عدم شأنية الملائكة للتعلم :
عندما طرح الله مسألة تعليم الاسماء عرف الإنسان الكامل معلماً للملائكة ، وجعل الملائكة تلاميذ الإنسان ، وليس تلاميذ الله ، ولو كان للمائكة شأنية كسب العلم من الله بدون واسطة ، لم يكن عند الله تعالى إمساك وبخل عن قبولهم . فيتضح ان الملائكة ليس لهم شأن في أن يكونوا تلاميذ الله بلا واسطة بدليل انه :
( وما منا إلا له مقام معلوم ) (4) .
كما ليس لهم لياقة لأن يصبحوا عالمين وبحقائق جميع الاسماء ، بل هم
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 30 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 31 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 38 .
(4) سورة الصافات ، الآية : 164 .
(103)
يعرفون فقط في حد الأنباء عن حقائقها ، ولو كان غير هذا لقال الله تعالى لآدم : يا آدم علمهم باسماء هؤلاء .
ولأنه لم يقل لآدم : كن معلمهم ، بل قال :
( أنبئهم بأسمائهم ) (1) .
أي أنبئهم بالاسماء ، لا تعليم الأسماء يتضح أولاً : ان الملائكة هم دون ان يجعلوا تلاميذ الله بلا واسطة ، وثانياً : هم دون ان يكونوا تلاميذ ومتعلمين لجميع الاسماء ، بل يجب ان يكونوا مستمعين صرفاً ويسمعون النبأ فقط ، وليس كل المسائل .
عندما تكلم الله تعالى عن هذه الساحة أفهم الملائكة ان خليفته هو معلم ومنبيء وعالم الاسماء ، وقال للشيطان إن خليفته ، ليس الذي خرج من التراب ، بل الشخص الذي له إحاطة ، بالتراب أيضاً ، وذلك .
أولاً : معنى الخلافة هو ان يكون شخص خليفة ( المستخلف عنه ) .
ثانياً : في معنى الخلافة أخذت غيبة المستخلف عنه ، لأن المستخلف عنه إذا كان له حضور ، فلا محل للخلافة .
ثالثاً : معنى الخلافة هو ان يأتي شخص الخليفة من خلف المستخلف ، لا من الأمام واليمين واليسار لذا يجب ان يكون للمستلف عنه خلف ، أي يكون محدوداً حتى يكون هناك محل للخليفة .
رابعاً : ولأن الله تعالى هوالمحيط الكل ، وليس له خلف وغايبة حتى يملأ شخص ذلك الخلف والغيبة ، في النتيجة يجب أن يكون خليفة الله محيطاً أيضاً ، حتى يستطيع تحمل لياقة خلافة الله ، وهو لا يمكن ان يكون إلا
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 33 .
(104)
الإنسان الكامل ؛ لأنه مظهر تشبيه وتنزيه وجامع كل الاسماء الحسنى ، و ليس الملائكة الذين هم جامعون الاسماء التنزيهية فقط ، ولا الحيوانات وغير الحيوانات التي لديها الاسماء التشبيهية فقط . فالإنسان هو الذي يتوفر فيه الجلال والجمال والتشبية والتنزيه والإنسان يستطيع ان يدل على المحيط ، لذا فهو خليفة محيط .
يتضح من هذا البيان ان من هو خليفة الله له مقام أرفع من نشأة البدن ، وذلك المقام لائق للخلافة ، وما فوق نشأة البدن . ليس محلاً للذكورة والأنوثة ، وعلى أساس هذا التحليل فان خليفة الله ليس امرأة ولا رجلاً ، بل هو إنسان ، مسجود الملائكة ليس أمرأة ولا رجلاً ، بل هي إنسانية الإنسان .
عدم اختصاص الخلافة بآدم :
الموضوع الآخر هو : أنه في مسألة الخلافة رغم ان الخطاب أحياناً لآدم وأحياناً الضمير بصورة مفرد أو مذكر وأمثال ذلك ، ولكن هذا ليس بمعنى ان الخلافة أو السجود لآدم وأمثال ذلك ، خاص بآدم عليه السلام أو مختص بالرجل ، والأدلة الدالة على هذا الموضوع عبارة عن :
1 ـ محور تعليم القرآن الكريم هو التعليم ، والتعليم عام أيضاً .
2 ـ في قضية آدم عليه السلام هذه يذكر مسألة عداوة الشيطان لآدم وحواء في إحدى السور بضمير مفرد وفي سورة أخرى بضمير تثنية ، ويتضح من هذا الأسلوب في البيان أن إتيان الضمير مفرداً في أحد المواضع ، هو لأجل الغشعار بأن الممثل هو شخص واحد ، لا من أجل أن العمل مع شخص واحد . وحين يقول الله تعالى لآدم : إن الشيطان عدوّ له ، فذلك من أجل ان آدم يتكلم بصفة ممثل للناس ، وهم يتكلمون مع آدم بصفته ممثلاً ، لا بمعنى أن الشيطان بصفة ممثل للناس ، وهم يتكلمون مع آدم بصفته ممثلاً ، لا بمعنى أن الشيطان هو عدو لآدم فقط ، وليس له شغل مع حواء ، ولهذا يذكر عداوة
(105)
الشيطان في سورة أخرى بضمير تثنية ويقول :
( لكما عدو مبين ) (1) .
