عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

رأي إمام الحرم الجويني

8 ـ رأي إمام الحرم الجويني :

يقول إمام الحرمين الجويني المتوفّى (478هـ) في الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد:

اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة وإن لم تُجمع الأمّة على عقدها... فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ولاحدّ محدود، فالوجهالحكم بأنّالإمامة تنعقد بعقد واحد منأهلالحل والعقد([1]).

9 ـ رأي للقرطبي أيضاً :

ويقول القرطبي المتوفى (671 هـ) في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحل والعقد... قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغيّر أمر. قال: وهذا مجمع عليه([2]).

10 ـ رأي الأشعري :

ويروي عبد القاهر البغدادي عن أبي الحسن الأشعري المتوفّى (330 هـ): إنّ الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع، إذا عقدها لمن يصلح لها، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته([3]).

يقول البزدوي: وحُكي عن الأشعري أنّه قال: إذا عقد واحد من أهل الرأي والتدبير وهو مشهور، لواحد هو أفضل الناس عقد الخلافة يصير خليفة([4]).

وهذا رأي معروف لدى فقهاء أهل السنّة ومتكلميهم.

وقد اشترط بعضهم في صحة انعقاد الإمامة بواحد الإشهاد على البيعة. يقول النووي في الروضة: لأصح لا يشترط الإشهاد ان كان العاقدون جمعاً، وإن كان واحداً اشترط الإشهاد([5]).

أضواء على نظرية الاختيار

نقد نظرية الاختيار

هذا مذهب جمهور (أهل السنّة) في الإمامة.

وحيث إنّ نظرية (الاختيار) هي الأساس في شرعية الإمامة والولاية عند طائفة واسعة من المسلمين وهم أهل السنّة، في مقابل نظرية (النص) التي يتبنّاها الشيعة الإمامية. فسوف نقف عند هذه النظرية وقفة طويلة للمناقشة والنقد والبحث.

إجمال النقد :

لا يعتمد شيء من هذه الكلمات التي نقلناها عن أعلام أهل السنّة في نظرية الاختيار نصّاً صريحاً من كتاب الله وسنة رسوله. فلا نجد نصاً في الكتاب وما صَحّ من سنة رسول الله في الإذن بولاية من اختاره المسلمون إماماً لهم باتفاق أهل الحل والعقد، أو بأكثريتهم، أو بمبايعة خمسة أو ثلاثة أو واحد من أهل الحل والعقد، أو بمبايعة جمع غفير من الناس. ولا نجد إذناً من الله تعالى بولاية من تغلّب على الأمر بالعنف والقوة. ولا يصح إسناد شيء من هذه الولايات إلى الله تعالى، ولا نجد في النصوص الإسلامية إثباتاً لشرعية شيء من هذه الولايات على الإطلاق.

وبناء على ذلك فإنّ إسناد شيء من هذه الولايات إلى الله تعالى يُعد من الافتراء على الله الذي تستنكره الآية الكريمة من سورة يونس: (قُل أآللهُ أذِنَ لَكُم أم عَلَى اللهِ تَفتَرُونَ) يونس: 59. والولاية والحاكمية والسيادة على الناس لله تعالى فقط: في محكم كتاب الله: (إن الحُكمُ إلاّ للهِ) يوسف: 40، 67 الأنعام: 57.

وعليه فإنّ الولاية من دون إذن الله ولاية محرّمة يحظرها الله تعالى على عباده، يقول تعالى: (وَلاَ تَتَّبِعوا مِن دُونِهِ أولياءَ) الأعراف: 3.

تفصيل النقد :

مناقشة أدلة أصل (الاختيار) :

أصل (الاختيار) في الإمامة لابدّ أن يعتمد إحدى الفرضيتين الآتيتين:

2 ـ فرضية التفويض.

وفيما يلي توضيح إجمالي لكلّ من هاتين الفرضيتين:

أولاً ـ فرضية حقّ تقرير المصير السياسي :

إنّ أصل (الاختيار) في نصب الحاكم مذهب سياسي شائع في الأنظمة الحديثة، وبموجب هذا المذهب يختار الناس بالوسائل الديمقراطية الميسّرة الحاكم الذي يلي أمر الناس.

وهذا الأصل يعتمد في الأنظمة السياسية الحديثة مبدأ حقّ تقرير المصير، وهو مذهب فكري وسياسي معروف في المجتمعات الحديثة.

نظرية العقد الاجتماعي :

وهذا المذهب يعتمد نظرية (العقد الاجتماعي) المعروفة، وهي أفضل الصيغ العلمية التي تعالج مسألة (شرعية الدولة) في الأنظمة السياسية العلمانية منذ القرن الثامن عشر الميلادي إلى اليوم.

وظهرت النواة الأولى لهذه النظرية على يد الفيلسوف الإنجليزي توماس هابس (1588ـ1679) في القرن السابع عشر الميلادي.

وتطورت على يد الطبيب والفيلسوف الإنجليزي جان لاك (1632ـ1707) وتكاملت وبلغت صيغتها العلمية الكاملة على يد جان جاك روسو الفرنسي في ظروف الثورة الفرنسية. وتعتمد هذه النظرية أصولاً ثلاثة رئيسية وهي:

1 ـ نفي ولاية وقيمومة إنسان على إنسان آخر.

2 ـ تقرير مبدأ ولاية الإنسان على نفسه، وحقّه في تقرير مصيره، ويعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ هذا الحقّ حقّ ذاتي للإنسان.

3 ـ يحقّ للإنسان أن ينقل حقّه في تقرير مصيره إلى غيره بموجب العقد الاجتماعي الذي يتمّ به نقل هذه السلطة من الأفراد إلى الهيئة الحاكمة، وتتولّى الهيئة الحاكمة بموجبه الإدارة والقيمومة على المجتمع.

وهذه الولاية التي يمارسها الحكام على الناس في نظرية العقد الاجتماعي هي بالذات ولاية الناس على أنفسهم، فإن الناس بالفطرة وبالذات، بموجب هذه النظرية، قيّمون على أنفسهم، ويملكون أمر أنفسهم إلاّ أنهم يخوّلون الهيئة الحاكمة التي يختارونها للحكم أمر هذه القيمومة والولاية. فتنتقل هذه الولاية من الناس إلى الحكام بموجب الاتفاق والعقد الذي يتعاقد عليه الناس والهيئة الحاكمة.

وإذا صحّت هذه النظرية، فإن أصل الاختيار يمكن أن يعتمد مبدأ حقّ الإنسان في تقرير مصيره السياسي، ويكون اختيار الحاكم للولاية والإمامة من قبل الناس بناءً على هذا الحقّ الذاتي الذي يملكه كلّ إنسان على نفسه وبذلك يكون أصل الاختيار أصلاً شرعياً، كما تكون ولاية الشخص الذي يختاره الناس للإمامة والولاية على أنفسهم مشروعة.

ثانياً ـ فرضية التفويض :

وإذا كان لا يصحّ في الإسلام مبدأ حقّ الإنسان في تقرير مصيره السياسي، ولا يمكن اعتماد هذا المبدأ في شرعية (الاختيار)، فإنّ من الممكن افتراض مبدأ آخر أساساً لشرعية (الاختيار) وهو فرضية (التفويض). وفي هذه الفرضية نفترض وجود تخويل من ناحية الله تعالى للناس في انتخاب الإمام والحاكم الذي يلي أمورهم. فإنّ الإنسان في النظرية الإسلامية إذا كان لا يملك من أمره شيئاً، كما سوف نتحدّث عن ذلك، ويكون أمره كلّه إلى الله تعالى، فلا يملك الإنسان أن يقرّر أمر نفسه بنفسه بمعزل عن إرادة الله تعالى وأمره وإذنه بالضرورة، فيسقط هذا الافتراض من الأساس، إلاّ أنّ من الممكن افتراض وجود إذن وتخويل من الله تعالى للنّاس أن يختاروا لأنفسهم إماماً يلي أمرهم، ويتولّى الحكم فيهم. وهذا افتراض ممكن على حدّ الثبوت، إذا وجدنا له إثباتاً في الشريعة.

