الحديث الثالث : أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّار بن ياسر بالتقية :
وهو ما أشرنا إليه في قصة عمار وأصحابه الذين أظهروا كلمة الكفر بلسانهم وقلوبهم مطمئنة بالايمان .
فقد روى الطبري بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، أنه قال : (أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالايمان ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فان عادوا فعد » (1).
وفي تفسير الرازي أنه قيل بشأن عمار : (يا رسول الله ! إنّ عماراً كفر ! فقال : « كلاّ ، إنّ عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الاِيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لكَ ؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (2).
الحديث الرابع : النهي عن التعرّض لما لا يطاق :
ويدل عليه ما أخرجه الترمذي ـ وحسّنه ـ بسنده عن حذيفة قال : (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق » (3).
وفي مسند أحمد بلفظ : « لا ينبغي لمسلم... » (4).
وأخرجه في كشف الاستار عن ابن عمر (5).
____________
1) تفسير الطبري 14 : 122 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) سنن الترمذي 4 : 522 | 2254 باب رقم 67 بدون عنوان .
4) مسند أحمد 6 : 562 | 22934 والطبعة الاُولى 5 : 405 .
5) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1404 هـ .
( 63 )
ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقية أوضح من أن يحتاج إلى بيان ؛ لاَنّ ما يخافه المؤمن من تهديد ووعيد الكافر أو المسلم الظالم ؛ لا شكّ أنه يخلق شعوراً لديه بامتهان كرامته لو امتنع عن تنفيذ ما أُريد منه ، لاَنّه معرّض ـ في هذه الحال ـ إلى بلاء ، فان عزم على اقتحامه وهو لا يطيقه فقد أذلّ نفسه ، هذا مع أن بامكانه أن يخرج من هذا البلاء بالتقية شريطة أن لا تبلغ الدم ، لاَنّها شُرِّعت لحقنه .
قال الاِمام الباقر عليه السلام : « إنّما جُعِلَت التقيّة لِيُحقَن بها الدمُ ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (1) .
الحديث الخامس : في تقية المؤمن الذي كان يخفي إيمانه وقتله المقداد :
وهو ما رواه الطبراني ، بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فيها المقداد بن الاَسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، والله ليذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : يا رسول الله ! إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلاّ الله فقتله المقداد ؟ فقال : « ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، فكيف لك بـ (لا إله إلاّ الله) ؟ قال : فأنزل الله : ( يا أيُّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن أُلقي اليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا * فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 | 16 كتاب الايمان والكفر ، باب التقية . والمحاسن | البرقي : 259 | 310 كتاب مصابيح الظلم ، باب التقية . والظاهر : (إذا بلغت) وقد يكون في الكلام حذف ، والتقدير : (فإذا بلغ أمرها الدم) ، فلاحظ .
( 64 )
عليكم ) (1) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم من الكفار فقتلته ، وكذلك كنت أنت تخفي ايمانك بمكة » (2).
وقصة نزول هذه الآية أوردها البخاري مختصرة في صحيحه بسنده عن عطاء ، عن ابن عباس أيضاً ، ولم يذكر فيها المقداد بل جعل القاتل هو جماعة المسلمين (3).
وأخرجها بلفظ الطبراني الحارث بن أبي اُسامة في مسنده كما في المطالب العالية (4)، كما أخرجها الطبري في تفسيره من طريق وكيع (5).
وقد عرفت أن في هذا الحديث تصريحين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما : ان المقتول كان مؤمناً يكتم ايمانه خوفاً من الكفار ، وهذا هو عين التقية .
والآخر : إنّ القاتل ـ وهو المقداد ـ كان حاله بمكة كحال المقتول .
