أوّلاً : لم يحصل إجماع على ذلك ، ولم تتفق الكلمة عليه : أمّا عندنا ، فالروايات المعتبرة خالية عنه .
وأمّا عند أهل السنّة فمختلفة : ففي بعضها : أنّها ولدت له زيداً (1) ، وفي بعضها الآخر : زيداً ورقية (2) ، وفي رواية : زيداً وفاطمة (3) ، مضافاً إلى الاختلاف في موتها مع ابنها ، وهل أنّه بقي إلى زمن طويل أم لا ؟
وثانياً : لم ينفرد المسعوديّ بذلك ، بل ذكر أبو محمّد النوبختي في كتاب الإمامة : ( أنّ عمر مات عنها وهي صغيرة ، ولم يدخل بها ) (4) ، وذكر ذلك أيضاً الزرقانيّ المالكيّ في شرح المواهب اللدنية (5) .
وأمّا أنّ هذا الزواج يدلّ على أنّ عمر كان مؤمناً وصادقاً عند الإمام علي (عليه السلام) ، إذ لو كان مشركاً كيف يزوّجه ابنته ؟ وقد قال تعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ } (6) ، فيرد عليه :
إنّ النكاح إنّما هو على ظاهر الإسلام ، الذي هو الشهادتان ، والصلاة إلى الكعبة ، والإقرار بجملة الشريعة، فالنكاح لا يدلّنا على درجة إيمان الإنسان ، ولا يدلّ إلاّ على كون الشخص مسلماً .
ثمّ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان محتاجاً إلى التأليف ، وحقن الدماء ، ورأى أنّه لو لم يتمّ هذا الزواج سبّب فساداً في الدين والدنيا ، وإن تمّ أعقب صلاحاً في الدين والدنيا ، فأجاب ضرورة ، فالضرورة تشرّع إظهار كلمة الكفر ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (7) فكيف بما دونه .
____________
1- البداية والنهاية 5 / 330 .
2- تركة النبيّ : 95 ، الرياض النضرة 2 / 364 .
3- أُنظر : المعارف : 107 .
4- بحار الأنوار 42 / 91 .
5- شرح المواهب اللدنية 7 / 9 .
6- البقرة : 221 .
7- النحل : 105 .
|
الصفحة 128 |
|
وأنّ النبيّ لوط قال لقومه : { هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } (1) ، فدعاهم إلى العقد عليهنّ ، وهم كفّار ضلال ، قد أذن الله تعالى في هلاكهم ، وليس هذا إلاّ للضرورة المدعاة إلى ذلك .
أمّا الآية الكريمة ، فهي لا تدلّ على مدّعاهم ، لأنّها تمنع التزاوج مع الكفّار والمشركين ، الذين يعادون الإسلام ، ويعبدون الأوثان ، ولا تشمل من كان على الإسلام ، كيف وقد كان عبد الله بن أبي سلول وغيره من المنافقين يناكحون ، ويتزاوجون في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لإظهار الشهادتين ، والانقياد للملّة ، وقد أقرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذلك ولم يمنعه .
ونحن كما قلنا : نعترف بإسلام القوم ، ولا نحكم إلاّ بكفر النواصب والغلاة ، وما ورد عندنا في كفر غيرهما ، فإنّما يُنزّل على الكفر اللغويّ ، لا الكفر الاصطلاحي الموجب للارتداد ، والخروج عن الملّة .
وأمّا أنّ هذا الزواج يدلّ على أنّ العلاقة بين علي وعمر كانت علاقة مودّة ، فنقول : ذكرنا أنّ ما صحّ عندنا في أمر هذا الزواج ، يدلّ على أنّه تمّ بالإكراه وتهديد ومراجعة ، وما ورد عند أهل السنّة لا يمكنهم الالتزام بدلالته ، حيث يخدش في الخليفة ، ويجعله إنساناً فاسقاً متهوراً !!
مضافاً إلى ما ورد من قول عمر ، لما امتنع الإمام علي (عليه السلام) لصغرها : ( إنّك والله ما بك ذلك ، ولكن قد علمنا ما بك ) (2) .