وهذا الافتراض يصحّح أصل (الاختيار) ويمنحه الشرعية، كما يصحّح شرعية ولاية الحاكم الذي يتمّ نصبه بموجب أصل الاختيار.

ونحن فيما يلي سوف نحاول إن شاء الله أن نُلقي بعض الأضواء على كلّ من هذين الافتراضين، ونبحث عن إمكان كلّ منهما في مرحلة الثبوت وعن أدلّة إثباته. فإذا انتهينا إلى صحّة وثبوت أيّ منهما فإن أصل (الاختيار) يكون أصلاً مشروعاً لا محالة.

وإن لم تقاوم هاتان الفرضيتان النقود والمؤاخذات العلمية الموجهة إليهما، ولم نجد لهما دليلاً على الإثبات فلا محالة ينبغي أن نعتمد أصل (التنصيص) في مسألة الإمامة، ونتوقف عن قبول أصل (الاختيار)، أساساً شرعياً للإمامة في الإسلام. وهذا بحث دقيق وعسير.

نسأل الله تعالى أن يأخذ فيه بأيدينا إلى الصراط المستقيم، ويجنبنا المزالق التي تعترض هذا الطريق.

أوّلاً ـ منـاقشة فرضيـة ( حق تقريـر المصير )

ودراسة ومناقشة فرضية ( العقد الاجتماعي )

إنّ أفضل الصيغ العلمية التي تعبّر عن هذه الفرضية بصورة علمية دقيقة هي نظرية (العقد الاجتماعي)، كما ذكرنا قبل قليل، وهي فرضية يفترضها علماء الفلسفة السياسية للإجابة عن السؤال عن مصدر شرعية الدولة، ورغم أن هذه النظرية هي أفضل صيغة وصلت إليها الفلسفة السياسية حتى اليوم لشرعية الدولة العلمانية الحديثة إلاّ أنها واجهت نقوداً علمية من قبل علماء الفلسفة السياسية لم تتمكن من الإجابة عنها بصورة كافية.

ومن هذه النقود: الملاحظات التي ذكرها العالم الإنكليزي هارولد. ج.لاسكي في كتابه (المدخل الى السياسة) ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل النظرية ولا في تفاصيل النقود. وإنما الذي يهمنا أن نقول إنّ هذه الفرضية تتولى الإجابة عن السؤال عن شرعية الدولة العلمانية الحديثة، القائمة على الأسس المادية والنظرية المادية في الكون والحياة. ولذلك فهذه النظرية ـأو الفرضيةـ لا تصلح للإجابة عن هذا السؤال في الدولة الشرعية التي تنطلق من قاعدة الإيمان بأنّ الله تعالى هو مصدر كل السلطات والصلاحيات في حياة الإنسان.

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نشخص بدقة موقف الإسلام من فرضية (العقد الاجتماعي)، والنظام السياسي القائم على هذه الفرضية وهي (الديمقراطية).

نقد الديمقراطية :

تبتني (الديمقراطية) بمعناها العلمي على أساسين اثنين:

أولهما : سيادة الشعب، في مقابل الدكتاتورية السياسية التي تمنح السيادة للحاكم، ويحقّ للشعب بموجب هذه السيادة الذاتية أن يقرر مصيره بنفسه، ويحقّ له أن يحوّل هذه السيادة إلى الهيئة الحاكمة بموجب نظرية العقد الاجتماعي.

وثانيهما : حقّ الشعب في التشريع، وهو حقّ ثابت في النظرية الديمقراطية، يحقّ له فيها أن يشرّع ما يراه صالحاً، ويحقّ له أن يحوّل هذا الحقّ بموجب العقد الاجتماعي إلى الهيئات التشريعية التي تنوب عن الشعب فيالتشريع. والإسلام يردّ كلاًّ من هذين الفرضين بالصراحة.

فليس للإنسان في الإسلام سيادة على نفسه وعلى الآخرين ولا يحقّ للإنسان في الإسلام أن يشرّع لنفسه أو لغيره.

إنّ نظرية (العقد الاجتماعي) تنفي فقط سيادة الإنسان على غيره من حيث الأصل، إلاّ ما يكون من ولاية إنسان على آخر بموجب التفاهم والتعاقد (بالعقد الاجتماعي). أمّا الإسلام فينفي سيادة الإنسان على نفسه وعلى غيره، ويحصر حقّ السيادة والولاية في الله تعالى.

يقول تعالى: (إن الحُكمُ إلاّ للهِ) يوسف: 40، 67، الأنعام: 57. وليس لأحد من دون الله تعالى سيادة وولاية على غيره، وعلى نفسه. (أمِ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ فاللهُ هُوَ الوَليُّ) الشورى: 9، (أفَحَسِبَ الّذِينَ كَفَرُوا أن يَتّخِذوا عِبادِي مِن دُونِي أولِياءَ) الكهف: 102، (وَمَا كانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِن أولِياءَ) هود: 20، (قُل أغَيرَ اللهِ أتّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ السَّمواتِ والأرضِ) الأنعام: 14، وليس من حقّ الإنسان في الإسلام أن يشرّع ديناً ونظاماً لنفسه في الحياة الدنيا. (أفَغَيرَ دِينِ اللهِ يَبغُونَ وَلَهُ أسلَمَ مَن في السَّمواتِ والأرضِ طَوعاً وَكَرهاً وإلَيهِ يُرجَعُونَ) آل عمران: 83، (اتّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلاَتَتّبِعُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ) الأعراف: 3، وهذا وذاك ـحقالسيادة وحقالتشريع للإنسانـ أصلان فيالإسلام يرتبطان مباشرة بـ (التوحيد).

والديمقراطية تنفي كلاًّ من هذين الأصلين([6])، وتعتمد الشعب مصدراً شرعياً للسيادة وللتشريع، وهو أمر يتقاطع تقاطعاً صريحاً مع أصل التوحيد. ولهذا السبب فإنّ الديمقراطية، وإن كانت متبناة سياسياً من قبل أنظمة ومجتمعات غير إلحادية، إلاّ أنّ الفلسفةالحاكمة عليها هي (الإلحاد). وهذا إجمال لا بدّ له من تفصيل وشرح.

فإنّ (الولاية) و (الإمامة) في الإسلام ترتبط بمسألة (التوحيد) ارتباطاً مباشراً. فهي أشبه (بالأصول) منها إلى (الفروع). وينبغي أن نتناول هذه المسألة، ونتعامل معها بطريقة منطقية وعقلية على هدي كتاب الله وسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ونتجاوز الأساليب والوسائل غير العلمية التي لا تنتهي بنا إلى حجّة ويقين.

وسوف نتحدث إن شاء الله عن قضية (الولاية) في الإسلام، وعلاقتها المباشرة بالتوحيد، وعن التوحيد في الولاء، والشرك في الولاء.

الولاية والإمامة وعلاقتها بالتوحيد :

الولاية تعتبر أساساً من أهم أسس فهم المجتمع الإسلامي، والنسيج الذي يتألف منه هذا المجتمع الذي يعبّر عنه القرآن بالأمّة الوسط: (وكذلكَ جعلناكُم أُمّةً وسطاً لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً)البقرة: 143.

ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل هذا البحث العميق في الإسلام، وإنما نريد فقط أن نقتصر في هذا البحث علىالعلاقةالقائمة ما بينالإمام والرعية، وأنّ هذه العلاقة قائمة على أساس فكري واضح ومحدد، توضحه الآية السادسة من سورة الأحزابالمباركة، بصورة دقيقة، يقولتعالى: (النَّبِيُّأَوْلَى بِالمُؤمِنين مِن أَنفُسِهِم).

وهذا المعنى من (الأولوية) الثابتة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في محكم القرآن، هو الثابت لأئمة المسلمين من بعده.

