أنواع التعاليم القرآنية :
ان تقسيم التعليم يكون بلحاظ تقسيم العلم ، ولأن العلم على ثلاثة أقسام ، فالتعليم كذلك .
وجميع هذه الأنواع الثلاثة موجودة في القرآن ولكن مع تفاوت في جميع هذه الأنواع الثلاثة .
القسم الأول : هو العلم الحسي ، الذي يذكر بصفة العلوم التجريبية ، وتسمى الشعب المتنوعة للعلوم التجريبية بالعلم الحسي ، سواء ما يدرك بالحس المسلح ، أو بالحس غير المسلح مثل الطبيعيات والطب .
القسم الثاني : هو العلم العقلي ، وهي مجموعة المعارف التي لا تدرك بالحس ـ لا الحس المسلح ولا غير المسلح ـ ولكن سندها هو الحس ، لذا يأتي دور العلم العقلي بعد العلم الحسي .
القسم الثالث : هو العلم القلبي والشهودي ، وهو أعلى من العلم الحسي والعلم العقلي .
أسلوب تعليم معلمي العلوم الثلاثة :
لكل علم من هذه الأنواع الثلاثة سالكون : وعلماء متخصصون ، وكل مجموعة في أي فرع تعمل ، تشرح مسيرها للآخرين ، وتبيّن الطريق الذي انتهجته للأجيال اللاحقة ، بل ان سند المعلمين أساساً هو سوابقهم الدراسية .
ان الشخص الذي يتولى تبيين العلم الحسي والتجريبي يتكلم استناداً على تجاربه الماضية ، وإرشاداته تقوم أيضاً على أساس الطريق التي سلكها ، والشخص الذي يتولى تبيين الحكمة والفلسفة يقدم الطرق العقلية التي قطعها للسائرين في هذا الطريق ، وسند كلامه هي البراهين العقلية التي
( 44 )
تعلمها ، وإذا أصبح شخص صاحب بصر في العلم الشهودي والحضوري فانه يعمل نفس العمل الذي يعمله صاحب النظر . أصحاب النظر يرتبون أنظارهم وأنظار الآخرين ويصبحون أصحاب رأي ، ويستفيدون من أنظارهم وأنظار الآخرين في مقام التعليم . والعرفاء الشاهدون أصحاب البصر يستفيدون من بصيراتهم وبصيرات الآخرين في مقام التعليم ويقدمون ذلك الطريق إلى السائرين في طريق الشهود والحضور . غاية ما في الأمر ان الشاهد العارفي إذا جلس على كرسي التدريس ، يستفيد غالباً من طريق ( النظر ) أي يجعل المسائل البرهانية أرضية بصفتها ( عرفان نظري ) ، حتى يصل بعض الناس من ( النظر ) إلى ( البصر ) ؛ لأن ما هو قابل للنقل والانتقال هي ( المعاني والمفاهيم ) ، وليس الشهودات العينية حيث ان التحقق الخارجي هو عين ذاتها .
أحياناً قد يستطيع أولياء الله إيصال فيض للآخرين ، لكن ذلك قليل جداً ، إن الحكمة والفلسفة تمثل بالنسبة للعرفان نفس دور المنطق للفلسفة ، أي أن المعيار هو العمل ، هذه هي علوم بشرية ويقوم معلموا البشر في هذه الكراسي الثلاثة بتدريسها . ورأسمال تدريس وتعليم هذه العلوم الثلاثة هو الذي تقدم بيانه .
كيفية تعليم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم :
ذكر الله تعالى ، رسوله الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ بوصفه معلماً . قال سبحانه : ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) .
هل مقصود الآية هذا المعنى وهو ان رسول الله . يعلم الآخرين المعارف القرآنية بمستوى طبيب ، حيث يستفيد من رأسماله التجريبي ، أم بمعنى يعلم الآخرين المعارف القرآنية كحكيم ، يستخدم رأسماله الفكري
( 45 )
والبرهاني ؟ أم أنه يعلم الآخرين المعارف الإلهية كعارف شاهد ينقل للآخرين نتائج مشهوداته ؟ .
قال الله تعالى وهو أول معلم ومعلم بالذات ، في شأن كيفية التعليم :
( علّم الإنسان ما لم يعلم ) (1) .
ان هذا التعليم ، ليس من سنخ العلوم الثالثة حيث يتعلم شيء بالحس أو العقل أو القلب ثم بعد ذلك يعلم للآخرين ، بل هو علم محض ، وتعليمه ينشأ من العلم الربوبي المحض ، وهذا فوق بحثنا ، أما الوجود المبارك لذلك النبي الذي لم يذهب إلى مدرسة ، فهو أيضاً لم يستعن بطريق العلم الحسي أو العقلي بالتأكيد ، أي أنه لم يصبح عالماً بالتجربة ، ولم يستعن بالبراهين من المدرسة .
