تعقيب ثاني على الجواب السابق :
إتماماً للفقرة الأُولى التي ذكر فيها بعض الأمثلة على كذب علماء العامّة ، أرجو منكم أن تضيفوا هذه الفقرات نظراً لأهمّيتها ، وخدمة للقرّاء الكرام .
1ـ نقل الذهبي في ترجمة الإمام النسائي قال : " سئل النسائي عن فضائل معاوية : ألا تخرج فضائل معاوية ؟ فقال : أيّ شيء أخرج ؟ حديث : " اللهم لا تشبع بطنه " ، فسكت السائل " .
قال الذهبي : لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبيّ : " اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك لـه زكاة ورحمة " ! (1) .
وجاء ابن كثير من بعده فقال : " لقد انتفع معاوية بهذه الدعوة " (2) .
وقد روى مسلم في صحيحه حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي يذمّ فيه معاوية : " لا اشبع الله بطنه " (3) .
وعندما وقع أهل السنّة في حيرة من هذا الحديث ـ وقد روته صحاحهم ـ نسبوا للنبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : " اللهم من لعنته أو شتمته فجعل ذلك لـه زكاة ورحمة " فربطوا بين الحديثين ، وجعلوا منهما منقبة لمعاوية .
____________
1- تذكرة الحفّاظ 2 / 699 .
2- البداية والنهاية 8 / 128 .
3- صحيح مسلم 8 / 27 .
|
الصفحة 73 |
|
سبحان الله ، هل يعقل أنّ سيّد الخلق يسبّ ويشتم المؤمنين ! وهل يعقل أنّ النبيّ الذي خاطبه الله تعالى بقولـه : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (1) ، وبقولـه : { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (2) ، هل يعقل أن يتحوّل هذا النبيّ الكريم من الرسول القدوة إلى من يسبّ ويلعن المؤمنين ؟
2ـ ما فعله الطبراني بالحديث الآتي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال : قلت يا رسول الله لكُلّ نبي وصي فمن وصيّك ؟ فسكت عنّي ، فلمّا كان بعد رآني فقال : " يا سلمان " ، فأسرعت إليه قلت : لبيك ، قال : " تعلم من وصي موسى " ؟ قلت : نعم يوشع بن نون ، قال : " لِمَ " ؟ قلت : لأنّه كان أعلمهم يومئذ ، قال : " فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من اترك بعدي ، وينجز عدّتي ، ويقضي ديني علي بن أبي طالب " .
فبعد روايته للحديث قال الطبراني : " قولـه وصيي يعني أنّه أوصاه بأهله لا بالخلافة " (3) .
سبحان الله ، انظروا كيف أوّل الطبراني هذا الحديث حسب هواه ، والحديث واضح ، وهو يؤكّد أنّ علياً (عليه السلام) وصي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وصدق الله العظيم حين يقول في كتابه : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } (4) ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله .
3ـ قال الذهبي في ترجمة الحاكم النيسابوري : " فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير فقال : لا يصحّ ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد النبيّ .
____________
1- صحيح مسلم 8 / 27 .
2- آل عمران : 159 .
3- المعجم الكبير 6 / 221 .
4- الجاثية : 23 .
|
الصفحة 74 |
|
قلت : ثمّ تغيّر رأي الحاكم ، وأخرج حديث الطير في مستدركه ، ولا ريب أنّ في المستدرك أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحّة ، بل فيه أحاديث موضوعة شأن المستدرك بإخراجها فيه .
وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً ، قد أفردتها بمصنّف ومجموعها هو يوجب أن يكون الحديث لـه أصل ، وأمّا حديث : " من كنت مولاه " ، فله طرق جيّدة ، وقد أفردت ذلك أيضاً " (1) .
فالذهبي ينقل فضل الحاكم ، وبما أنّ الحاكم نقل في مستدركه أحاديث في فضائل علي ، وما فيه انتقاص لمعاوية ، طعنوا فيه وقالوا : ثقة في الحديث رافضي خبيث .
قال الذهبي : " أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر ، وأمّا أمر الشيخين فمعظّم لهما بكُلّ حال ، فهو شيعي لا رافضي ، وليته لم يصنّف المستدرك على الصحيحين ، فإنّه غضّ من فضائله بسوء تصرّفه " (2) .
ومن العجيب أنّ ابن كثير بعدما نقل في أربع صفحات من تاريخه ، ملئها بطرق حديث الطير وأسانيده ورواته ، ونحو أكثر من مائة ممّن رووا عن أنس هذا الحديث قال : " وبالجملة ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر ، وإن كثرت طرقه " (3) .
انظروا إلى هذا التعصّب الأعمى ، كيف جعلهم يتّهمون عالماً من علمائهم بالتشيّع والرفض ، بسبب روايته أحاديث لا تعجبهم ، والأعجب بعد هذا أن يقول ابن كثير بعد روايته للحديث : في القلب من صحّة هذا الحديث نظر !
____________
1- تذكرة الحفّاظ 3 / 1042 .