ونحن نبحث عن معنى الولاية الثابتة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية المباركة، ثم نبحث عنانتقال هذهالولاية إلىأئمةالمسلمين وولاةالأمر من بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

نظرة في آية الأحزاب :

الآية الكريمة السادسة من سورة الأحزاب واضحة في تشخيص وتحديد العلاقة التي تربط رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الأمّة: وهي علاقة الأولوية: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤمِنين مِن أَنفُسِهِم).

ومعنى (الأولوية) تقديم إرادة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمؤمنين على إرادة المؤمنين بأنفسهم. وهذا التقديم نستفيده بشكل واضح من صيغة أفعل التفضيل الواردة في الآية المباركة: ( أَوْلى ).

وإنما يصح هذا التقديم عندما تتزاحم الإرادتان إرادة الحاكم وإرادة المحكوم، فتتقدم حينئذ إرادة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على إرادة المؤمنين.

وهذه (الأولوية) هي (الولاية) الثابتة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس من جانب الله. ولم يذكر أحد لهذه الأولوية إسماً غير (الولاية)، ولم ينفِ أحد هذه (الأولوية) عن ولاية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على أمّته.

وهذه (الأولوية) هي جوهر الحاكمية وحقيقتها وليس لحاكمية أحد على آخر معنى غير تقديم وتحكيم إرادة الحاكم على المحكومين، عند تزاحم الإرادات.

وهذه الولاية ثابتة لأئمة المسلمين وولاة الأمور من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما نفهمه من نص (الغدير) المعروف عندما سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جماهير المسلمين في (غدير خم) عند عودته من حجة الوداع: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلى. قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

وواضح أنّ هذه الولاية التي يقرّرها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ من بعده هي نفسها الولاية التي منحها اللهتعالى له في قوله عَزّ شأنه: (النَّبِيُّأَوْلى بِالمُؤمِنينمِن أَنفُسِهِم).

وهذه الولاية، وحق الطاعة، هي التي تذكرها الآية الكريمة لله ولرسوله ولأُولي الأمر في سياق واحد في آية النساء: (أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولِي الأمرِ مِنكُم) النساء: 59.

فلا معنى للولاية والحاكمية، كما ذكرنا، غير هذه الأولوية، وأولوية إرادة الحاكم على إرادة المحكوم ليست من المقولات التي تقبل التشكيك. فإنّ حقيقة كل (ولاية) هي تقديم إرادة الحاكم على المحكوم، وتحكيم إرادة الأول على الثاني.

مبدأ الاستناد إلى الحجّة :

وإذا ثبتت هذه الحقائق، فلا بدّ في إثبات ولاية إنسان على الآخر من الاستناد إلى حجّة قطعية لإسناد الولاية والحاكمية إلى شخص من جانب الله تعالى أو رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في نص عام أو خاص. ومن دون استناد هذه الولاية إلى الله تكون هذه الولاية من الولاية من دون الله تعالى وقد حرّمها الله وحظرها على عباده يقول تعالى: (وَلاَ تَتّبِعُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ) الأعراف:3 ويقول تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُم مِن دُونِ اللهِ مِن أولِياءَ) هود: 20.

ومن دون إثبات قطعي لاستناد الولاية إلى الله تعالى تكون دعوى الولاية من الافتراء على الله، وهو حرام وظلم، ومن أقبح أنواع الظلم.

يقول تعالى: (قُل أآلله أذِنَ لَكُم أم عَلَى اللهِ تَفتَرُونَ) يونس: 59.

فلا يجوز الولاية من غير الاستناد إلى الله، ولا تصح الولاية من غير إثبات قطعي لهذا الاستناد.

وإذا اتخذنا هاتين النقطتين أصلاً، فلا يجوز التمسك بحق تقرير المصير أساساً للاختيار. وقد تحدثنا عنه بما فيه الكفاية إن شاء الله.

ثانياً ـ مناقشة فرضية التفويض الالهي

وإذا سقط علميّاً مبدأ (حقّ تقرير المصير)، وثبت لدينا أنّ هذا الحقّ لله تعالى فقط، وليس لأحد من دون الله تعالى مثل هذا الحق... ننتقل إلى السؤال التالي:

هل هناك تفويض من جانب الله تعالى للناس في اختيار الإمام (بموجب الشروط والصفات العامة) التي تقررها الشريعة أم لا؟

فإذا وجدنا مثل هذا التفويض في النصوص الإسلامية الصريحة والصحيحة فإنّ مبدأ (الاختيار) عندئذ يستند إلى نص شرعي صريح وصحيح، وهو (نص التفويض)، ولا يبقى مجال للمناقشة والتشكيك في شرعية مبدأ (الاختيار) أساساً لانتخاب الإمام والحاكم في المجتمع الإسلامي.

ومبدأ (التفويض) ليس بمعنى حقّ الناس في تقرير أمر السيادة والولاية، وليس بمعنى نفي الولاية الإلهية المطلقة على الناس، كما تقرره الديمقراطيّة.

ونحن على يقين أنّه ليس هناك من أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين من يذهب إلى أنّ مبدأ (الاختيار) يعتمد أصل (حق تقرير المصير) على الطريقة الديمقراطيّة.

إذن لا يبقى أساس شرعي لمبدأ الاختيار غير (التفويض) من جانب الله، وهو الأساس الوحيد لمبدأ الاختيار.

وليس بين مبدأ (التفويض) و (التوحيد) تقاطع مطلقاً، كما كان ذلك في العلاقة بين (التوحيد) و (حقّ تقرير المصير) على الطريقة الديمقراطيّة.

إلاّ أنّ الشأن كلّ الشأن في وجود نص يدل على التفويض، بما يتطلبه من الصراحة ووثاقة السند. ولم نعثر نحن على مثل هذا النص، ولو كان لبان، كما يقول أهل العلم، ولم يطل الاختلاف في أمر الإمامة والولاية بين المسلمين إلى هذا الحدّ.

ومن عجب أنّ أمر شرعية الولاية السياسية في تاريخ الإسلام تعتمد مبدأ (الاختيار)، ومبدأ الاختيار قائم على أساس (التفويض).

وليس بين أيدينا نص صريح وصحيح يثبت هذا التخويل والتفويض من جانب الله تعالى.

عدم الدليل دليل العدم :

وإذا علمنا أنّ حق الولاية والسيادة والحكم لله تعالى فقط، ولا يشاركه فيه غيره، فلا يجوز أن ينتقل هذا الحق إلى أحد من الناس بغير إذن الله، وبدون تفويض صريح منه.

وما لم يثبت التفويض بدليل واضح من الله لا يحق لأحد من الناس أن يمارس سيادة وولاية على غيره.

ولما كانت فرضية التفويض أساساً لمبدأ الاختيار، فلا يمكن عادة أن يكون هناك نص في تفويض هذا الحق من الله تعالى إلى الناس، ويكون هذا النص هو أساس شرعية مبدأ الاختيار، ثم يضيع هذا النص فيما ضاع من تراثنا التشريعي.

فإنّ مثل هذا النص يكتسب أهمية كبرى، نظراً لأنّه هو الأساس الوحيد لشرعية الاختيار، فلا يمكن أن يضيع مثل هذا النص، الذي اعتمده المسلمون منذ وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نهاية عصر الخلافة في شرعية أمر الاختيار، والشرعيّة السياسيّة لولاية الخلفاء الذين تولوا أمور الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذلك نقول: إنّ عدم وجود دليل على التفويض في مثل هذه الحالة دليل على عدم التفويض.

قراءة في أدّلة التفويض :

نقصد بالتفويض: أن يفوّض الله تعالى أمر اختيار الإمام إلى الناس بشروط وأوصاف عامة تحدّدها النصوص الشرعية.

ولما كان أمر اختيار الإمام من شؤون الله تعالى وحده، وليس لأحد من دون الله أن يختار لنفسه أو لغيره إماماً، ولم يثبت للناس ولاية وسيادة على أنفسهم كما في (الديمقراطيّة)... فلابدّ أن يكون تفويض هذا الحق من الله تعالى إلى عباده بنص صريح من الله تعالى أو رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم). وليس من دون ذلك سبيل إلى إثبات مثل هذا التفويض.

