معنى علمه الناسوتي واللاهوتي :
السؤال : قرأنا أنّ علم الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) ينقسم إلى ناسوتي ولاهوتي ، الرجاء شرح هذين القسمين مع الأمثلة إن أمكن .
الجواب : إنّ علم الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) قد يكون من مبدأ الوحي بلا واسطة أو بواسطة ، فهذا علم إلهي ، أو قد يعبّر عنه البعض بعلمٍ لاهوتي .
وقد يكون منشأ علمهم الطرق المتعارفة والمألوفة عند الناس ، وهذا علم عادي ، وقد يسمّيه البعض بعلم ناسوتي .
ثمّ إنّ القسم الأوّل هو المايز بين المرتبطين بعالم الوحي وغيرهم ، إذ لا إشكال في عدم طرق الخطأ والزلل في هذا العلم ، ومن ثمّ سوف يكون عالمه معصوماً من جميع الجهات ، كما هو واضح بأدنى تأمّل ، ومن هذا القسم ، علم الأحكام والعقائد والمعارف الإلهية .
وأمّا القسم الثاني ، فيحصل من مقدّمات عادية ومتداولة ، وهذا القسم يشمل العلم بالموضوعات الصرفة التي لا علاقة لها بأصل الدين والوحي ، فالنبيّ أو الإمام (عليه السلام) يتصرّف في مورده بمعونة القواعد العقلية والعرفية .
وهذا القسم وإن كان يحتمل فيه الخطأ والخلل عند الناس بصورة عامّة ، إلاّ أنّ المصلحة الإلهية تقتضي نفي هذا الاحتمال بالنسبة للنبي والإمام (عليه السلام) ، وهذه المصلحة هي حفظ مكانة المعصوم (عليه السلام) في أعين الناس عن مطلق السهو والخطأ ، ولأنّ التمييز بين الأحكام والموضوعات ليس أمراً سهلاً عند الجميع ، فينبغي سدّ باب الاحتمال لئلا يكون إغراءً لهم في المقام .
|
الصفحة 377 |
|
على أن تقسيم علم النبي والإمام (عليهما السلام) إلى ناسوتي ولاهوتي غير صحيح ، لأنّ المطّلع على العلم اللاهوتي لـه إطلاع على العلم الناسوتي ، أو بالأحرى لا يحتاج لـه أصلاً .
( أبو علي . لبنان . 33 سنة . طالب علم )
السؤال : ما هو القول الفصل لديكم حول علم الإمام المعصوم (عليه السلام) ؟ هل هو حصولي أم هو حضوري ؟ علماً أنّ هناك لكُلّ من القولين روايات عدّة تؤيّده ، فأيّ طائفة من الروايات تؤيّدون ؟
أرجو الإجابة مع الدليل القاطع إن أمكن ، ولكن الأجر .
الجواب : تارة نبحث عن علم المعصوم (عليه السلام) هل هو حضوري ـ أي حاضر عنده بدون أن يتعلّم ويكتسب العلم ـ أو هو حصولي ـ أي يحصل عنده من خلال التعلّم والتكسّب ـ ؟
وظاهر المشهور هو الأوّل ، أي أنّ علمهم (عليهم السلام) حضوري .
وأُخرى نبحث عن علم المعصوم (عليه السلام) على رأي المشهور ـ أي أنّ علمه (عليه السلام) حضوري لا حصولي ـ فنقول : هل أنّ علمه (عليه السلام) حاضر عنده بالفعل ـ بمعنى أنّ المعلومات منكشفة عنده فعلاً ـ أو حاضر عنه بالقوّة ـ بمعنى متى ما أراد وأشاء أن يعلم علم ـ ؟
وظاهر المشهور هو الأوّل ، أي أنّ علمه (عليه السلام) فعلي .
وما أُثير من أنّه يلزم على هذا الرأي اتحاد علم الله تعالى مع علم المعصوم (عليه السلام) ، وبالتالي يلزم الشرك والغلوّ .
فيردّه : بأنّ هناك فروق بين علمه تعالى الحضوري وعلم المعصوم (عليه السلام) الحضوري الفعلي ، منها :
1ـ إنّ علمه تعالى قديم وعلم المعصوم حادث .
|
الصفحة 378 |
|
2ـ إنّ علمه تعالى علّة وعلم المعصوم معلول .
3ـ إنّ علمه تعالى عين ذاته وعلم المعصوم عرضي موهوب منه تعالى .
4ـ إنّ علمه تعالى مطلق وعلم المعصوم محدود ، بمعنى أنّه (عليه السلام) يعلم ما كان وما يكون ، وما هو كائن بمقدار ما اطلعه الله تعالى عليه ، ولا يعلم العلم المخزون المكنون الذي استأثر الله به لنفسه .