2- المصدر السابق 3 / 1045 ..
3- البداية والنهاية 7 / 390 .
|
الصفحة 75 |
|
والجدير بالذكر : أنّ حديث الطير رواه الترمذي في سننه ، والطبراني في المعجم الأوسط ، وغيرهما من أعلام السنّة (1) ، وممّا لاشكّ فيه ، أنّه لو كان الحديث يخصّ أحد الصحابة ـ خاصّة الخلفاء الأوائل ـ لدقّوا عليه الطبول .
ومن أمثلة الأحاديث التي رواها الحاكم :
1ـ عن علي (عليه السلام) قال : " اخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين ، قلت : يا رسول الله فمحبّونا ، قال : من ورائكم ".
قال الحاكم : " صحيح الإسناد ولم يخرجاه " (2) ، وقال الذهبي في تلخيصه : " الحديث منكر من القول ، يشهد القلب بوضعه " .
2ـ عن علي (عليه السلام) قال : " سمعت النبيّ يقول : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب : غضّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمّد حتّى تمر " (3) .
قال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " (4) ، وقال الذهبي في تلخيصه : " لا والله بل موضوع " .
وأخرج الحاكم بإسناده إلى علي (عليه السلام) في تفسير قولـه تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } (5) ، قال علي : " رسول الله المنذر وأنا الهادي " .
____________
1- الجامع الكبير 5 / 300 ، طبقات المحدّثين بأصبهان 3 / 454 ، البداية والنهاية 7 / 390 ، المناقب : 108 ، سبل الهدى والرشاد 7 / 191 ، ينابيع المودّة 2 / 150 ، المستدرك 3 / 130 ، أُسد الغابة 4 / 30 ، المعجم الأوسط 2 / 207 و 6 / 90 و 7 / 267 و 9 / 146 ، تاريخ بغداد 9 / 379 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 250 و 257 .
2- المستدرك 3 / 151 .
3- ذخائر العقبى : 48 ، نظم درر السمطين : 182 ، الجامع الصغير 1 / 127 ، كنز العمّال 12 / 108 ، فيض القدير 1 / 549 ، كشف الخفاء 1 / 96 ، أُسد الغابة 5 / 523 ، ينابيع المودّة 2 / 88 و 137 .
4- المستدرك 3 / 153 .
5- الرعد : 7 .
|
الصفحة 76 |
|
قال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " (1) ، وقال الذهبي : " بل كذب قبّح الله واضعه " .
وسئل أحمد بن حنبل عن حديث : " أنا مدينة العلم وعلي بابها " فقال : " قبّح الله أبا الصلت " (2) .
لاحظوا كيف استدلّوا على وضع الأحاديث التي لم تعجبهم : فتارة يستشهدون بالقلب ، وتارة باليمين ، وتارة بالسبّ ، وهل يعقل أن نستشهد على وضع الحديث بالقلب أو اليمين بلا دليل ؟ فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله .
4ـ نقل ابن كثير في تفسيره لقولـه تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } (3) ، قال ابن كثير : وقد ذكر جماعة ، منهم الشيخ أبو منصور بن الصبّاغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال : كنت جالساً عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فجاء إعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُـــولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًـــا رَّحِيمًا } ، وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمّ انشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
فطاب من طيبهن القاع والاكم |
نفسـي الفداء لقبر أنت سـاكنه |
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
ثمّ انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) في النوم فقال : " يا عتبي الحق الإعرابي فبشّره أنّ الله قد غفر لـه " (4) .
____________
1- المستدرك 3 / 130 .
2- الموضوعات 1 / 354 .
3- النساء : 64 .
4- تفسير القرآن العظيم 1 / 532 .
|
الصفحة 77 |
|
وذكر هذه القصّة النووي الشافعي في كتابه " الأذكار " ، ولكن عندما طبع الكتاب سنة 1409 هجري في دار الهدى في الرياض ، حذفت قصّة العتبي ، وحذف قول النووي : " اعلم أنّ على كُلّ من حجّ أن يتوجّه إلى زيارة النبيّ ، فإنّ زيارته من أهمّ القربات " .
لماذا حذفت قصّة العتبي وحذف قول النووي ؟ بالطبع لأنّ الوهّابية تحرّم الاستشفاع والتوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وبما أنّ قصّة العتبي رواها كبار علماء السنّة ، فلم يجدوا المخرج إلاّ بتحريف الكتاب ، فحذفوا ما لا يروقهم ، فهل من الأمانة العلمية أن تحرّف الكتب ؟! هذا سؤال يبقى مطروح على علماء الوهّابية .
ويشبه هذا ما يفعله علماء الوهّابية حالياً بكتاب الرحّالة ابن بطّوطة ، إذ إنّ ابن بطوطة عندما يصف رحلته إلى الشام يذكر ابن تيمية ، ويقول عنه : أنّه إنسان مجنون ، ونقل عن ابن تيمية أنّه كان ينزل من أعلى المنبر إلى أسفله ، ثمّ يقول : إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من المنبر (1) .