وقد استعرضتُ المناهج الفقهية والأصولية والكلامية التي يذكرها الفقهاء والمتكلمون لإثبات التفويض، كما استعرضتُ نصوص باب الإمارة والولاية في كتب الحديث، والأبواب المقاربة لها، فلم أجد دليلاً مقنعاً، ولا نصاً في التفويض، بالمعنى الدقيق لكلمة النص.

وبين يدي طائفة من الأدلة والنصوص التي قد يُتمسّك بها على التفويض، وهي أهم ما في هذا الباب، وأكثر ما يمكن التمسّك به، أُوردها فيما يلي لنتأمل فيها.

وسوف اتحدث عن أدلة التفويض في مرحلتين:

في المرحلة الأولى استعرض الأدلة التي يتمسّك بها القائلون بمبدأ الاختيار على شرعية الجانب (الكبروي) من التفويض، وأقصد بالجانب الكبروي من هذه المسألة: الأدلة الدالة على شرعية مبدأ التفويض بصورة كليّة، بغض النظر عن تطبيقات هذه المسألة.

وفي المرحلة الثانية أتحدث عن الأدلة التي يتمسّك بها القائلون بمبدأ الاختيار على الجانب (الصغروي) من التفويض، وأقصد بالجانب الصغروي من هذه المسألة: الجانب التطبيقي من مسألة التفويض، في مقابل الجانب المبدئي والكلي من شرعية التفويض.

فإنّ شرعية (التفويض) على فرض الصحة لا تتم لواحد أو اثنين من الناس، فلا يمكن أن يفوّض الله تعالى واحداً أو اثنين في أمر الإمامة، فيخولهم اختيار الإمام لعامة الأمّة، ويُلزم الناس جميعاً بطاعتهم، ولا يمكن أن تجتمع الأمّة عادةً على إمام ليكون تفويض الأمّة كلها هو المصداق الوحيد للتفويض الشرعي; لأنّ مثل هذا التفويض لا يحل مشكلة شرعية اختيار الإمام، لامتناع اجتماع الناس على إمام واحد عادة.

إذن نتساءل، بماذا تتحقق شرعية التفويض إذا كان من غير الممكن أن يجتمع الناس عادة على إمام واحد؟ وما هو التطبيق والمصداق للتفويض الشرعي؟ وما هو مصداق الاختيار المشروع للإمام؟ وهذا هو الجانب (الصغروي) التطبيقي لمسألة التفويض.

وفيما يلي نستعرض إن شاء الله أدلة التفويض في كلّ من هاتين المرحلتين ونناقشها:

أولاً ـ أدلة الجانب الكبروي (المبدئي) لمسألة التفويض

1 ـ مبدأ الإباحة الأوّلية :

يستند البعض إلى نظرية (الإباحة الأوّلية) في الإسلام في فرضية (حقّ تقرير المصير) أو (فرضية التفويض).

ولابدّ من إيضاح لهذه المسألة لنعرف موقع هذه المسألة من مسألة الولاية والإمامة وإمكان الاستناد إليها لإثبات (حقّ تقرير المصير) أو على الأقل لإثبات فرضية (التفويض).

وهذه مسألة معروفة، وتختلف فيها آراء الإسلاميّين في علم الأصول، وتعرف بـ (مسألة الحظر والإباحة).

والخلاف في هذه المسألة في أنّ الأصل الأوّلي في التصرف في الأشياء، إذا لم يرد دليل من ناحية الشارع على الحرمة، هل هو الحظر حتى يثبت خلافه أو الإباحة حتى يثبت خلافها؟

فالقائلون بالحظر يستدلون بأنّ ذلك من التصرف في ملك الله وسلطانه، وهو بحاجة إلى إذن وترخيص من الله تعالى. والمفروض في المسألة عدم صدور مثل هذا الإذن والترخيص.

والقائلون بالإباحة يستدلون بنصوص إسلامية كثيرة من الكتاب والسنّة على أنّ الله تعالى قد أذن لعباده في التصرف فيما لم يرد فيه حظر من ناحيته، وأباح لهم أن يسعوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزقه إلاّ ما حرّمه عليهم.

وأكثر الإسلاميّين يذهبون مذهب (الإباحة) في هذه المسألة، بينما يتوقّف القائلون بالحظر عن التصرف حتى يرد إذن خاص أو عام من الله تعالى([7]).

ولا يمكن أن يستند القائلون بحق الإنسان في تقرير مصيره إلى هذه الإباحة، أو يستند على الأقل إليها في التفويض من جانب الله تعالى للإنسان في أمر نفسه وتقرير مصيرها.

أمّا حقّ الإنسان في تقرير مصيره على الطريقة الديمقراطية فلا يمكن الاستناد إليه على الإباحة قطعاً.

وأمّا التفويض من جانب الله بأدلة الإباحة العامة والإذن العام الوارد في الكتاب والسنّة فلا يمكن الاستناد إليها; لأنّ الله تعالى قد صرّح في كتابه بأنه تعالى حظر على عباده كل ولاية وقيمومة من دونه، واختص هو سبحانه وتعالى وحده بهذه الولاية والقيمومة لنفسه ولمن أذن لهم بهذه الولاية والقيمومة في حياة الإنسان، والقرآن الكريم صريح في ذلك.

قال تعالى: (إن الحُكمُ إلاّ للهِ)، وقال تعالى: (وَلاَ تَتّبِعُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ).

وهاتان الآيتان والآيات الأُخرى الواردة على طريقة الحصر في انحصار الحاكمية والولاية في الله تعالى، وتوحيد الحاكمية والولاية، صريحة في نفي التفويض لمن يعرف أساليب القرآن.

على أننا سوف نناقش دلالة مبدأ الإباحة العامة على التفويض مرة أخرى من غير هذا المنطلق عند مناقشة قاعدة التسليط بصورة أكثر تفصيلاً ووضوحاً، فانتظر ذلك فإنه قريب إن شاء الله.


[1] الإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد : ص424، طبعة مطبعة السعادة بمصر.

[2] الجامع لأحكام القرآن : 1/186.

[3] أصول الدين لعبد القاهرالبغدادي : ص280 ـ 281 بحكاية د. محمد رأفت عثمان في رئاسة الدولة: ص266.



 

 

 

 

 

 

 

 

 

2 ـ قاعدة التسليط :

ومن ذلك قاعدة التسليط المعروفة في الفقه، وفحوى هذه القاعدة ولاية الإنسان على نفسه. ومن شؤون هذه الولاية أن يحقّ للناس أن يختاروا لأنفسهم إماماً يتولى أمورهم.

وللمناقشة في دلالة هذه القاعدة على (التفويض) مجال واسع، فإنّ أدلة هذه القاعدة ـعلى فرض صحتهاـ واردة في مورد الأموال، والتعدي منها إلى الأنفس يحتاج إلى عناية.

وأقول : على فرض صحة القاعدة، وصحة الاستدلال بها على الولاية الشاملة على الأنفس... فلا يصح الاستدلال بها على تفويض أمر الإمامة إلى الناس. فإن مجال تطبيقات هذ القاعدة هي الاختيارات التي تتعلق بشؤون الأفراد كما في مسألة أصالة (الإباحة) في مسألة (الحظر والإباحة) المعروفة، فإنّ قاعدة التسليط وأصالة الإباحة واردتان في موارد الاختيارات التي تتعلق بشؤون الأفراد، ولا يمكن أن نتمسّك بها في مثل أمر الإمامة الذي يتعلق بأمر الأمّة كلها.

فليس من الممكن ـعادةًـ تحصيل إجماع الأمّة على إمامة شخص وولايته.

وعندئذ فإمّا أن تنفذ القاعدة والأصل في كل فرد فرد سلباً وايجاباً، فيتحول أمر الولاية والإمامة إلى فوضى لا يقرّها الشرع ولا العقل.

واما أن نلغي إرادة الأقلية ونأخذ بإرادة الأكثرية، وهو نقض للقاعدة وللأصل معاً، فتستبطن القاعدة نقض نفسها.