هذا أولاً ، وثانياً ؛ عندما يكون الكلام عن الوسوسة وتأثر آدم ، يذكر تعالى هذا المعنى بضمير مفرد في محل من القرآن ، وبضمير تثنية في محل آخر فيقول :
( وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين ) (2) .
يقول صدر المتألهين في تفسير هذه الآية : العدو ، أي الشيطان أقسم لآدم وحواء عليه السلام أنني اتصرف معكما بنصح ، ثم أغواهما ، والحال بالنسبة لنا أقسم ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) (3) ماذا سيفعل ؟ الله أعلم . الشيطان أقسم بشأن آدم وحواء انه سيتصرف معهما بطريق النصيحة ( وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين ) أما بشأن بني آدم فأقسم ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) . هناك قال تعالى : ( وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين ) . ثم قال تعالى : ( فدلاهما بغرور ) ، ثم ذكر هذه المسألة بضمير مفرد في آية وقال :
( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) (4) .
وفي آية أخرى بين بضمير تثنية ، وقال :
( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا ان تكونا ملكين أو تكونا من
____________
(1) سورة الأعراف ، الآية : 22 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 21 .
(3) سورة ص ، الآية : 82 .
(4) سورة طه ، الآية : 120 .
(106)
الخالدين ) (1) .
هنا يفسر الشيطان كلام الله بالرأي ، فالذي يدّعي ( أنا خير منه ) إذا سمع كلام الله أيضاً يفسره بالرأي في ان الله نهاكما وقال :
( ولا تقربا هذه الشجرة ) (2) .
هو لأنه إذا اكلتما من هذه الشجرة تصبحان ملكين وتلدان إلى الأبد ، وأن الله نهاكما من أجل ان لا تكونا خالدين ، ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) ، وهذا المعنى ذكر بضمير مفرد في محل آخر في القرآن بصفة خطاب لآدم ( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) .
الدلالة ، التدلية :
ثم يقول تعالى في هذه المسألة :
( فدلاّهما بغرور ) (3) .
التدلية ، أي التعليق ، هو إخلاء أسفل القدم بالشكل الذي يزل الإنسان . لذا عبر بـ ( فأزلّهما الشيطان ) (4) ، والإنسان يزل عندما يكون قد تعرض للتدلية ، ذهب بحجة الدلالة وقام بالتدلية . في جميع الحالات ذكر ضمير التثنية ، ولكن هنا ذكر ضمير المفرد وهذا يختم أيضاً ذلك الظن الباطل في أن يتخيل شخص ان الشيطان نفذ عن طريق المرأة ، بل خدعهما كليهما في آن واحد . و إذا كان هناك محل لمثل هذا التوهم ، وكان هناك
____________
(1) سورة الأعراف ، الآية : 20 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 35 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 22 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 36 .
(107)
إمكان لقول الباطل يجب أن يقدم الإنسان هذا الباطل وهو أن الشيطان خدع المرأة عن طريق الرجل ، لا أنه خدع الرجل عن طريق المرأة ، رغم ان هذا هو أيضاً خيال باطل كما أن ذلك هو ظن باطل ، لأن الشيطان نفذ إليهما مباشرة ، ولم يخدع الرجل عن طريق المرأة ـ كما يعتقد البعض ولا خدع المرأة عن طريق الرجل ، قد يستفيد شخص ساذج التفكير مثل هذه الاستفادة من الآية ( هل أدلك على شجرة الخلد ) .
بناء على هذا ، فإن مجيء الضمير مفرداً هو بسبب ان آدم كان بصفة مخاطب أوّلي وبصفة ممثل ، بصفة انه مستمع وترجمان وناطق ، ولذا في كل هذه المسألة ليست هناك أية خصوصية لآدم .
ثالثاً : مسألة ( إهبطا ) (1) لكليهما و ( اهبطوا ) (2) للجميع ، هذا الموضوع له اشعار بأن ما تعود إليه الخلافة هي الإنسانية وما هو موضع عداوة الشيطان هي إنسانية الإنسان أيضاً ، عندما يأخذ الشيطان إنسانية الإنسان منه ، ويجعله في زمرة أوليائه عند ذلك تتبدل العدواة إلى ولاية ، حيث ان هناك بعض الناس تحت ولاية الشيطان ، ويذكرهم القرآن بصفة ( أولياء الشيطان ) (3) .
ذكر شواهد قرآنية (3) :
تمهيد خلافة الإنسان :
يرى القرآن الكريم ان الكمالات العليمة والعملية تشير إلى مقام الإنسانية ، وذلك المقام منزه عن الذكورة والأنوثة ، فكثير من الرجال قد يسقطون ويصبحون مصداق :
____________
(1) سورة طه ، الآية : 123 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 36 .
(3) سورة النساء ، الآية : 76 .
(108)
( اولئك كالأنعام بل هم أضل ) (1) .
وكثير من النساء قد يصبحن مشمولات لقوله تعالى :
( يا أيها النفس المطمئنة * أرجعي إلى ربّك راضية مرضية ) (2) .
ما يطرح في هذا البحث هو تفصيل للبحث السابق ، وهو لماذا يصل الإنسان إلى هذا المقام الرفيع ؟
في القرآن الكريم كثير من الفضائل العلمية مطروحة . وهي باسم إنسانية الإنسان ، وبعض الفضائل لا يصل إليها الملائكة أيضاً ، فإذا ثبت هذان الموضوعان ، عند ذلك سيتضح سر سجود الملائكة لساحة إنسانية الإنسان .