1 ـ حالة الدنيا في عصر الاءمام(ع): يقول الاءمام (ع): «اءنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وادبر معروفها، ولم يبق منهااءلاّ صبابة كصبابة الاءناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل». اءنّ هذه الدنيا قد تغيّرت كثيراً عمّا كانت عليه في عهد رسولالله(ص).والتغيير علي نحوين، فقد يتغيّر الشيء، ولكنّ لا يفقد معالمه الاساسية،وقد يتغيّر شيء فيتنكر للاءنسان، فلا يعرفه الناس. والتغيير الذي حدث للناس وللمجتمع في فتنة بني اُمية كان من النوعالثاني (اءنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكرّت». اءنّ الذي حدث للمسلمين ـ في هذه الفتنة ـ ردّة اءلي الاعراف والقيمالجاهلية، لم ينقلب الناس عن الاءسلام في هذه الفتنة. ولكنّ الاعرافوالقيم والافكار الجاهلية، عادت كما كانت، واستعاد بنو اُمية مواقع النفوذفي المجتمع الجديد، كما كانوا يحتلّونها من قبل في الحياة الجاهلية، بنفسالافكار والقيم والمفاهيم. وهذا الانحراف المخيف تمّ خلال نصف قرن فقط بعد وفاةرسولالله(ص). والذي يدخل اليوم قصور خلفاء بني اُمية وعمّالهم في الولايات لايجد شبهاً بينهم وبين ما جاء في كتاب الله وسنّة رسول الله(ص) في حياتهمالعامّة والخاصّة. اءنّ الذي جاء في كتاب الله، وحدّث به رسولالله(ص) وارانامن سلوكه العام والخاص يختلف عمّا نعرف في قصور بني اُمية وترفهمواءسرافهم وعدوانهم اختلافاً كبيراً. والذي يعرف الكتاب والسنّةمقياسين للحياة يتنكّر لا محالة لما كان عليه بنو اُمية، ولا يجد سبيلاً اءليالتوفيق بينهما. وهذا هو الذي يحدّثنا عنه السبط الشهيد(ع): «اءنّ الدنيا قدتغيّرت وتنكّرت». ثم يقول(ع): «وادبر معروفها» وهو حالة السقوط الحضاري فيالتاريخ. فاءنّ الاُمم في حالة الصعود تقبل علي المعروف، وينبع المعروفعنها، كما ينبع الماء من الارض، وهي علامة سلامة الفطرة والعقلوالضمير في الاُمم، وهي حالة العروج الحضاري والعقلي والاءنساني، واءذانضبت الفطرة والضمير والقلوب عن المعروف، وشحّ معروفها كان ذلكاءيذاناً بالسقوط الحضاري، وبين المعروف والعروج والسقوطالحضاريين علاقة ثابتة. فكلّ عروج حضاري في حياة الاءنسان ينشا من تدفّق الفطرةبالمعروف، وكل سقوط حضاري ينشا من نضوب الفطرة الاءنسانية ولابدّلهذا الاءجمال من اءيضاح. اءنّ الفطرة والاءنسان في حالات السلامة تتدفّق بالخير والرحمةوالاءيمان والاءخلاص والصلاح والاءيثار والتقوي والنزاهة والوفاءوالشكر والعفاف والترفع عن السقوط والصدق والامانة والمعرفة والعدلوامثالها، وهذا هو المعروف في حياة الاءنسان، كما يقول القرا´ن، ويسمّيهالقرا´ن معروفاً، لانّ الفطرة تعرفه. كما ان الفطرة السليمة تنكر الاءلحاد والجحود والكفران والاءثرةوالخيانة والكذب والظلم والاءسراف والجبن والياس وتقلّب الرايوالموقف والتخاذل وتتجنّبها، وهذه هي المنكرات كما يسمّيها القرا´ن،ويسمّيها القرا´ن بالمنكر؛ لانّ الفطرة تنكره. فاءذا فقد الاءنسان سلامة الفطرة لم يعد يجذبه المعروف، ولا يُنفّرهالمنكر. كما اءنّ الاءنسان اءذا كان يتمتع بسلامة الحس والذوق تجذبه الطيبات،وينفر من الخبائث، فاءذا فقد الحس لم يعد تجذبه الطيبات ولا تُنفّرهالخبائث. والامر في الفطرة ادهي من ذلك؛ فاءنّ الاءنسان اءذا فقد سلامة الفطرةوالضمير لا يفقد فقط القدرة علي التمييز بين المعروف