ولا يمكن الدفاع عن هذا (النقض) بضرورة التفكيك في تطبيق القاعدة بين الأكثرية التي تختار إماماً لنفسها والأقلية إلتي ترفضه، فتنفذ القاعدة في الأكثرية، ونلغيها في الأقلية، بحكم العقل، بادعاء أنّ هذه القاعدة ليست قاعدة عقلية آبية للتخصيص، وإنما هي قاعدة شرعية تقبل التخصيص بحكم العقل.

فإذا كان تطبيق القاعدة في مورد الأكثرية والأقلية مجتمعين يؤدي الى خلل وفساد في المجتمع، فإنّ العقل يحكم بضروره إلغاء القاعدة في مورد الأقلية، وتخصيصها بالأكثرية.

أقول : لا يمكن الدفاع عن تطبيق قاعدة التسليط على الإمامة بمثل هذا الدفاع، وذلك لأنّ لإلغاء حق الأقلية في اختيار الإمام وجهاً آخر لا يمكن توجيهه، وهو تحكيم إرادة الأكثرية السياسية على الأقلية. فإنّ الحاكم المرشح من قبل الأكثرية يحكم الأقلية بالضرورة، وهو بمعنىتحكيم إرادة الأكثرية على الأقلية... وهذا شيء آخر غير إلغاء حق الأقلية في اختيار الإمام وحرمانها من ممارسة حقها في اختيار الإمام، والتفكيك في تطبيق قاعدة التسليط بين الأقلية والأكثرية.

وبتعبير آخر: هو نحو من ولاية الأكثرية على الأقلية، ولا يتم بناءً على المنطلق (التوحيدي) الذي انطلقنا منه إلاّ بتفويض من الله تعالى للأكثرية في اختيار الإمام للأقلية، بل في اختيار الإمام للجيل القابل الذي يواجه أمراً واقعاً لم يشترك في تقريره واختياره، ولم يؤخذ برأيه فيه.

فنعود مرة أخرى إلى مسألة (التفويض) من جانب الله للأكثرية في تقرير مصير الأقلية، ومصير الجيل القادم الذي لم يبلغ سن النضج الشرعي بعد، ومن دون إثبات هذا التفويض من جانب الله تعالى لا يحق للأكثرية إلزام الأقلية بولاية شخص، ولا يحق لها إلزام الجيل المقبل برأيها وقرارها.

ونحن لم نجد من خلال الاستعراض للنصوص الواردة في الكتاب وما صح من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل هذا التفويض.

وبتوضيح آخر: إنّ القاعدة تسلِّط الإنسان على أن يفعل ما يشاء فيما يتعلق بنفسه وماله، في غير ما حرّم الله تعالى، وفي غير ما تعلق به حقوق الآخرين، ولا تسلِّط الإنسان على اختيارات الآخرين وشؤونهم وحقوقهم، ولا تفوّضه أن يتصرف في حقوق الآخرين، من دون إذنهم.

فللإنسان أن يبيع ما يشاء من أمواله أو يهديه، أو يتصرف فيها بما يرى في غير ما حرّم الله، وفي غير ما يتعلق به حقوق الآخرين. وليس له أن يبيع أموال الآخرين، أصالة، ووكالة ما لم يفوّضه الآخرون في ذلك.

وسرّ ذلك أنّ هذه القاعدة فقط تسلِّط الإنسان على ما يتعلق بنفسه وشؤونه ولا تفوّضه في شؤون الآخرين.

وبعد هذا التوضيح نعود إلى تطبيق القاعدة والأصل على مسألة الإمامة العامة والولاية... فنقول:

إنّ القاعدة تسلِّط الإنسان على طاعة من يحب في غير معصية الله تعالى، كما أنّ الأصل يبيح له ذلك، وهذا أمر يتعلق به، فله أن يطيع من يحب في غير معصية، وله أن يخالف من يحب مخالفته في غير معصية... وهذا هو حد دلالة القاعدة والأصل.

ولكن ما لا يصح له: أن يختار إماماً وحاكماً للجميع، فهذا ليس من شأنه، وإنما هو من شأن الله تعالى الذي يملك الحكم والولاية على الجميع (إن الحُكمُ إلاّللهِ).

وكذلك الأمر في (الأصل)، فإنّ أصالة الإباحة تبيح له فقط التصرف فيما خلق الله تعالى لعباده من رزق، ولم يفوّضه هذا الأصل فيما يتعلق بشؤون الآخرين وحقوقهم.

وعليه فلا يمكن التمسك بالقاعدة والأصل لإثبات التفويض من جانب الله تعالى للانسان في اختيار الإمام وولي الأمر للأمّة.

إذن نستطيع أن نقول بعد هذا الاستطراد: إنّ قواعد وأصولاً فقهية من قبيل (قاعدة التسليط) و (أصالة الإباحة الأولية) لا يمكن التمسك بها في توجيه شرعية مسألة الاختيار في أمر الإمامة، وتبقى دلالة هذه القاعدة وذلك الأصل في دائرة الشؤون الفردية فقط، دون الشؤون المتعلقة بالأمّة في أمر السيادة والولاية وأمثالها. على أنّ هذه القاعدة، إذا صحّت دلالتها، لا تزيد على أفضل التقادير على تمكين الناس من طاعة من يريدون طاعته فيما يصح لهم أن يفعلوه بأنفسهم، وتمكّن الحاكم بالمقابل من الأمر والنهي وإلزام الناس بالطاعة في نفس الدائرة التي سلّط الناس عليها. ولا تدل بوجه من الوجوه على شرعية التصرفات التي لا تصح إلاّ من الإمام، ولم يسلّط الله الناس عليها، مثل تزويج غير البالغة، وتطليق المرأة عن زوجها، وإجراء الحدود الشرعية ومسائل الجباية، وغير ذلك من الأمور التي لا تصح إلاّ من الإمام، وهي كثيرة.

فإنّ قاعدة التسليط لا تزيد على تمكين الإمام من إلزام الناس بما سلّط الله الناس عليها.

والأمور التي ذكرناها لا تدخل في دائرة الأمور التي سلّط الله الناس عليها، وتقع خارج مساحة قاعدة التسليط بالضرورة، وهي من مقوّمات الإمامة والولاية، ولا تتم الإمامة والولاية إلاّ بها.

3 ـ أصالة اللزوم في العقود :

وتعتمد هذه النظرية شرعية وأصالة اللزوم في كل التزام وعقد، إلاّ ما خرج بدليل، انطلاقاً من قوله تعالى: (أوفوا بالعقود)، والوفاء بالعقد هو الالتزام به ولزومه من الناحية الشرعية.

والأمر بين الأمّة والإمام عقد شرعي قائم بطرفين هما الأمّة والإمام، ومضمون هذا العقد الطاعة من طرف والعدالة ورعاية مصالح الأمّة من جانب آخر، فيتعهد الإمام للأمّة برعاية مصالح الأمّة والعدل بين الرعية، وتتعهد الأمّة له بالطاعة. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالوفاء بالعقود.

مناقشة نظرية العقد :

تعتمد هذه النظرية سلطان الإنسان على نفسه وماله، فإذا كان الإنسان يملك نفسه وماله جاز له أن يعطي حق السيادة على نفسه للحاكم بموجب عقد واتفاق فيما بين الأمّة وبين الإمام. وعندئذ لا يصح له أن يتراجع عن قراره، ويلزمه هذا العقد بموجب قانون وجوب الوفاء بالعقود المستخرج من آية الوفاء بالعقود في القرآن في سورة المائدة.

ولكننا نشك في الأصل الذي يعتمده قانون شرعيّة العقد وأصالة اللزوم في العقود، وهو سلطان الإنسان على نفسه. فقد سبق أن ناقشنا قاعدة التسليط ودلالتها على مبدأ التفويض. ولا يصح من العقود ولا يلزم إلاّ ما جعل الله تعالى للإنسان فيه سلطاناً عليه. فما ملّك الله عباده من أنفسهم وأموالهم وسلّطهم عليه صح لهم أن يتنازلوا عنه ويمنحوه لمن يشاؤون بالعقود والاتفاقيات، ولزمهم الوفاء بالعقد، وما لم يملّكهم الله تعالى، ولم يسلّطهم عليه من أنفسهم وأموالهم، فلا يصح لهم أن يتنازلوا عنه بعقد أو غيره.