أما عن العلم والتعليم الثالث ، فان كل سيرة وسنة وسريرة الوجود المبارك للنبي الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ هو حضور وشهود ، كان متعلماً لم يذهب إلاّ لمدرسة ( الله ) ، ومدرسة الله تبدأ من القلب وليس من الحس . ليس العلم الذي يقال فيه :
( من فقد حسّاً فقد فقد علماً ) .
بل العلم الذي يقول : أغلق الحواس ، حتى تفهم . على عكس علوم المدرسة التي تقول استعمل الحواس حتى تفهم . لذا فان قسماً مهماً من نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ من الرؤيا في أول الأمر ، أي أن بداية النبوة كانت في تلك الحال التي اغلقت فيها العين والأذن وسائر مجاري الإدراك الحسي ، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى في المنام رؤى جيدة وكل رؤيا كان يراها رسول الله ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ كانت تتضح مثل بياض الصبح . هذا العلم ،
____________
(1) سورة العلق ، الآية : 5 .
( 46 )
هو علم شهودي ، بناء على هذا فان علم النبي هو علم شهودي وقلبي . في مجال التعليم أيضاً يعلم الآخرين ذلك بثلاثة طرق : عن طريق ( التجربة ) بصفة ( الجدال الأحسن ) وليس بصفة ( سند التعليم ) بالشكل الذي كأنه تعلمه عن طريق التجربة الحسية ، وكذلك علم الحكماء بصفة ( برهان ) ليس بالشكل الذي كأنه تعلمه من المدرسة ، وعلم التلاميذ الشاهدين والعارفين كذلك بصفة ( إظهار ) .
وأما الطريق الخاص بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو ليس بالطريق الذي يصله الإنسان بتهذيب النفس والتزكية فضلاً عن البراهين العقلية والعلوم الحسية .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (1) .
إنها هبة خاصة لا تتوفر بالكسب والتهذيب والتزكية وأمثالها ، إنها ربط خاص بين إنسان كامل والله ، حيث ان ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، وذلك أيضاً فوق بحثنا ، أي أن الإنسان المتعارف ليس داخلاً في هذا المجال .
فحين يتكلم القرآن الكريم معنا ، يتكلم بثلاثة طرق ؛ لأنه يتكلم معنا بلساننا ، حيث قال :
( ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) (2) .
وثبت ان الوجود المبارك للنبي الأكرم رسالته شاملة للعالم ، فجميع المجتمعات البشرية هم قومه ، انه يتكلم بلسان الجميع يتكلم بلسان أصحاب العلوم الحسية ويتكلم عن التجارب يتكلم بلسان أصحاب العلوم
____________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 124 .
(2) سورة إبراهيم ، الآية : 4 .
( 47 )
العقلية الصرفة ، ويتحدث عن البرهان ، ويتكلم بلسان الشاهدين العارفين أيضاً ، ويتكلم عن الوجدان .
هذه هي كيفية تعليم الوجود المبارك للنبي الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ وعندما يطرح القرآن موضوع المرأة يدخل أيضاً في هذه الطرق الثلاثة ، أي يتكلم باستعمال الطريق التجريبي ، والطريق العقلي وطريق العرفان والشهود ، ويعلمنا عظمة المرأة بكل هذه الطرق المختلفة .
( 48 )
( 49 )
المقدمة (3) :
يجب تبيين موضوع البحث ومحور المسائل جيداً قبل أي نوع من إقامة البرهان ؛ لأن محور البحث يجب أن يشخص بنحو السلب أو الإيجاب قبل الاستدلال على ذلك ، ما هو المقصود من تعيين حقوق المرأة في القرآن ؟ يجب أولاً أن يشخص ما المقصود بـ ( المرأة ) التي هي محل بحث ؟ ثم تشخص مصادر البحث أيضاً . وكذلك تعين المسائل والمحاور التي يبحث عما يتعلق بها .
