جائزة للأدلّة الأربعة :
السؤال : ما معنى كلمة التقيّة ؟ هل تعني الكذب ؟
فقد جاء في كتاب أُصول الكافي للكليني : عن أبي عمر الأعجمي قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : ( يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ... ) ، فما المقصود بالتقيّة ؟
أرجوكم أرشدوني ، فقد تزايدت صفحات المتهجّمين على إخواننا الشيعة ـ أنا سنّي أحبّ الشيعة ، لأنّكم تحبّون أهل البيت ـ ومع السلامة .
الجواب : إنّ التقيّة رخصة شرعيّة في كتاب الله ، وسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، تعمل في موارد الخوف والخطر والضرر .
وقد جرت سيرة الأنبياء والأولياء والمؤمنين على العمل بها ، وقد استدلّ لجوازها بالأدلّة الأربعة :
الدليل الأوّل : القرآن :
قال تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } (1) .
فنجد مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه خوفاً من الضرر .
وقال تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
____________
1- غافر : 28 .
|
الصفحة 185 |
|
عَظِيمٌ } (1) .
فنجد الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر يعمل بالتقيّة ، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) يمضي عمله ، ويجوّز له العمل بها .
وقد اشتهر في كتب التفسير : أنّ هذه الآية نزلت في عمّار بن ياسر الذي عُذّب في الله ، حتّى ذكر آلهة المشركين ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( إن عادوا فعد ) (2) .
وهناك آيات أُخرى دالّة بالصراحة ، أو بالضمن على التقيّة ، وهن :
1ـ { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ } (3) .
2ـ الكهف : 19 .
3ـ الأنعام : 119 .
4ـ البقرة : 195 .
5ـ الحالجواب : 78 .
6ـ فصّلت : 34 .
الدليل الثاني : السنّة :
إنّ الروايات الدالّة على جواز التقيّة كثيرة ، منها :
1ـ سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن التقيّة ؟ فقال : ( التقيّة من دين الله ) ،
____________
1- النحل : 106 .
2- المستدرك 2 / 357 ، السنن الكبرى للبيهقيّ 8 / 208 ، فتح الباري 12 / 278 ، شرح نهج البلاغة 10 / 102 ، جامع البيان 14 / 237 ، أحكام القرآن للجصّاص 2 / 13 و 3 / 249 ، الجامع لأحكام القرآن 10 / 180 ، تفسير القرآن العظيم 2 / 609 ، الدرّ المنثور 4 / 132 ، تفسير الثعالبي 3 / 443 ، فتح القدير 3 / 198 ، الطبقات الكبرى 3 / 249 ، تاريخ مدينة دمشق 43 / 373 ، سير أعلام النبلاء 1 / 411 .
3- آل عمران : 28 .
|
الصفحة 186 |
|
قلت : من دين الله ؟
قال : ( إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }، والله ما كانوا سرقوا شيئاً ، ولقد قال إبراهيم : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، والله ما كان سقيماً ) (1) .
وهناك أحاديث كثيرة بهذا المضمون .
2ـ أخرج البخاريّ من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، أنّ عائشة أخبرته ، أنّه استأذن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) رجل قال (صلى الله عليه وآله) : ( ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ) ـ أو بئس أخو العشيرة ـ فلمّا دخل ألان له الكلام .
فقلت له : يا رسول الله ، قلت ما قلت ، ثمّ ألِنت له في القول ؟
فقال : ( أي عائشة ، إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه ) (2) .الدليل الثالث : الإجماع :
اتّفق جميع المسلمين وبلا استثناء على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يدعو الناس سرّاً إلى الإسلام ، مدّة ثلاث سنين من نزول الوحي ، فلو كانت التقيّة غير مشروعة لكونها نفاقاً ، لما مرّت الدعوة إلى الدين الحنيف بهذا العمر من التستّر والكتمان .
وقد نقل الإجماع ـ على أنّ التقيّة مشروعة وجائزة ـ جمهرة من علماء السنّة ، منهم : القرطبيّ المالكيّ (3) ، ابن كثير الشافعيّ (4) .
الدليل الرابع : العقل أو العقلاء :
إنّ التقيّة موافقة لمقتضاه ، فإنّ جميع الناس يستعملونها في حالات الخطر والضرر ، من دون أن يسمّوها تقيّة .
____________
1- الكافي 2 / 217 ، المحاسن 1 / 258 .
2- صحيح البخاريّ 7 / 102 .
3- الجامع لأحكام القرآن 10 / 182 .
4- تفسير القرآن العظيم 2 / 609 .
|
الصفحة 187 |
|
الفتاوى والأقوال :
وأمّا فقه المذاهب الإسلاميّة ، فقد ذهبوا إلى جوازها فتجد :
1ـ الإمام مالك يقول بعدم وقوع طلاق المكره على نحو التقيّة ، محتجّاً بذلك بقول الصحابيّ ابن مسعود : ( ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به ) (1) .
ولاشكّ أنّ الاحتجاج بهذا القول ، يعني جواز إظهار خلاف الواقع في القول عند الإكراه ، ولو تمّ أي الإكراه بسوطين .
2ـ ابن عبد البرّ المالكيّ (2) حيث أفتى بعدم وقوع عتق المكره وطلاقه ، ولو كانت التقيّة لا تجوز في العتق والطلاق عند الإكراه من ظالم عليهما لقال بوقوعهما .
وغيرهما كثير (3) .
( علي حسين . السعودية . سنّي )
السؤال : الذي أعرفه ويعرفه الكثيرون أنّ أُصول مذهبكم تقوم على التقيّة .