والمنكر كما كانالامر في فقدان الحواس، واءنّما ينعكس الامر عنده فتجذبه المنكراتويميل اليها، ويُنفّره المعروف ويكرّهه، وهذه هي حالة مسخ النفوسوالفطرة. واءذا فقد الاءنسان سلامة الفطرة فقد بالضروة سلامة الضمير، فاءنّالضمير رقيب علي الفطرة، ويقوم بدور الحارس الامين علي سلامةالفطرة، حتّي ينفذ ا´خر ما اودع الله فيه من المقاومة. ولابدّ ان نضيف هنا قبل ان نغادر الحديث عن هذه النقطة من كلامالاءمام(ع) انّ فساد الفطرة والضمير في نفوس الناس لا يتمّان بصورةقهريّة عن اءرادة الاءنسان واختياره، واءن كانت الا´ثار المترتبة علي فسادالفطرة والضمير قهريّة خارجة عن اختيار الاءنسان، اءلاّ ان الله تعالي ملّكالاءنسان امر ضميره وفطرته، ولا يفسد هذا او ذاك اءلاّ من خلال سوءاختيار الاءنسان واءرادته. ومهما يكن من امر في هذه المقولة التي يوجزها الحسين(ع) عنحال الاُمّة؛ فما هي الفتنة التي الّمت بالمسلمين؟ نقول: اءنّ نبوعالمعروف من نفس الاءنسان اءمارة سلامة الاءنسان، ونضوب منابعالمعروف في نفس الاءنسان امارة ظهور الفساد في حياة الاءنسان. وبين نزول رحمة الله علي الاءنسان وتدفق المعروف من نفسالاءنسان ونضوبها علاقة وصلة . فاءنّ رحمة الله تعالي هابطة باتصال، ولا تنقطع الرحمة عن الكونوالاءنسان لحظة واحدة. ولكنّ لهذه الرحمة منازل في حياة الاءنسان تنزلعليها. ومن هذه المنازل سلامة نفس الاءنسان. فالنفوس والقلوبالسليمة اوعية ومنازل لرحمة الله. فاءذا مرضت وفسدت النفوسوالقلوب، وشحّ معروفها يقلّ حظّها من رحمة الله وبركاته او ينقطع عنها.وليس في رحمة الله شحّ او انقطاع، ولكنّ النفوس والقلوب ترفض هذهالرحمة وتعرض عنها اءذا ادبر معروفها. يقول تعالي: ( اءِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَابِقَوْمٍ حَتَّي' يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِم). ولم يبق منها اءلاّ صبابة كصبابة الاءناء: (صبابة الاءناء) ما يبقي في الاءناء من قطرات الماء بعدما يراق ما فيهامن الاءناء، هذه القطرات لا تغني عن الظما، ولا تروي اءنساناً ولا حيواناً،وكذلك عندما تنضب فطرة الاءنسان من المعروف ـ اءلاّ من صبابة كصُبابةالاءناء ـ فلا يُرجي من هذا الاءنسان خير. اءنّ الفطرةمعين المعروف، والمعروف هو ما تعرفه الفطرة، والمنكرهو ما تنكره الفطرة، فاءذا نضبت الفطرة من المعروف فسدت الفطرة،وبفساد الفطرة يفسد الاءنسان والمجتمع. وقد قلت من قبل: اءنّ الفطرة عندما يصدر عنها الخير والمعروفتنزل عليها رحمة الله وبركاته، وعندما تنضب وتشحّ لا تلقي هذه الرحمةالنازلة من لدن الله تعالي. وخسيس عيش كالمرعي الوبيل: اءنّ (العيش) ليس فقط عيش الاجسام؛ فاءنّ للقلوب والعقولوالنفوس كذلك (عيشاً) كما للاجسام، وكما تموت الاجسام اءذا فقدت ماتعيش به كذلك تموت القلوب والعقول والنفوس اءذا فقدت ما تعيش به.وموت القلوب والعقول والضمائر اخطر من موت الاجسام. والاءمام(ع) يقول في هذه الكلمة: اءنّ الذي يبقي للناس من عيشالقلوب والنفوس والعقول في هذه الفتنة لا يغني عن جوع، ولا يروي منظما ولا يحفظ الاءنسان من الفساد والسقوط... كالمرعي الوبيل... ارايتالمرعي الوبيل الذي اكتسحه الوباء، كيف يصفرّ ويجفّ فيبقي هنا وهناكعشب اخضر قليل بين اعشاب كثيرة قد جفّت واصفرّت، وماتت اوذبلت. كذلك المجتمع الذي داهمته هذه الفتنة يومئذ، كان كالمرعي الذياكتسحه الوباء (المرعي الوبيل) فقد اكتسحت هذه الفتنة كل ما في نفوسالناس من المعروف، ولم يبق في نفوس الناس من معروف اءلاّ كما يبقيفي الاءناء من صبابة بعد ما اُريق ما فيها من الماء، لا يروي من ظما. 2 ـ اءعراض الناس عن الحقّ واءقبالهم علي الباطل: يقول الاءمام(ع): «الا ترون انّ الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهي عنه»؟ هذا هو المقطع الثاني من خطاب الاءمام للناس وهو اءمارة نضوبالفطرة وجفاف الضمير. الا ترون انّ الحقّ لا يُعمل به؟ ولو كانت الفطرة متدفّقة في نفوسالناس لم يتوقف الناس عن العمل بالحق، واءذا فسدت الفطرة في نفسالاءنسان لا يجد الاءنسان في نفسه دافعاً يدفعه اءلي العمل بالحق. وكذلك (الباطل) اءنّ الفطرة اءذا كانت سليمة والضمير اءذا كان سليماًيرفضان الباطل وينكرانه، كما ينكر الشيء الحسن الاشياء الرديئةوالمكروهة. فاءذا بطل الاءحساس عند الاءنسان لم ينكر ما ينكره الناس الاسوياء!كذلك الضمير والفطرة في نفس الاءنسان اءذا استفاقا وسلما يحق الاءنسانالحق ويبطل الباطل، ويعمل بالحق ويتناهي عن الباطل، ويردع عنه، واءذافسد ضميره وفطرته لا يجد في نفسه داعياً للعمل بالحق، ولا رادعاًعنالباطل. هذه صورة دقيقة عن المصيبة التي حلّت بالناس في فتنة بني اُمية،يصوّرها الاءمام(ع) يوم عاشوراء او في منزل (ذي حسم) للناس بهذهالصورة. 3 ـ العزوف عن الدنيا والشوق الي لقاء الله: يقول الاءمام(ع): «ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاءنّي لا اري الموت اءلاّ سعادةوالحياة مع الظالمين اءلاّ برما». هذه الجملة الثالثة من خطاب الاءمام(ع) للناس في عاشوراء وهذهالجملة ذات وجهين: الوجه الاوّل: اءنّ هذه الدنيا لم يعد فيها شيء يرغب فيه المؤمن؛فليس في متاع هذه الدنيا ولذّاتها ما يجذب المؤمن ويستميله اءليها، وهذاهو الوجه الاول من هذه الجملة وهو وجه الزهد في الدنيا والعزوف عنها. والوجه الثاني: الشوق اءلي لقاء الله، الذي هو احب شيء عند المؤمنوارضاه اءلي نفسه. وهذا هو الذي يصرّح به الحسين(ع) في خطابه للناس في عاشوراء.يعني ليرغب المؤمن في لقاء الله من الدنيا. ثم يقول الاءمام(ع): «فاءني لا اري' الموت اءلاّ سعادة والحياة مع الظالميناءلاّبرما». اءنّ الموت نافذة اءلي لقاء الله، ترتفع به الحجب عن قلوب المؤمنينفيلقون من جلال الله وجماله ما لا يلقونه في الدنيا، وفي هذا اللقاء كلسعادة المؤمن ولذّته في الا´خرة. واين لذّة الجنّة ونعيمها من لذّة لقاء اللهفي الا´خرة؟ فليس الموت للمؤمن اءلاّ سعادة. وليس في الحياة الدنيا ما يشدّ المؤمن اءليها غير صحبة الصالحينوالاخيار، وغير الاعمال الصالحة، والمعروف والصلاة والذكر والعبادةوالاءيثار والتضحية، ومواقف التضحية والشهادة والعدل والامانةوالصدق. هذه هي المشاهد التي تشدّ المؤمن اءلي الدنيا؛ فاءذا شحّت الدنيامن الصلاح والتقوي والامانة والصدق والتضحية والاءيمان والاءخلاصوقلّ الصالحون فيها، ولم يلتق المؤمن فيها بغير المكروه والكيد،واللعب، والتكاثر، والحرص، والجشع، والظلم، والكذب، والخيانة،ضاقت نفوس المؤمنين بها، وكرهوها ونفروا منها، وكانت الدنيا سجناًلهم.. يقول الاءمام(ع): «فاءنّي لا اري' الموت اءلاّ سعادة والحياة مع الظالمين اءلاّ برما».تعزف نفسه عن هذه الدنيا، زُهداً، وتتوق اءلي لقاء الله شوقاً.