لكن الكتب التي تطبع حالياً ـ خاصّة في الأوساط الوهّابية ـ تنزع منها هذه العبارة ، ولكن في النسخ القديمة ما زالت موجودة ، والحمد لله .
يقول الشيخ محمّد إبراهيم شقرة في شريط اسمه لا دفاعاً عن ابن تيمية ، ولكن إظهاراً للحقّ : إنّ ابن بطّوطة كان ينقل عن العوام ، وما نقله عن ابن تيمية سمعه ولم يره ، ولهذا فكتب ابن بطّوطة تحذف منها هذه العبارة الآن !
سبحان الله ، كيف يجوّزون لأنفسهم حذف الأخبار والأحاديث ـ التي لا تعجبهم ـ ثمّ يتّهمون الشيعة بالكذب ، وهل يقبل إنسان عاقل هذه التبريرات
____________
1- رحلة ابن بطّوطة : 95 .
|
الصفحة 78 |
|
منهم ؟ وهل اصبحوا كاليهود حيث يقول الله تعالى عنهم : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } (1) .
هذه بعض الأمثلة سقناها للقرّاء الكرام حول كيفية تحريف علماء العامّة عامّة والوهّابية خاصّة للأخبار والأحاديث التي لا تعجبهم .
والآن نأتي بأمثلة أُخرى من كتبهم حول تركهم للسنّة بدعاوى مختلفة :
1ـ قال ابن حزم : " وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح . . . ، وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، والشعبي ، وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري " (2) .
قال ابن الجوزي في المنتظم : " كان ابن جرير ـ أي الطبري ـ يرى المسح على القدمين ، ولا يوجب غسلهما ، فلهذا نسب إلى الرفض " (3) .
لاحظوا كيف ينسبون علماءهم ويتهمونهم بالرفض والتشيّع إذا اقرّوا بالحقيقة ، ومعروف في التاريخ : أنّ الطبري حاصره الحنابلة ـ أجداد الوهّابية والسلفية ـ في داره ، ومنعوا من دفنه ، وادعوا عليه الإلحاد حتّى دفن ليلاً .
وذكر ثابت بن سنان في تاريخه : " أنّه إنّما أخفيت حاله ، لأنّ العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار ، وادعوا عليه الرفض ثمّ ادعوا عليه الإلحاد " (4).
2ـ قال أبو حنيفة ومالك وأحمد : " التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة " (5) .
____________
1- النساء : 46 .
2- المحلّى 2 / 56 .
3- المنتظم 13 / 217 .
4- نفس المصدر السابق .
5- رحمة الأُمّة : 102 .
|
الصفحة 79 |
|
وقال الغزّالي : " ثمّ التسنيم أفضل من التسطيح مخالفة لشعار الروافض " ! (1) .
3ـ ذكر الزرقاني في شرح المواهب اللدنية في صفة عِمّة النبيّ على رواية علي في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ ذكر قول الحافظ العراقي : " كما يفعله بعضهم ، إلاّ أنّه صار شعار الإمامية فينبغي تجنّبه ، لترك التشبه بهما " (2) .
4ـ قال الزمخشري في كيفية الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) : " وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك شعاراً لذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتهام بالرفض "(3) .
قال ابن تيمية عند بيان التشبّه بالشيعة : " ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم " (4) .
سبحان الله ، هل يعقل أن يترك من يدّعي أنّه يتبع السنّة ، السنّة الصحيحة ، بدعوى أنّ من يسمّوهم الرافضة تتبع هذه السنن .
فهل أمر الله تعالى أو نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) بمخالفة الشيعة ؟! وإذا وجب مخالفة الشيعة ، فلماذا لا يفتي علماؤهم لاتباعهم بترك الصلاة والحجّ ، لأنّ الشيعة يصومون ويحجّون ؟! وهل يعقل أن يخالف المرء السنّة بحجّة أنّ الشيعة يعملون بها ؟!
ومن هم الرافضة ؟! أهم الذين رفضوا الإسلام كما يروّجه الوهّابية ؟ أم من رفضوا البدع ، وحكّام الجور ، وتمسكوا بالسنّة ؟! هذه أسئلة نطرحها على كُلّ إنسان لـه ضمير حيّ ، وعلى كُلّ إنسان جرّد نفسه من التعصّب الأعمى .
____________
1- الوجيز 1 / 78 .
2- شرح المواهب اللدنية 5 / 13 .
3- الكشّاف 5 / 96 .
4- منهاج السنّة 4 / 154 .
|
الصفحة 80 |
|
وممّا يجدر بالذكر أنّ كُلّ الأمثلة التي ذكرت هي من أُمّهات كتب السنّة ، ولا يوجد حديث أو رواية واحدة من كتب الشيعة حتّى تكون الحجّة عليهم ، وكما قيل : ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم .
والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله المعصومين .
( عاشق التوحيد . السعودية . سنّي )