ان المقصود من المرأة هي الصنف الذي يقابله الرجل ، وليس المرأة في مقابل الزوج ، العناوين الآخرى التي يرافق كل منها حقوق خاصة ، لها بحث منفصل لا تدخل في المحور الأساسي لهذا البحث ، فمثلاً للمرأة عدة عناوين فقهية وحقوقية ، حيث أن كلاً من تلك العناوين موضوع لمجموعة من المسائل الفقهية والحقوقية ؛ لأن المرأة قد تكون أختاً أو بنتاً أو زوجة ، وأحياناً أمّاً أو جدة أو عمة أو خالة وأحياناً بنت عم وبنت عمة ، وبنت خال
( 50 )
وبنت خالة ، وكل منها لها مسائل فقهية وحقوقية في باب الإرث وأمثاله . وليس لأي من العناوين المذكورة دخل في هذا البحث ، إذ ان المقصود من الرجل هذا الصنف المقابل للمرأة ، وليس المقصود من الرجل هو الزوج ، لأن الرجل بصفة مذكر له عناوين كثيرة ، وكل من تلك العناوين تتبعها أرضية مسائل فقهية وحقوقية كثيرة ، إذ أنّ الرجل يكون أحياناً ابناً أو أخا أو أباً وأحياناً جداً ، أو عماً أو خالاً وأحياناً ابن عم أو ابن عمة أو ابن خال أو ابن خالة ، وكل من هذه العناوين ليس دخيلاً في هذا البحث المحوري ، وتلك لها دور في المسائل الحقوقية والإرث وأمثال ذلك .
في تقييم تساوي حقوق المرأة والرجل من حيث المسائل القيمية يجب عدم إدخال أي من هذه العناوين لا بعنوان تأييد ولا بعنوان نقض ، يجب عدم القول : إن المرأة تختلف عن الرجل لأن سهم الأخت أقل من سهم الأخ من حيث المسائل الإرثية . في ذلك الموضوع المحوري ليس الآن دور هذه العناوين الفرعية . بعد تحليل الموضوع المحوري يأتي عند ذلك دور هذه العناوين الفرعية حيث تطرح مسائل فقهية وحقوقية في كل عنوان من تلك العناوين الفرعية .
الفرق بين الأسس والمصادر :
إن مصادر البحث غير أسس البحث ، فالأسس عبارة عن تلك القواعد والأصول التي يتشكل منها البرهان. ويطلق على هذه المقدمات والأسس عنوان أسس البحث ، أما من أين يجب استنباط هذه المقدمات والمبادىء فهذا ما يسمى بمصادر البحث .
مصادر هذا البحث ، هي القرآن والعترة وكذلك العرفان والبرهان ، أي ان الإنسان يستند أحياناً إلى آية من الآيات أو رواية من الروايات ، والمصدر
( 51 )
هنا هو النقل ، ويستدل أحياناً بالبرهان العقلي والمصدر هنا هو العقل وليس النقل ، وأحياناً يستند إلى الكشف والشهود ، والمصدر هنا هو العرفان وليس البرهان ، ولهذا فإن البرهان والعرفان هما خادمان للقرآن ، والقرآن الكريم هو الذي يحلل برهان المبرهنين ويبين شهود العارفين ، من هنا فان هناك انسجاماً لا يقبل التفكيك بين البحوث العرفانية والبرهانية من ناحية والبحوث القرآنية من ناحية أخرى ، لهذا قد يستعان من الأدلة العقلية في البحوث القرآنية ، أو يستعان بالشواهد العرفانية ، حيث أن من الممكن الاستفادة خلال البحوث البرهانية أو العرفانية من آية من آيات القرآن ، أو رواية من أحاديث العترة الطاهرة عليهم السلام . أما المصادر البحثية فهي منفصلة بمن بعضها البعض .
ملاحظة :
إن حجية البرهان العقلي متساوية بالنسبة للجميع ؛ لأن قدرته الاثباتية واضحة للجميع إلى حد ما ، ولكن حجية الشهود والكشف ثابتة للشاهد وليس للآخرين بعد التطابق مع الميزان الإلهي وهو القرآن والعترة ، إلاّ أن يقطع الآخرون أيضاً تلك المراحل .
اتضح ان محور البحث هذا هو المراة في مقابل الرجل ، وليس المرأة في مقابل الزوج وان المصادر البحثية هي البرهان والعرفان والقرآن ، وعليه فان البحث سينحصر في ثلاثة فصول ، أي نظر القرآن والروايات ، نظر العرفان ، ونظر البرهان .
ويلزم الإشارة في هذه المقدمة إلى انه كما يوجد في القرآن تعبد وبرهان عقلي أيضاً ، وإنه يقدم طريق الشهود ، كذلك الروايات تقطع هذه الطرق الثلاثة ؛ لأن بعضها هو تعبد صرف وقسم آخر منها احتجاجات
( 52 )
عقلية ، وقسمها الثالث هو إظهار طريق الشهود .
وعندما تتضح هذه المقدمات التي تتولى تبيين محل البحث وتحليل العلاقات بين تلك المصادر عند ذلك يمكن الدخول في أصل البحث وهو : ما هي حقوق المرأة والرجل بنظر القرآن والعترة الطاهرة ـ أي بنظر الإسلام ـ ؟ وما هو الاختلاف بين المرأة والرجل ؟ .
( 53 )