الحديث السادس : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة وابن علاط السلمي بالتقية :
وهو حديث البخاري الذي أخرجه بسنده عن جابر بن عبدالله الاَنصاري رحمه الله قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَنْ لكعب بن الاَشرف فإنّه قد آذى اللهَ ورسولَهُ ؟ فقام محمد بن مَسْلَمَةَ ، فقال : يا رسول الله ! أتُحبُّ أنْ أقتُلَهُ ؟ قال : نعم . قال فأذنْ لي أنْ أقول شيئاً . قال : قل .
____________
1) سورة النساء : 4 | 94 .
2) المعجم الكبير | الطبراني 12 : 24 ـ 25 | 12379 .
3) صحيح البخاري 6 : 59 ، كتاب التفسير ، باب سورة النساء .
4) المطالب العالية | ابن حجر 3 : 317 | 3577 في باب تفسير سورة النساء الآية : 94 .
5) تفسير الطبري 5 : 142 ، في تفسير الآية 94 من سورة النساء .
( 65 )
فأتاه محمد بن مسلمة ، فقال : إنّ هذا الرجلَ قد سألنا صدقةً وإنّه قد عنانا ، وإني قد أتيتك استسلفك.. الخبر) (1).
ثم ذكر البخاري تمام القصة التي انتهت بقتل ابن الاَشرف على يد محمد بن مسلمة وجماعته من الصحابة الذين أرسلوا معه .
وفي أحكام القرآن لابن العربي ، أن الصحابة الذين كلّفوا بقتل ذلك الخبيث ، وكان محمد بن مسلمة من جملتهم ، أنهم قالوا : (يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك ؟) فأذن لهم (2).
ولا يخفى أن ما طُلب من الاِذن ، إنما هو لاَجل الحصول على ترخيص نبوي بالقول المخالف للحق بغية الوصول إلى مصلحة إسلامية لا تتحقق إلاّ من هذا الطريق ، فجاء الاِذن الشريف بأن يقولوا ما يشاؤون بهدف الوصول إلى تلك المصلحة .
ومنه يعلم صحة ما مرّ سابقاً بأن التقية كما قد تكون بدافع الاِكراه ، قد تكون أيضاً بغيره ، كما لو كان الدافع اليها غاية نبيلة ومصلحة عالية .
ونظير هذا الحديث بالضبط ما رواه أحمد في مسنده ، والطبري ، وعبدالرزاق ، وأبو يعلى ، والطبراني وغيرهم من حديث الصحابي الحجاج بن علاط السلمي وقصته بعد فتح خيبر ، إذ استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أن يذهب إلى مكة لجمع أمواله من مشركي قريش على أن يسمح له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول شيئاً يسرّ المشركين ، فأذن له النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وفعلاً قد ذهب إلى مكة ولما قَرُبَ منها رأى رجالاً من المشركين يتسمعون الاَخبار ليعرفوا ما انتهى إليه مصير المسلمين في غزوتهم
____________
1) صحيح البخاري 5 : 115 ، باب قتل كعب بن الاَشرف .
2) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 2 : 1257 .
( 66 )
الجديدة (خيبر) . فسألوا ابن علاط عن ذلك ـ ولم يعلموا باسلامه ـ فقال لهم : (وعندي من الخبر ما يسركم) !
قال : (فالتاطوا بِجَنْبَيْ ناقتي يقولون : إيه يا حجاج !
قال : قلت : هُزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط) !!
ثم أخذ يعدد لهم كيف أنّ اليهود تمكنوا من قتل المسلمين ، وتتبع فلولهم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع أسيراً بأيديهم ، وأنهم أجمعوا على أن يبعثوه مقيداً بالحديد إلى قريش ليقتلوه بأيديهم وبين أظهرهم !!! .
هذا مع علمه علم اليقين كيف قلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر ، وكيف دُكّت حصون اليهود وولّوا الدُبر ، لكنه أراد بهذا أن يجمع أمواله من المشركين على أحسن ما يرام ، وقد تمّ له ذلك بفضل التقية التي شهد فصولها حينذاك العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اغتمّ أولاً ثم استرّ بعد أن سرّه ابن علاط بحقيقة الخبر (1).