إذن الكلام يرجع مرة أخرى إلى قاعدة (التسليط). وقد ناقشنا هذه القاعدة من قبل، فلا نعيد المناقشة.

4 ـ التمسك بأدلة (وجوب نصب الإمام) و (طاعة أولي الأمر) :

وقد يستند بعض الفقهاء والمتكلمين إلى:

أ ـ أدلة وجوب نصب الإمام على عموم المسلمين.

ب ـ وعلى أدلة وجوب طاعة أُولي الأمر. في تصحيح فرضية (التفويض)، وفي شرعية (الاختيار). وتوضيح هذا الاستناد:

إنّ أدلة وجوب نصب الإمام على المسلمين تستبطن تفويض المسلمين أمر اختيار الإمام. وهذا التفويض يصحّح شرعيّة (الاختيار) هذا في النقطة الأولى.

وفيما يتعلق بأدلة وجوب طاعة أُولي الأمر:

يستند بعض الفقهاء في وجوب طاعة المتصدين للحكم وتقرير شرعيّة ولايتهم إلى إطلاق قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم)باعتبار أنّ إطلاق (أُولي الأمر) يقتضي وجوب الطاعة لكل من يتولى أمر المسلمين، مهما كان مصدر ولايته (النص) أو (الاختيار) أو (استخدام القوة).

ولنا ملاحظات جوهرية على هذا المستند وذاك، نوردها فيما يلي إن شاء الله.

لا يحقّق الحكم موضوعه :

وروح المؤاخذة التي ترد على هذا الدليل أنّ أدلة وجوب نصب الإمام لا تدل على أكثر من وجوب نصب الإمام الذي يأذن به الله تعالى.

ولا يتكفل الدليل وجود هذا الإذن وعدمه، على نحو العموم أو الخصوص في الشخص المرشح للولاية.

وبتعبير آخر: الحكم بوجوب نصب الإمام يتكون من موضوع وحكم. أمّا الموضوع فهو الشخص المؤهل للحكم، أو المأذون له بالولاية على المسلمين، من جانب الله، وأمّا الحكم فهو وجوب النصب، ووجوب تمكينه من الحكم.

والحكم يترتّب على موضوعه الشرعي المحدد، وهو الشخص الذي أذن الله تعالى بتنصيبه للإمامة.

وفعند وجود الموضوع في الخارج يتحقق الحكم، ويجب النصب، وعند انتفاء الموضوع في الخارج ينتفي الحكم، فإنّ الحكم يثبت بثبوت موضوعه وينتفي بانتفاء موضوعه، ولا يثبت الحكم موضوعه.

فيبقى التساؤل عن الدليل على شرعية الانتخاب والاختيار وشرعية تصدي الشخص الذي تمّ انتخابه من جانب الناس لأمر الولاية والحكم على قوّته، ولايكون في الأمر بوجوب النصب، ولا الحكم بوجوب الطاعة دليل على شرعية ولاية المنصوب باختيار الناس، ما لم يرد دليل شرعي على صلاحيّة المتصدين للحكم للولاية والإمامة، من جانب الله تعالى وصلاحية الناس في اختيار الإمام من جانب الله تعالى.

لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقيّة :

ولأنّ هذه الشبهة تتفق بين حين وآخر لبعض الفقهاء والمتكلمين، لا بدّ من توضيح أكثر لهذا النقد الذي شرحناه آنفاً، باستخدام بعض مصطلحات (علم الأصول).

فأقول : إنّ القضايا الحقيقية من قبيل (وجوب طاعة أولي الأمر) و (وجوب مبايعة أُولي الأمر) تتكون من موضوع وحكم، والحكم هو وجوب الطاعة والبيعة والالتزام بها، وحرمة نقضها، والموضوع هو (أُولو الأمر).

والحكم يترتّب على موضوعه الحقيقي الموجود في الخارج، أو (الموضوع التقديري)، ولذلك فإنّ كلّ قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية، يكون فيها المقدّم: (الشرط) هو الموضوع، والتالي: (النتيجة) هو الحكم، ويكون معنى وجوب طاعة أُولي الأمر وجوب الطاعة، إذا تصدّى ولي الأمر بحدوده وشروطه الحقيقية لأمر الولاية، وشروطه وحدوده الحقيقية هي التي يحدّدها الله تعالى على نحو العموم أو الخصوص، ومن دون ذلك لا يكون الشخص المرشّح لولاية الأمر ولياً للأمر.

والقضية الحقيقية تتكفّل لإثبات الحكم عند تحقّق الموضوع، فإذا شككنا في موضوع خارجي أنه مصداق للموضوع أو لا، فلا يمكن التمسك بإطلاق الموضوع أو عمومه لإدخال المصداق المشكوك فيه في عموم الموضوع أو إطلاقه.

فإذا أُمرنا بمراجعة الأطباء مثلاً على نحو العموم أو الإطلاق، في حالات المرض، وشككنا في موضوع خارجي (شخص متصدّي للطبابة) أنّه طبيب أم لا، فلا يمكن التمسك بعموم مراجعة الأطباء أو إطلاقه لإدخال المصداق المشكوك فيه في الأطباء، ووجوب مراجعته والأخذ بمشورته الطبيّة.

ولذلك يقول علماء الأصول: إنّ القضية الحقيقية لا يثبت موضوعها في موارد الشك في المصداق، ولا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، إذا ورد مخصص على العموم، واحتملنا دخول مصداق من المصاديق المشتبه به في المخصص، فيكون خارجاً عن العموم، أو في العام فيكون غير مشمول للمخصص. فإنّ علماء الأصول يذهبون، قولاً واحداً، إلى عدم جواز التمسك بالعموم في مثل هذه الموارد إذا كانت الشبهة في المصداق.

والأمر في الأوامر الواردة بطاعة أُولي الأمر، ومبايعتهم، والالتزام ببيعتهم، وحرمة نقضها كذلك... ليس فيها أيّة دلالة إطلاقاً على وجوب طاعة المتصدين لولاية الأمر، وشرعية ولايتهم ما لم يرد إذن صريح من الله تعالى بولايتهم.

فإذا شككنا في هذا الإذن للشخص المتصدي للولاية (على نحو الشك في الانطباق والمصداق) انتفى الحكم بالطاعة قطعاً. فلا يشمل الأمر بطاعة أولي الأمر إلاّ الذين نعلم بأنّ الله تعالى أذن لهم بالولاية، وولاّهم أُمور الناس، ولا يمكن الاستناد إلى هذه الآية في الحكم بطاعة المتصدين للحكم، مالم نعلم انطباق الإذن بالولاية عليهم، وما لم يرد نص صريح عموماً أو خصوصاً من الله تعالى أو رسوله بتنصيبهم أو تأهيلهم للحكم، وليس فيما بين أيدينا مما صح من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل هذا النص.

5 ـ نصوص التأمير :

روى أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم»([1]) وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم»([2]).

فإنّ هذا (التأمير) من التفويض في التأمير، والتفويض تام بنص صريح من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يصح في ثلاثة في سفر يصح في الجماعة في سفر وحضر، وما يصح في الجماعة يصح في الأمّة.

وهو قياس غريب، وغرابته أنه قياس مع الفارق، ولا يصح قياس جماعة أو رهط في السفر يتخذون لأنفسهم أميراً، يرجعون إليه فيما يختلفون فيه بـ (الأمّة) في عرضها العريض في أمر الولاية والإمامة. ولا يمكن أن يكون هذا الحديث وأمثاله سنداً ودليلاً لمثل هذا الأمر.

