مَنْ) يمكن مراجعتها لمَنْ شاء .
وعلى الإجمال : وبصراحة ، فإنّ هؤلاء لا يختلفون عن طلبتهم إلاّ قليلاً ، وإذا كان هذا حال مشاهير الخطباء فما ظنّك بغيرهم ممّن لا علاقة لهم بالخطابة من طلبة العلوم الدينية .
فالنجاح العملي شيء ، وتحويل التجربة العملية إلى نظرية شيء آخر ، فليس كلّ كهربائي حاذق يصلح لأن يكون أستاذاً في الجامعة التكنولوجية أو المعاهد الفنية .
وإن تصورنا إمكانية ذلك في الخطابة ، فما هو إلاّ لجهلنا لأصول الخطابة وقواعدها ، أو لاستسهال القضية كما مرّ ؛ لاعتبار الخطيب مجرد ناعية يستدرّ الدموع فحسب .
الصفحة (13)