عربي
Tuesday 30th of April 2024
0
نفر 0

وقد قسموا التقية بلحاظ هذه الاَركان على قسمين ، وهما

وقد قسموا التقية بلحاظ هذه الاَركان على قسمين ، وهما :
القسم الاَول : تقية الفاعل : وهذا القسم ناظرٌ إلى الركن الاَول (المُتَّقي) ، والتقية فيه بحسبه ، لما مرّ في الفصل الاَول من تأثير اختلاف الاشخاص في واقع الاِكراه وجوداً وعدماً ، إذ قد يكون الاِكراه الواحد ملجئاً تارة بحق شخص ، وغير ملجىءٍ بحق آخر تارة اُخرى ، ومن هنا تدرك قيمة هذا من


( 110 )

التقية ، نظراً لما يترتب على معرفة الفاعل من آثار كبيرة وخطيرة في تقييم تقيته من الناحية الشرعية ، إذ ليس الناس سواسية في التقية ، وقد مرّ بنا أن الاِمام الخميني رضي الله عنه حرّم التقية على الفقهاء في موارد جوازها على العامّة في ظرف لا بدّ فيه من ذلك التحريم .
القسم الثاني : تقية القابل : وهذا القسم ناظر إلى الركن الثاني (المُتَّقى منه) ، وفي معرفة القابل ثمرتان وهما :
الاَولى : معرفة مدى قدرته على تنفيذ ما وعد وهدد به ، إذ ربما قد يكون عاجزاً عن إيقاع أي ضرر بالمتقي ، فتسقط التقية .
الثانية : معرفة عقيدة القابل ودينه قد تؤثر على سلامة التقية في بعض صورها ، فالاكراه من كافر لمسلم على النطق بكلمة الكفر مثلاً ، لايكون عادة إلاّ في بلاد الكفر ، ولو فرض حصوله في أرض الاِسلام لاَمكن التخلص بطلب النجدة من المسلمين .
ثالثاً : أقسام التقية بلحاظ أهدافها وغاياتها :
التقية بهذا الملحظ تكون على ثلاثة أقسام ، وهي :
القسم الاَول : التقية الخوفية أو الاكراهية : وهي فيما إذا كان الهدف من استخدامها دفع الضرر عند الخوف منه سواء أكان الخوف شخصياً أم نوعياً ، كتقية عمّار بن ياسر من المشركين .
القسم الثاني : التقية الكتمانية : وهي فيما إذا كان الهدف منها حفظ الدين من الاندثار والاِنمحاء في دولة الباطل فيما لو أُذيعت تعاليمه وأحكامه المخالفة لهوى السلطة الظالمة ، وعليه لا بدّ من كتمانها إلاّ على


( 111 )

المختصين ؛ لا سيّما إذا كان أهل الحق هم القلة القليلة المحاطة بزمر الباطل .
ومن هذه التقية تقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدم اظهار أمر الدعوة إلاّ للمختصين مدة ثلاث سنوات كما مرّ في محلّه . وكذلك ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من التأكيد على عدم اذاعة أسرارهم عليهم السلام خوفاً على مذهب الحق وقادته الاَطهار وأنصاره وأتباعه .
ويدخل في هذا القسم من التقية ما كانت الغاية منه حفظ بعض المصالح المشروعة بالكتمان ، كما فعل مؤمن آل فرعون في كتم إيمانه ، وكما كتم يوسف الصديق عليه السلام أمره عن اخوته .
القسم الثالث : التقية المداراتية أو التحبيبية : وهي فيما إذا كان الهدف منها ، هو الحفاظ على وحدة المسلمين ، وتقليل شقة الخلاف فيما بينهم وجمع كلمتهم ، كما في أحاديث المخالطة والمعاشرة ، وكذلك فيما لو كانت أغراضها اتقاء فحش الآخرين بإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم ، نظير ما مرّ في تقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من (بئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة) .

المبحث الثاني

أهمية التقية وفوائدها

 


لا خلاف بأن كلّ ما ثبت تشريعه في الاِسلام لا بدّ وان يشتمل على مجموعة من الفوائد التي ترجع بالنفع إما على الفرد أو المجتمع أو الدين نفسه ، بل عليها جميعاً إذ لا يمكن تصور صلاح المجتمع مع فساد أفراده، ولا سيادة الدين بفساد المجتمع .