على أنّ مثل هذا التأمير لا يلزم رفقة السفر بالطاعة، بالتأكيد، ولم يخلق الله تعالى بعد، الفقيه الذي يفتي بموجب هذه الرواية بحرمة مخالفة الأمير الذي يختاره الثلاثة أو الأربعة من بينهم، ووجوب طاعته في كلّ شيء يختلفون فيه من أمور السفر.

إذن هذه الطاعة من الطاعة التطوعية غير الملزمة حتى في موردها، فضلاً عن الموارد التي تقاس بها، والإمارة غير ملزمة.

6 ـ تأمير الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

وروى أحمد بن حنبل في المسند (1/175 ح861) في مسند علي (عليه السلام) قال: قيل يا رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)، من يؤمّر بعدك؟ قال: «إن تؤمّروا أبا بكر (رضي الله عنه) تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة. وإن تؤمّروا عمر (رضي الله عنه) تجدوه قوياً أميناً، لا يخاف في الله لومة لائم. وإن تؤمّروا علياً (رضي الله عنه)، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم».

وأمارات الوضع على هذه الرواية أوضح من أن تخفى.

ولست أعرف موقعاً لكلمة (ولا أراكم فاعلين) فإن كان المقصود الإمارة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة فهذه الكلمة لا تخصّ علياً (عليه السلام) وحده، وإنما تشمل الخليفة الثاني والثالث أيضاً وإن كان المقصود بالخلافة مطلقاً، فقد فعل الناس ذلك، وأمّروا علياً (عليه السلام) عليهم بعد خلافة عثمان بن عفان. والوصف الوارد في هذه الرواية عن علي(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلافة الخليفة الأول والثاني يختلف عن الوصف الذي يصف به الإمام خلافة أبي بكر وعمر في خطبة الشقشقية، كما في نهج البلاغة. ولا نستطيع أن نجمع بين رأي الإمام في خلافة الخليفة الأول والثاني وبين الرواية المنسوبة إليه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

7 ـ البيعة لخليفتين :

وروي في الصحيح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما([3])».

فقد يتمسّك بها في أنّ الخلافة تنعقد بالبيعة ولا تحتاج إلى النص، ولذلك فقد تنعقد البيعة لخليفتين، ولا يمكن ذلك إلاّ على مبدأ الاختيار والتفويض والاكتفاء به عن النص. وهذا أكثر ما يمكن أن توجّه به هذه الرواية في مسألة (التفويض في الإمامة).

ومع الغض عن بعض الملاحظات الواردة في متن الرواية من قبيل كلمة (الخليفة) و (الخليفتين) فإنها من المصطلحات المستحدثة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول : إنّ هذه الرواية ليست بصدد بيان الوسائل الشرعية لانعقاد الإمامة والخلافة، وإنما هي فقط بصدد دفع مفسدة تعدد محاور الولاية والحكم في المسلمين، وما يؤدي ذلك إليه من فساد في المجتمع وهلاك للحرث والنسل في الصراع على السلطة.

ولدفع هذه المفسدة يجب على المسلمين أن يقتلوا ثاني الخليفتين; لتستقر أمورهم السياسية.

8 ـ شرعية البيعة والشورى في كلمات الإمام (عليه السلام):

وروى الشريف الرضي أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما تولّى الخلافة بعث جرير بن عبدالله البجلي بكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان يطلب فيه منه البيعة. وهذا نص الكتاب برواية الشريف.

«بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى»([4]).

قال الزبير بن بكار في (الموفقيات)([5]): إنّ علياً (عليه السلام) لما بعث جريراً إلى معاوية خرج وهو لا يرى أحداً قد سبقه إليه. قال: فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس، وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم فدفعت إليه كتاب علي (عليه السلام) فقال معاوية: أقم فإنّ الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا... ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عُقْبة.

فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين ثم طواهما، وكتب عنوانهما ودفعهما إليّ، لا أعلم ما فيهما ولا أظنهما إلا جواباً، وبعث معي رجلاً من بني عبس، فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة، واجتمع الناس في المسجد، لا يشكون أنها بيعة أهل الشام، فلما فتح علي (عليه السلام) الكتاب لم يجد شيئاً، وقام العبسي فقال: إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر والبحر، ثم دفع إلى علي (عليه السلام) كتاباً من معاوية ففتحه فوجد فيه:

أتاني أمر فيه للنفس غُمّةٌ***وفيه اجتداعٌ للأُنوف أصيلُ

مصابُ أميرِ المؤمنين وهدّةٌ***تكاد لها صمُّ الجبال تزولُ([6])

كلمة ابن أبي الحديد :

يقول عبدالحميد بن أبي الحديد في شرح هذا الكتاب: واعلم أنّ هذا دال بصريحه على كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة، كما يذكره أصحابنا المتكلمون; لأنّه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له، ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم، وقياسه على بيعة أهل الحل والعقد لأبي بكر، فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين، لأنّ سعد بن عبادة لم يبايع، ولا أحد من أهل بيته وولده، ولأن علياً وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر، وامتنعوا، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم. وهذا دليل على صحة (الاختيار) وكونه طريقاً إلى الإمامة، وأنه لا يقدح في إمامته (عليه السلام) امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام.

فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه (عليه السلام) على التقيّة، وتقول: إنّه ما كان يمكنه أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال، ويقول له: أنا منصوص عليّ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهود الى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة. وهذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية([7]).

نقد كلام ابن أبي الحديد :

وليس ابن أبي الحديد مصيباً فيما يراه من دلالة كتاب علي (عليه السلام) على شرعية مبدأ الاختيار.

ونستطيع أن نفهم هذه الحقيقة من خلال نقطتين:

النقطة الأُولى : أن الإمام (عليه السلام) ليس بصدد بيان رأيه في شرعية البيعة والاختيار في هذا الكتاب وإنما يخاطب بهذا الكلام معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية لا يعترف بالنص، ولا يريد أن يتخلى عن ولاية الشام، ويطمع في إمرة المؤمنين، ولا طمع للإمام في أن يقنع معاوية بن أبي سفيان بوجهة نظره ورأيه في الإمامة، ولا طمع للإمام في أن ينصاع معاوية للحق فهو (عليه السلام) يعلم أن معاوية مقدم على التجنّي عليه وعلى المسلمين فيقول له في هذا الكتاب نفسه: «فتجنّ ما بدا لك والسلام».

وإنما يريد الإمام في هذا الكتاب أن يلزم معاوية أمام الملأ من أهل الشام بإمامته وطاعته ولزوم بيعته وحرمة مخالفته بما يلتزم به، فقد انعقدت له الإمامة بما انعقد من قبله للخلفاء الثلاثة.

فلم ينعقد على خلافة أحدهم إجماع المسلمين، ولم تضرّ بشرعية خلافة أحدهم مخالفة من خالف من المسلمين، إذا اجتمع وجوه الأنصار والمهاجرين. وعلى ذلك فإنّ معاوية ملزم بالاستجابة لبيعة المسلمين للإمام من بعد خلافة عثمان، فقد بايعه من وجوه الأنصار والمهاجرين الذين بايعوا من قبله أبا بكر وعمر. فلا يكون تخلف معاوية وأهل الشام ناقضاً لبيعته إذا اجتمع على بيعته من اجتمع على بيعة الشيخين من قبله.

فليس لمعاوية ولا لأهل الشام أن يردوا بيعة الإمام (عليه السلام)، كما ليس لأهل المدينة أن يختاروا غير من اختاره شيوخ المهاجرين والأنصار. وكتاب الإمام (عليه السلام)الى معاوية صريح في هذا الإفحام والإلزام لمعاوية أمام الملأ من أهل الشام بما يلتزم به، وليس في هذا الكتاب أيّة إشارة إلى أن الإمام (عليه السلام) يقرّر في هذا الكتاب رأيه في مسألة (الاختيار)، وإنّما هو كتاب سياسي لإحراج معاوية وإفحامه في مسألة الاختيار والبيعة.