الجواب : إنّ مقتضى الإنسانية : أن يكون الإنسان ذا إنصاف في الحكم على من يعتقد غير عقيدته ، وأن يتفحّص أوّلاً ، ويقرأ كتب علماء المتخاصمين ثمّ يحكم ، لا أن يتكلّم بجهل وعدم دراية .
وعليه نوصيك بمطالعة كتب الشيعة أوّلاً ، ثمّ تحكيم العقل ، فإنّ التقيّة أمر
____________
1- المدونة الكبرى 3 / 29 .
2- أُنظر : الكافي في فقه أهل المدينة : 503 .
3- أُنظر : تفسير ابن جزي : 366 ، الجامع لأحكام القرآن 10 / 182 ، المبسوط للسرخسيّ 24 / 48 و 51 و 77 و 152 ، فتح الباري 12 / 278 ، المجموع 18 / 3 ، المغني لابن قدامة 8 / 262 .
|
الصفحة 188 |
|
فطريّ ، تستعملها أنت وجميع البشرية ، من دون أن تعرف أنّها تقيّة .
فالتقيّة لا تستعمل إلاّ في حالات الخوف الشديد ، حيث يضطرّ الإنسان إلى إظهار غير ما يعتقد ، وكتمان ما يعتقد .
هذا ، وفي القرآن الكريم ، وفي السنّة النبويّة ، ما هو صريح في التقيّة .
ثمّ لم نعرف مقصودك من أنّ أُصول مذهبكم تقوم على التقيّة ، إذ أنّ أُصول المذهب الشيعيّ هي الأُصول والأركان الأساسيّة للدين الإسلاميّ ، والتي تقوم على أدلّة مبرهنة وواضحة ، وإنّما التقيّة حكم من أحكامها ولها أدلّتها ، ولكن ليست هي من أُصول المذهب حتّى تزعم أنّ الدين والعقيدة تقوم على أساسها .
( جعفر . الكويت . ... )
لا تقيّة في النبيذ والمسح على الخفّين :
السؤال : قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : ( والتقيّة في كلّ شيء إلاّ في النبيذ ، والمسح على الخفّين ) (1) .
أرجو منكم شرح العبارة السابقة ، وما الحكمة من ذلك ؟ وشكراً لكم على جهودكم .
الجواب : قد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله : ( والتقيّة في كلّ شيء ) إلى أنّ التقيّة غير مختصّة بالأحكام والأعمال الدينية ، بل تكون في الأفعال العرفية أيضاً ، مثل الخلطة بهم ، وعيادة مرضاهم ، ونحوها .
وأمّا عدم التقيّة في شرب النبيذ ، ومسح الخفّين ، هو لعدم وقوع الإنكار فيهما من العامّة غالباً ، لأنّ أكثرهم يحرّمون المسكر ، ولا ينكرون خلع الخفّ ، وغسل الرجلين ، بل الغسل أولى منه ، نعم ، إذا قدّر خوف ضرر نادراً
____________
1- الكافي 2 / 217 .
|
الصفحة 189 |
|
جازت التقيّة .
وجاء في شرح أُصول الكافي : ( وقال الشيخ الطوسيّ : لا تقيّة فيهما لأجل مشقّة يسيرة لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال ، وإن بلغت أحدهما جازت .
ويقرب منه قول من قال : لا ينبغي الاتقاء فيهما ، وإن حصل ضرر عظيم ، ما لم يؤدّ إلى الهلاك .
وقيل : عدم الاتقاء مختصّ بالمعصوم (عليه السلام) ، باعتبار أنّ الاتقاء لا ينفعه ، لكون لا حكم فيها معروفاً من مذهبه ) (1) .
( ... . ... . ... )
السؤال : ورد في أحد الأخبار : أنّ معاوية أتى باثنين ، فأمرهما بسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ففعل أحدهما فأطلقه معاوية ، وامتنع الآخر فقتله ، فلمّا سمع بذلك الإمام علي (عليه السلام) قال ما معناه : ( أمّا الأوّل فبرخصة الله أخذ ... ) ، فهل معنى هذا أنّه يجوز ترك العمل بالتقيّة ؟
وهل توجد تقيّة اسمها تقيّة تخييرية ؟
الجواب : هذه القصّة مروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في رجلين عُرض عليهما البراءة منه (صلى الله عليه وآله)، فأبى أحدهما ، ووافق الآخر تقيّة ، إلى آخر القصّة .
وطبيعي أنّ التقيّة إذا اجتمعت شروطها لاشكّ في صحّتها بل وجوبها ، كما حدّث القرآن الكريم بقوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } (2) ، وقوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } (3) .
فالتقيّة هي أسلوب في التحفّظ على الحقّ ، حتّى لا يلزم إلحاق الضرر
____________
1- شرح أُصول الكافي 9 / 119 .
2- آل عمران : 28 .
3- النحل : 105 .
|
الصفحة 190 |
|
بالحقّ نفسه ، أو بأهل الحقّ إذا خيف من إظهاره ، ما لم يُخش على نفس الحقّ من الضياع ، فإذا تعرّض نفس الحقّ إلى الضياع بسبب التقيّة فلا تقيّة فيه ، وهذا ما يعبّر عنه بحفظ بيضة الإسلام ، أو بيضة الحقّ .
ثمّ إنّ الإنسان يكون في بعض المواقع مخيّراً بين التقيّة وعدمها ، وذلك من خلال موازنة المصالح والمفاسد ، فأحياناً تكون التقيّة واجبة ، وأحياناً محرّمة، وأحياناً يتخيّر الإنسان ، والظاهر من الرواية أنّ الموقع كان موقع تخيير ، وهذا هو معنى التقيّة التخييرية .
هذا بناءً على صحّة الرواية ، والله أعلم .
( محمّد إسماعيل قاسم . الكويت . 16 سنة . طالب )