وقوله : ( والله ما ذلك بك ، ولكن أردت منعي ، فإن كانت كما تقول فأبعثها إليّ ... ) (3) .
وأيضاً ، فإنّ عمر لمّا بلغه منع عقيل عن ذلك قال : ( ويح عقيل ، سفيه
____________
1- هود : 78 .
2- الطبقات الكبرى 8 / 464 .
3- ذخائر العقبى : 168 .
|
الصفحة 129 |
|
أحمق ) (1) .
فأيّ توادد وعلاقة مع هذا ؟ ولو كان كذلك ما تأخّر (عليه السلام) عن إجابة دعواه ، فقد قال عقبة بن عامر الجهنيّ : ( خطب عمر بن الخطّاب إلى علي بن أبي طالب ابنته من فاطمة ، وأكثر تردّده إليه ... ) (2) .
أو ما قاله عمر : ( أيّها الناس ، إنّه والله ما حملني على الإلحاح على علي بن أبي طالب في ابنته ، إلاّ إنّي سمعت رسول الله ... ) (3) .
ثمّ إنّ مجرّد التناكح لا يدلّ على أيّ شيء ، وأيّ علاقة بين العوائل ، كيف وقد عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أُمّ المؤمنين أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وهي في الحبشة ، وكان أبوها آنذاك رأس المشركين المتآمرين على الإسلام والمسلمين؟ فهل هذا يدلّ على شيء عندكم ؟ كما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوّج ابنته قبل البعثة ـ على رأي أهل السنّة ـ من كافرين يعبدان الأصنام : عتبة بن أبي لهب ، وأبو العاص بن الربيع ، ولم يكن (صلى الله عليه وآله) في حال من الأحوال موالياً لأهل الكفر ، فقد زوّج مَنْ تبرأ من دينه .
وإنّ الإمام علي (عليه السلام) رغم اعتقاده بأحقيقته ومظلوميته في أمر الخلافة ـ كما كان يبيّنه مراراً ـ لكنّه ترك المنازعة مراعاة لمصلحة المسلمين ، وكان يقول : ( لأسلِمَنّ ما سلمت أُمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ) (4) .
فأصبح (عليه السلام) بعد اتخاذه هذه السياسة الحكيمة ، هو المعتمد والمستشار عند القوم في المسائل المعقّدة العلميّة والسياسيّة ، وهذا ما أدّى إلى توفّر أرضية إيجابية جيّدة عند الناس لصالحه (عليه السلام) ، وكلّما تقدّم الزمان زادت هذه الأرضية .
____________
1- المعجم الكبير 3 / 45 .
2- تاريخ بغداد 6 / 180 .
3- مناقب الإمام علي بن أبي طالب : 135 .
4- شرح نهج البلاغة 6 / 166 .
|
الصفحة 130 |
|
هذا بالإضافة إلى نشاط أنصاره (عليه السلام) في التحرّك نحو تبيين موقعه السامي ، فلمّا رأى عمر بن الخطّاب ذلك ، حاول إخماد هذه البذرة بطرق مختلفة ، مثلاً : ولّى سلمان على المدائن ، وبدأ يمدح عليّاً أمام الخاصّ والعام ، حتّى أنّ ابن الدمشقي روى في جواهر المطالب : ( أنّ رجلاً أهان عليّاً عند عمر ، فنهض عمر من مجلسه ، وأخذ بتلابيبه حتّى شاله من الأرض ، ثمّ قال : أتدري من صغّرت ) ؟ (1) .
وكذلك بدأ بالتقرّب منه ، فخطب ابنته الصبية أُمّ كلثوم ، وهو شيخ كبير ، واظهر أنّه لا يريد ما يتصوّرون ، بل يريد الانتساب فقط ، وكذلك يحدّثنا التاريخ أنّ عمر استوهب أحد أولاد علي (عليه السلام) فسمّاه باسمه ( عمر ) ، ووهب له غلاماً سمّي مورقاً ... (2) .