وقد ذكر علماؤنا في بحث علم الإمام (عليه السلام) مجموعة من المؤيّدات للنصوص ـ من الآيات والروايات ـ المثبتة لعموم علمه (عليه السلام) وفعليته .
هذا وقد حملوا النصوص ـ من الآيات والروايات ـ النافية لعموم علم المعصوم (عليه السلام) ، والنافية لفعلية علمه (عليه السلام) على عدّة محامل ، فلتراجع في مظانّها .
( علي . أمريكا . 27 سنة . طالب )
السؤال : لدي عدّة أسئلة عن علم الغيب :
1ـ هل علم أهل البيت (عليهم السلام) لدنّي ؟
2ـ هل الإمام المهدي (عليه السلام) الآن مثلاً يعلم بأمر رسالتي هذه إليكم ؟ أي هل عنده علم الغيب الذي من هذا النوع ؟
3ـ ما معنى الفقرة : " ارتضاكم لغيبه " الواردة في شرح الزيارة الجامعة ؟
الجواب : بالنسبة إلى السؤال الأوّل نقول : إذا كنتم تقصدون من العلم اللدنّي العلم الذاتي الذي لا يحتاج إلى تعليم حتّى بالطرق غير المتعارفة ـ وذلك كما هو الحال في علم الله سبحانه ـ فالجواب : كلا ، إنّ علمهم ليس علماً لدنّياً
|
الصفحة 379 |
|
بالمعنى المذكور ، كيف وأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : " إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّمني ألف باب من العلم ، يفتح كُلّ باب ألف باب " (1) .
كيف وعندهم الصحيفة الجامعة ، التي فيها علم كُلّ شيء حتّى أرش الخدش ، كيف والمولود منهم إذا وُلد ضرب لـه عمود من نور يرى من خلاله الأشياء ، كيف وهم يزدادون في كُلّ ليلة جمعة ، إنّ هذا وما شاكله يدلّ على أنّ علمهم ليس ذاتياً كعلم الله تعالى .
وإن كنتم تقصدون منه العلم الذي لا يحتاج إلى تعليم بالطرق المتعارفة ، بل يحصل لهم بطرق غير متعارفة ، فنسلّم أنّ علمهم لدنّي بالمعنى المذكور .
فحصيلة الجواب إذاً : أنّه لابدّ من التفصيل ، فعلمهم لدنّي بالمعنى الثاني ، وليس لدنّياً بالمعنى الأوّل .
وبالنسبة إلى السؤال الثاني نقول : نعم ، أيّ مانع في أن يكون الإمام (عليه السلام) علم برسالتك هذه ، فإنّ علم الغيب على قسمين ، علم بالغيب من دون تعليم من الله سبحانه ، وهذا من مختصّات الله سبحانه { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } (2) ، وعلم بالغيب بسبب تعليم من الله سبحانه ، وهذا هو الثابت للنبي والإمام ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ } (3) ، وقال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }(4) .
وكان عيسى (عليه السلام) يعلم الغيب { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } (5) ، وكان الخضر (عليه السلام) يعلم الغيب أيضاً على ما نقل القرآن الكريم في
____________
1- الخصال : 572 .
2- الأنعام : 59 .
3- آل عمران : 179 .
4- الجنّ : 26 ـ 27 .
5- آل عمران : 49 .
|
الصفحة 380 |
|
القصّة التي دارت بينه وبين موسى (عليه السلام) : { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ... } (1) .
وجاء في نهج البلاغة : أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما أخبر عن التتار بقولـه: " كأنّي أراهم قوماً كأنّ وجوههم المجانُّ المطرّقة ، يلبسون السَرَق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ... " ، فقال لـه بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك (عليه السلام) وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ : " يا أخا كلب، ليس هو بعلم الغيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ... " (2) .
وبالنسبة إلى السؤال الثالث نقول : معناها واضح ، وهو أنّهم (عليهم السلام) يعلمون الغيب ، بسبب التعليم من قبل الله سبحانه ، فالعلوم الغيبية الثابتة لله سبحانه قد ثبت بعضها لهم (عليهم السلام) كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ } (3) ، { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } (4) .
( سامي جحهف . اليمن . زيدي . 19 سنة . طالب )
لا يتنافى مع قولـه { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }
السؤال : قال الله تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }(5) فقد نفى الله أن يكون النبيّ يعلم الغيب ، فكذلك من هم أقلّ منه منزلة ، وهم الأئمّة فما هو ردّكم ؟
الجواب : إنّ عقيدتنا في علم المعصوم (عليه السلام) تتلخّص فيما يلي :
أ ـ علمهم (عليهم السلام) علم لدنّي ، أي أعطي من قبل الله تعالى كرامةً لهم .
____________
1- الكهف : 80 .
2- شرح نهج البلاغة 8 / 215 .
3- آل عمران : 179 .
4- الجنّ : 26 ـ 27 .
5- التوبة : 101 .
|
الصفحة 381 |
|
ب ـ يعلمون الغيب بصراحة القرآن : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ... } (1) .