النقطة الثانية : إنّ الإمام لم يكن يرى أنّ بيعة وجوه المسلمين وأصحاب الحل والعقد منهم سبب شرعي كاف في انعقاد الإمامة والخلافة، ولم يكن يعتقد بشرعية بيعة الخليفة حتى بعد اجتماع وجوه المهاجرين والأنصار في المدينة عليه واستقرار خلافته. وبقي الإمام قابضاً يده عن البيعة حتى رأى أن لموقفه من خلافة الخليفة مردود سلبي على الإسلام فبايع عندئذ.

يقول (عليه السلام) في ذلك: «فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه. فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين»([8]).

وكذلك كان رأي الإمام في خلافة الخليفة الثاني والثالث من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول (عليه السلام) لما عزموا على بيعة عثمان:

«ولقد علمتم أني أحق الناس من غيري، ووالله لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه([9]).

فالإمام (عليه السلام) يرى أنّ الخلافة كانت من حقه، وأنّ تنحيتها عنه كان جوراً سلّم بها ما سلمت أُمور المسلمين، إيثاراً لمصلحة الأُمة على مصلحته.

وفي جواب كتاب معاوية إليه عن بيعته لأبي بكر التي تمت بالرغم عن رغبته، يقول (عليه السلام): «وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً، ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه»([10]).

وله (عليه السلام) كلام كثير وواضح في أنّ الخلافة كانت له من بعد رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة روى كثيراً منها الشريف في النهج، يقول (عليه السلام): «فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي، مستَأثَراً عليّ منذ قبض الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يوم الناس هذا»([11]).

وقال في جواب بعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به، فقال (عليه السلام): «يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سَدَدْ، ولك بعد ذمامة الصِهْر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)نَوْطاً، فإنها كانت أَثَرة شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله»([12]).

ويقول (عليه السلام): «وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم والله، لأحرص وأبعد، وأنا أخَصُّ وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تَحولُونَ بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه»([13]).

ثم يقول (عليه السلام): «اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي. ثم قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه»([14]).

وللإمام كلام كثير يرويه الشريف في النهج على هذا النمط. ولسنا نشك نحن في بيعة الإمام للخلفاء الثلاثة الأول، وإنما نشك كل الشك أن تكون هذه البيعة قائمة على أساس الإيمان بشرعية البيعة، وشرعية الخلافة القائمة على البيعة، أو شرعية مبدأ (الاختيار)، وإنما كانت قائمة على مصلحة وحدة الموقف الإسلامي، والإيمان بخطر انثلام هذه الوحدة على الإسلام نفسه.

ومن يقرأ (الشقشقية) لا يشك في أنّ الإمام كان يعتقد بأنّ بيعة المهاجرين والأنصار غير ملزمة له، ولا يشك أنّ رأي الإمام في خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله لم يكن إيجابياً، ولا يشك في أنّ الإمام (عليه السلام) كان يرى أنّ الخلافة له من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

يقول (عليه السلام) فيما جرى عليه من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً» فإن كان كلام الإمام حجة، وكان نهج البلاغة حجة، فإنّ الشقشقية من كلام الإمام في (نهج البلاغة)، وإن كان غير ذلك فلا حجة في النص السابق.

وليس أقوى من هذه الكلمة نص في الدلالة على عدم اعتراف الإمام بشرعية البيعة وشرعية الخلافة القائمة على هذه البيعة، واستحقاقه للخلافة من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره.

قال مصدِّق([15]): كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، فقلت له: أتقول إنّها ـالشقشقيةـ منحولة؟

فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدّق.

قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.

فقال: أنّى للرضي، ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأُسلوب؟ قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمْر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي([16]).

والنتيجة التي نستخلصها من ضم هاتين النقطتين أنّ هذا الكتاب كتبه الإمام(عليه السلام) إلى معاوية على سبيل الجدل والإفحام له بما يعلن لأهل الشام أنه يلتزم به ويتبناه، ولا يمثل هذا الكلام رأي الإمام في شرعية مبدأ (الاختيار)، لما عرفنا بالضرورة من رأي الإمام في مسألة الاختيار، وفي خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله، فيما رواه الشريف من كلامه في نهج البلاغة، وفيما رواه المؤرخون من موقفه من خلافة الخليفة الأول بالاتفاق، ومن دون خلاف.

فهذا الكلام إذن لا يكون حجة في شرعية مبدأ (الاختيار) على كل حال.

حكم العقل بالتفويض :

نعم; لا نعترض على حكم العقل بحسن التفويض من جانب الله تعالى إن لم نظفر بنص شرعي صريح في تفويض الأكثرية لأمر اختيار الإمام، فإنّ العقل يحكم بالضرورة في هذه الحالة بحسن التفويض من جانب الله تعالى للأكثرية في اختيار الإمام، وهذا هو حكم (العقل العملي) كما يقول علماء الأُصول، ويحكم (العقل النظري) بالملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع وهو سيد العقلاء، وواهب العقل للعقلاء.

وبضم هذين الحكمين إلى بعض يكتشف العقل حكم التفويض من الشارع للأكثرية في أمر انتخاب الإمام.

أقول : لا اعتراض لي على هذا الحكم العقلي، وهو صحيح ومتين. ولكن هذا الحكم العقلي يكشف إلى جنب هذه الحقيقة عن مسألة أُخرى، لا أعتقد أنّ عالماً من علماء المسلمين يقرّها ويرتضيها، وهي: أنّ الله تعالى قد ترك أمر الإمامة في أُمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي خير الأُمم، وأفضلها، وآخرها، فلم ينصب لهم إماماً، ولم يفوّض إليهم أمر اختيار الإمام في بيان صريح من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، علماً بأنّه قد خصّ سبحانه وتعالى أمر الحكم والولاية والإمامة لنفسه تعالى فقال: (إنْ الحُكمُ إلاّ للهِ)، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) مريم: 64.

ولا يمكن الدفاع عن وجهة النظر هذه في اللجوء إلى حكم العقل بادّعاء ضياع النصوص المتعلقة بالتفويض فيما ضاع من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ خطورة هذه النصوص، وأهميتها السياسية، وارتباطها بأخطر قضية وأهمها في حياة المسلمين بعد مسألة التوحيد تمنع من هذا الاحتمال. فلا يمكن أن يضيع نص بهذه الأهمية تتعلق به شرعية خلافة الخلفاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولم يرو لنا المؤرخون وأصحاب السير فيما رووا لنا من أحداث اجتماع المسلمين يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سقيفة بني ساعدة وانتخاب الخليفة نصاً يتضمن هذا التفويض الذي نبحث عنه في هذا المدخل.



[1و 2 ] سنن أبي داود : 3/36 ح2608، 2609.

[3] صحيح مسلم : 4/128 ح61 كتاب الإمارة.

[4] نهج البلاغة : ص366 كتاب 6.

[5] الأخبار الموفقيات : ص620 رقم405.

[6] شرح النهج لابن أبي الحديد: 14/38 ـ 40.

[7] شرح النهج لابن أبي الحديد : 14/36 ـ 37.

[8] نهج البلاغة : ص451 كتاب 62.

[9] نهج البلاغة : ص102 خطبة74.

[10] نهج البلاغة : ص387 كتاب 28.

[11] نهج البلاغة : ص53، خطبة6.

[12] نهج البلاغة : ص231، خطبة162.

[3 و 4 ] المصدر السابق : ص246، خطبة172.

[15] هو مصدِّق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي، توفي ببغداد سنة 605 هـ، ذكره القفطي في إنباه الرواة.

[16] شرح النهج لابن أبي الحديد : 1/205 خطبة 3.

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

موقف الفكر الشيعي من الحركات الباطنية
الحديث والاجتهاد والفقه
أنواع العبودية
تمثال السيد المسيح في ألبرازيل
كم يبلغ عدد الشيعة في العالم ؟
دواء القلوب
المُناظرة العشرون /مناظرة الاِمام الكاظم عليه ...
محكمة الآخرة
الجبر والاختيار
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 3

 
user comment