فهذه الأُمور كلّها كانت خطّة وتدبير سياسي من قبل الخليفة الثاني ، والغرض منها امتصاص المعارضة وتخميدها ، والتظاهر أمام الناس بحسن الصلة ، والتعامل فيما بينهم ، ومن ثَمّ إبعاد الإمام علي (عليه السلام) عن دفّة الحكم ، وسلبه آليات المعارضة ... .
وإلاّ فلو كان الخليفة صادقاً ، فلماذا استشاط غضباً لمّا تحدّث عبد الرحمن ابن عوف ـ وهم في منى قبيل مقتل الخليفة ـ عن رجل ، قال : ( لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ، فغضب عمر ، وقال : إنّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم . فمنعه عبد الرحمن ، وأشار عليه أن يتكلّم في المدينة ، فلمّا قدم المدينة صعد المنبر ، وقال فيما قال : ثمّ أنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلاناً ... ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ، ولا
____________
1- جواهر المطالب 1 / 86 .
2- تاريخ مدينة دمشق 45 / 304 .
|
الصفحة 131 |
|
الذي بايعه ، تغرّة أن يقتلا ) (1) .
وقد ذكر لنا بعض شرّاح الحديث : أمثال ابن حجر العسقلانيّ في مقدّمة فتح الباري عند شرحه للمبهمات ، وكذلك القسطلانيّ في إرشاد الساري : أنّ القائل هو الزبير ، قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً .
والغرض من هذا التطويل ، إنّما هو تبيين زيف مدّعى القوم في ترسيم صورة وهمية ، وبزعمهم ودّية بين القوم وبين الإمام علي (عليه السلام) ، فأيّ صلة ، وأيّ علاقة ودّية بعد هذا يا أخي ؟!
وأمّا استدلال بعض فقهاء الشيعة بهذا الزواج على جواز نكاح الهاشميّة من غير الهاشميّ ، كما قال ذلك الشهيد الثاني في المسالك ، ممّا جعل الخصم يحتجّ به في المقام ، فيرد عليه :
أنّ الشهيد الثاني كان في صدد بيان حكم شرعيّ فقهيّ بحت في النكاح ـ كما سنبيّن ذلك ـ ولم يكن بصدد إظهار رأي كلامي حول هذا الزواج ، لا سلباً ولا إيجاباً ، بل إنّما اتخذه كأصل موضوعيّ ، واستشهد به .
ذكر المحقّق الحلّيّ في الشرائع في كتاب النكاح : أنّ الكفاءة شرط في النكاح ، وهي التساوي في الإسلام ، فعقّب على ذلك قائلاً : ويجوز انكاح الحرّة العبد ... والهاشميّة غير الهاشميّ ، وبالعكس .
فشرح الشهيد الثاني كلامه قائلاً : لمّا تقرّر أنّ الكفاءة المعتبرة في التناكح هي الإسلام أو الإيمان ، ولم يجعل الحرّية وغيرها من صفات الكمال شرطاً ، صحّ تزويج العبد للحرّة ، والعربية للعجميّ ، والهاشميّة لغيره ، وبالعكس ، إلاّ في نكاح الحرّ الأمة ، ففيه ما مرّ .
وكذا أرباب الصنائع الدنية ـ كالكنّاس والحجام ـ بذوات الدين من العلم والصلاح ، والبيوتات من التجّار وغيرهم ، لعموم الأدلّة الدالّة على تكافؤ المؤمنين بعضهم لبعض ... ، وزوّج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ابنته عثمان ، وزوّج ابنته زينب
____________
1- صحيح البخاريّ 8 / 26 .
|
الصفحة 132 |
|
بأبي العاص بن الربيع ، وليسا من بني هاشم ، وكذلك زوّج علي (عليه السلام) ابنته أُمّ كلثوم من عمر ... وخالف ابن الجنيد منّا ... .
فهذا الكلام كما ترى ، رأي فقهيّ بحت ، لا ربط له بمدّعى القوم ، ولا يثبت إلاّ أصل الزواج دون كيفيّته ، وما حدث حوله .