( 112 )

وإذا عدنا إلى التقية نجدها مفردة واحدة من مفردات ذلك التشريع العظيم كما مرّ في أدلة تشريعها . وعليه فالحديث عن أهميتها وفوائدها هو الحديث عن فوائد وعوائد التشريع الاِسلامي ـ قرآناً وسُنّة ـ ولكن في حيز صغير منه اسمه : التقية .
ومن الواضح أنّ المقصود بالتقية هنا هي التي تكون في موردها الصحيح والموصوفة على لسان أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما سيأتي ـ بأنّها من شيمة الاَفاضل ، وليس كل تقية حتى التي لم يدخلها الشارع المقدس في مفهوم الحكم الثانوي الاضطراري (1)، فتلك تقية مرفوضة ، إذ لا أهمية لها ولا فائدة بنظر الشارع ، زيادة على ما فيها من ضرر بكلا قسميه :
الاَخروي ، باعتبار ارتكاب ما لم يرخّص الشارع بارتكابه حتى في صورة الاضطرار .
والدنيوي ، بلحاظ ما يترتب على فعلها من آثار سيئة عاجلة أو آجلة . وإذا عُرفت مضار شيء عُرفت قيمته ، وإذا شخّصت فوائد آخر أدركت أهميته .
____________
1) الحكم إمّا أن يكون أوّليّاً وهو المنصوص عليه بخصوصه في الشريعة الاِسلامية ، كحرمة أكل لحم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وغيرها . وهذا الحكم هو الاَصل .
وإمّا أن يكون ثانوياً ـ وهو الفرع ـ ويكون على قسمين :
1 ـ حكم ثانوي ظاهري ، كالاَحكام الواردة لحالة شك المكلف ، ومواردها الاَصول العملية : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، وكذلك القواعد الفقهية ، كقاعدة التجاوز وغيرها .
2 ـ حكم ثانوي اضطراري ، وهي الاحكام التي جاءت للتوسعة على المكلف العاجز عن القيام بالحكم الاولي ، فمن لا يقدر على الالتزام بحرمة أكل لحم الميتة بسبب الجوع الشديد يباح له ذلك لاضطراره إليه ، بلا خلاف بين جميع فقهاء الاِسلام ، فكذلك الحال مع استخدام التقية عند الضرورة ، إلاّ ما استثني منها بدليل ، وقد مرّ بعض مستثنياتها ، فراجع .


( 113 )

وهذا الاَمر لا بدّ من التنبيه عليه وإن كان واضحاً في نفسه ، لكي لاتحمل فوائد التقية على غير محملها ، ولا تفسر أهميتها بغير تفسيرها الصحيح .
وثمة شيء آخر يحسن التنبيه عليه ، وهو أن المفاهيم الاِسلامية لايمكن سبر غورها واكتشاف جميع فوائدها لاَنّ مشرعها سبحانه أحاط بكل شيء علماً ، وإنّما يكون الاكتفاء ـ عادة ـ بالمنظور منها ، إما بالمشاهدة والحس ، أو بالنظر العقلي والادراك الفطري ، زيادة على الاستهداء بالنصّ في بيان فوائد تلك المفاهيم .
وسوف نستهدي بهذه السبل الاَمينة في بيان فوائد التقية ، وعلى النحو الآتي :
1 ـ في التقية تحفظ النفس من التهلكة ، ويُصان ما دونها من الاَذى ، كما لو كان المدفوع بها ضرب مبرّح ، أو هتك عرض ، أو سلب مال ، أو إهانة ونحوها من الاَمور التي تعرض سلامة الاِنسان المسلم وكرامته إلى الخطر ، ومن هنا ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام في وصفها بأنّها : «.. حرز لمن أخذ بها ، وتحرّز من التعريض للبلاء في الدنيا» (1).
كما تحفظ بالتقية حقوق المؤمنين ، وقد جمع هذه الفوائد قول أمير المؤمنين علي عليه السلام : « التقية من أفضل أعمال المؤمن ، يصون بها نفسه واخوانه من الفاجرين» (2)، وعلى هذا تكون التقية صدقة على النفس
____________
1) مشكاة الاَنوار | سبط الطبرسي : 42 . وعنه في مستدرك الوسائل 12 : 256 | 13 باب 23 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2) التفسير المنسوب إلى الاِمام العسكري عليه السلام : 321 | 164 .


( 114 )

والاِخوان ، وفي الحديث المروي عن الاِمام العسكري عليه السلام : «.. إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه واخوانه» (1).
2 ـ التقية صمود بوجه الباطل ، كما يفهم من وصفها بأنّها سلاح المؤمن، وترسه وحرزه ، وليست تخاذلاً أو تراجعاً ، فهي أشبه ما تكون بالانسحاب الهادف إلى التحيز إلى جهة المؤمنين لتقوية شوكتهم ، وخير مايدل على ذلك صمود عمار بن ياسر على الحق ثم انسحابه الهادف الذي وفّر عليه فرصة الاشتراك مع اخوانه المؤمنين في ميادين الحق ضد الباطل ابتداء من بدر الكبرى بقيادة أشرف المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، واختتاماً بصفين تحت لواء أمير المؤمنين عليه السلام .
ولولا تقيته لما عرف له دور في قتال المشركين، والناكثين، والقاسطين .
فالتقية إذن من عوامل تقوية الدين ، وقد جاء في حديث الاِمام الصادق عليه السلام ما يؤيد هذا ، فقال عليه السلام : « اتقوا الله ، وصونوا دينكم بالورع ، وقووه بالتقية» (2).
3 ـ التقية شجاعة وحكمة وفقاهة ، وتوضيح ذلك : إنّ التقية وسط بين طرفين : إمّا الافراط في استخدامها في كل شيء بلا قيد أو شرط ، بمعنى الهروب عن مواجهة الباطل في كلِّ ظرف حتى فيما يستوجب المواجهة ، وهذا هو الجبن بعينه . وإما التفريط في تركها في كل حين حتى في موارد وجوبها لحفظ النفس من التهلكة ، وهذا هو التهوّر بعينه . ولا وسط بين هاتين الرذيلتين ـ في علم الاَخلاق ـ إلاّ فضيلة الشجاعة . وبهذا يكون
____________
1) التفسير المنسوب إلى الاِمام العسكري عليه السلام : 142 .
2) أمالي الشيخ المفيد : 99 ـ 100 ، المجلس الثاني عشر .


( 115 )

استخدامها في موردها الصحيح من الحكمة ؛ لاَنّها وضع الشيء في موضعه ( ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) (1).
وأما كونها من الفقاهة ، فهو مما لا شكّ فيه ، لاَنّ للتقية جملة من الاَحكام كما مرّ ، واستخدامها الاَمثل لا يتم من غير علم بتلك الاَحكام ، وهذا هو عين التفقه ، ويدل عليه حديث الاِمام الباقر عليه السلام في التقية : «...فأما الذي برىء فرجل فقيه في دينه» (2)، وفي الحديث الشريف : « من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (3).
4 ـ التقية تؤدي إلى وحدة المسلمين بحسن المعاشرة فيما بينهم ، ومخالطة بعضهم بعضاً ، فالمصافحة والبشاشة ، والحضور المشترك في أماكن العبادة ، وتشييع الجنائز ، وعيادة المرضى ، لاشك أنها تزيل الضغائن ، وترفع الاحقاد الموروثة ، وتحوّل العداوة إلى مودة ومؤآخاة .
ويؤيد هذا ، قوله تعالى : ( ادْفَع بالَّتي هِيَ أحسَنُ فإذا الَّذي بَينَكَ وبَينَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ ) (4).
وقد تقدم بأن المقصود (بالتي هي أحسن) هو : التقية ، فيكون من لوازم الدفع بها أن يصير العدو المعاند كأنه وليٌّ حميم .
5 ـ التقية دعوة محكمة إلى اتباع سبل الهدى ، كما يفهم من قوله
____________
1) سورة البقرة : 2 | 269 .
2) اُصول الكافي 2 : 221 | 21 ، باب التقية .
3) سنن ابن ماجة 1 : 143 | 220 باب فضل العلماء والحث على طلب العلم . ومسند أبي يعلى الموصلي 5 : 326 | 5829 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 1 : 121 قال : (ورجاله رجال الصحيح) .
4) سورة فصلت : 41 | 34 .


( 116 )

تعالى: ( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحكمةِ وَالموعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلهُم بالّتي هيَ أحسنُ ) (1)، ولا شكّ في دخول التقية في مصاديق هذا القول الكريم ، ومعنى هذا أنّ التقية في مداراة أهل الباطل تؤدي إلى اجتذابهم إلى الحق، وتبصرتهم بعد العمى ، ويؤيّد ذلك ما جاء عن الاِمام العسكري عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلناسِ حُسناً ) (2). قال عليه السلام : « قولوا للناس كلّهم حُسناً ، مؤمنهم ومخالفهم . أما المؤمن فيبسط لهم وجهه ، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الاِيمان» (3).
ويفهم مما تقدم أنّ التقية من الاِحسان ، وبما أن الاِنسان عبيد الاِحسان ، تُرى ، فأي عاقل لا يحب من يُحسن إليه ، وإن كان ذلك الاِحسان في واقعه عن تقية ؟

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

سخاء الإمام الرضا ( عليه السلام )
المنهج الاصلاحي عند الإمام الصادق(ع)
حديث الثقلين - طرق حديث الثقلين - صحة سند الحديث
كرم الإمام الهادي ( عليه السلام )
الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
علي الأكبر ابن الإمام الحسين (ع) (شبيه أهل الكساء ...
من أدعية أهل البيت (عليه السلام)
أم البنين عليهاالسلام
برکة وجود علی علیه السلام
أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)

 
user comment