وأمّا القول بأنّ عليّاً ذاك الشجاع البطل الغيور ، فكيف يكره ويجبر على تزويج ابنته ؟ فنقول : إنّ الشجاعة شيء ، ورعاية المصلحة العامّة شيء آخر ، فقد ورد في صحيحة هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : ( لمّا خطب إليه ، قال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّها صبية ، قال : فلقي العباس ، فقال له : ما لي ؟ أبي بأس ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردّني ، أما والله لأعورنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلاّ هدّمتها ، ولأقيمنّ عليه شاهدين بأنّه سرق ، ولأقطعنّ يمينه ، فأتاه العباس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه ) (1) .
فالعاقل يقدّم هنا الأهمّ على المهمّ ، فلو امتنع الإمام (عليه السلام) سبّب امتناعه مفسدة ، وإن وافق مكرهاً لم يكن فيه جور إلاّ عليه خاصّة ، مع سلامة أُمور المسلمين ، فقدّم هذا على ذلك ، وإلاّ فهو (عليه السلام) ذاك الغيور الشجاع الذي لا يخاف في الله لومة لائم ، وهو الذي لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه ، وهو الشاهر سيفه لله وفي الله ، كما حدث في قتاله الناكثين والمارقين والقاسطين .
وأمّا اعتراضهم علينا بقولهم : لماذا يترك علي الأمر لعمّه مع وجوده ؟ وهل هناك فرق بين أن يزوّجها علي مباشرة ، وبين أن يتولّى العباس ذلك ؟ فنقول :
إنّه (عليه السلام) فعل هذا ليكون أبلغ في إظهار الكراهة ، وليثار هذا السؤال عند الناس : لماذا لم يحضر عليّاً ؟ ولماذا ترك أمرها لعمّه ؟ هل حدث شيء ؟ وهذا الأسلوب هو أحد آليّات الكفاح ، وقد سبق أن استخدمته الصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، حيث أوصت أن تُدفن ليلاً ، ويُخفى قبرها ، ليبقى هذا السؤال قائماً
____________
1- الكافي 5 / 346 .
|
الصفحة 133 |
|
أبد الآبدين : أين قبر بنت الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟
وأمّا قولهم : إنّ ما روي عند الشيعة في أمر هذا الزواج ، من أنّ ذلك ( فرج غصبناه ) يردّ عليه : أنّها جملة مخجلة تخدش الحياء ، ولا تخرج من إنسان مهذّب ، وأنّها تعني أنّ الزواج لم يتمّ بأسلوب شرعيّ ، ولم يتمّ بقبول والدها ووليّها الشرعيّ ، ولا بقبولها أيضاً ، بل تمّ الأمر استبداداً وجبراً ، فنقول :
لا نعلم السبب في تعليق القائل : إنّها جملة مخجلة ، هل أقلقته تلك الكلمة ، وقد قال الله تعالى في مريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } (1) .
وقال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } (2) .
فظهر : أنّ مجرّد استعمال هذه الكلمة لبيان أمر لا قبح فيه .
وهلاّ كان ما فعله خليفة المسلمين بالصبية العفيفة التي لا تحلّ له ـ من الأخذ بالذراع ، أو الكشف عن الساق أمام الناس ، حتّى ولو كانت زوجته ـ مخجلاً ؟!
وهل يصدر هذا العمل من إنسان مهذّب ـ على حدّ تعبير القائل ـ ؟!
ثمّ إنّ الزواج تمّ بأسلوب شرعيّ ، ولم يقل أحد ـ والعياذ بالله ـ أنّه تمّ بأسلوب غير شرعيّ ، غاية ما هناك أنّ عليّاً (عليه السلام) كان مكرهاً ، وأوكل الأمر إلى عمّه العباس حفظاً لمصلحة الأُمّة الإسلاميّة . وإنّ الإكراه يحلّ معه كلّ محرّم ، ويزول معه كلّ اختيار ، فيجوز معه إظهار كلمة الكفر ، ويحلّ معه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات ، مع حرمته حال الاختيار ، فقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ( وضع الله عن أُمّتي الخطأ والنسيان ، وما
____________
1- التحريم : 12 .
2- النور : 31 .
|
الصفحة 134 |
|
استكرهوا عليه ) (1) .
( مختار . الجزائر . 37 سنة . ليسانس حقوق )