ج ـ إنّ حدود علمهم (عليهم السلام) من جهة الكمّية والكيفية تتبع إرادة الله تعالى ، فلا يكون ذاتياً ولا أزلياً .
د ـ إنّهم (عليهم السلام) ليسوا مكلّفين بالعمل على طبق هذا العلم ، بل وليست وظيفتهم إظهاره في كافّة الموارد .
وعليه ، فكثيراً ما كانوا يتعاملون مع الواقع الموجود على ضوء العلوم العادّية والظاهرية بدلاً من علم الغيب ، لمصالح شتّى ذكرت في مظانّها .
وبناءً على ما ذكرنا ، فإنّ عدم العلم المذكور في الآية هو بالنظر إلى العلوم العادّية ، لا العلم اللدنّي المسمّى بعلم الغيب ، وهذا نتيجة الجمع بين الأدلّة في المقام .
ولتقريب المعنى نذكر مورداً آخر يدلّ بوضوح على الموضوع ، فمثلاً : يخاطب القرآن النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالنسبة لبعض المنافقين ويقول : { وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ... } (2) ، أي كان ممكناً أن يعرّف الله تعالى المنافقين بواسطة الوحي للنبي (صلى الله عليه وآله) ، على أنّه (صلى الله عليه وآله) كان بإمكانه أيضاً أن يتعرّف عليهم ـ المنافقين ـ من خلال العلم العادي .
فالنتيجة : إنّ إعطاء علم الغيب للمعصوم (عليه السلام) لا ينكر ، وهذا بمعنى قابليته (عليه السلام) لهذا المقام ، وأمّا تطبيقه لـه في الموارد المختلفة ، فذلك أمر آخر .
____________
1- الجنّ : 26 ـ 27 .
2- محمّد : 30 .
|
الصفحة 382 |
|
( ... . الكويت . ... )
عدم انطباق ما جاء في الإنجيل عليه :
السؤال : جاء في مقالة لأحد الكتّاب السنّة ، وهي : ورغبة منّا في بيان بعض صفات الفاروق في أسفار أهل الكتاب ، نقول : قد وردت نبوآت كثيرة ومتواترة في أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ، جاءت تترى في كتب اليهود والنصارى ، ومن ذلك :
يقول النبيّ زكريا وفي سفره : ابتهجي يا بنة صهيون ، اهتفي يا بنت أورشليم ، هو ذا ملكك يأتي إليك ، هو عادل ومنصور ، وديع وراكب على حمار ، وعلى جحش بن آتان ، واقطع المركبة من افرايم ، والفرس من أورشليم ، وتقطع قوس الحرب ، ويتكلّم بالسلام ـ أي الإسلام ـ للأُمم ، وسلطانه من البحر إلى البحر ، ومن النهر إلى أقاصي الأرض " سفر زكريا 9 / 9 طبعة البروتستنتية ـ دار الكتاب المقدّس " .
وأورشليم هي القدس ، والمَلِك الذي فتح القدس بالصلح والموادعة هو قطعاً عمر ، وأبرز صفة فيه هي العدل ، وقد ركب عمر في طريقه إلى بيت المقدس ، وهذا مصداق لقولـه : يأتي إليك ، وراكب على جحش ابن آتان ، وهو البرذون ، وقد حاول القسّ المسيحي وليم باركلي في كتابه تفسير العهد الجديد ، أن يزوّر هذه البشارة فيقول : حاول بعض مفكّري وعلماء الإسلام أن يثبتوا هذه البشارة على أحد خلفائهم ، الذي أتوا بعد محمّد ، والصحيح أنّ كلامهم باطل ، بل المبشّر به هو الربّ يسوع المسيح ، عندما يأتي في
|
الصفحة 383 |
|
الدينونة ، يدين الناس بالحقّ ، والكلمة في آخر العالم " تفسير العهد الجديد : 174 " .
وأقول أنا : أنّ كلامه في غاية الهذيان والبطلان ، لأنّ هذا الملك هو بشر ، وليس ربّ وإله !! ثمّ إنّه من زمن زكريا إلى زمن عيسى إلى ما بعدهم لم يأت ملك عادل تدين لـه القدس ، بل كانت القدس تحت السيطرة الوثنية للرومان المحتلّين بحكم الحديد والنار ، وأوّل فتح إسلامي للقدس هو في زمن الفاروق ، بل وهو الذي أتى بنفسه لفتحها بكُلّ وداعة وعدل ، فليتأمّل كُلّ من ورم أنفه !!
ولو تأمّلت قليلاً ، وركّزت ذهنك برهة ، لوجدت أنّ الصفات التي جاءت في حقّ الفاروق ، كالتالي : عادل ، منصور وديع ، راكب على حمار !!
إنّها ثلاثة صفات تدلّ على الفاروق خاصّة ، في مسيره نحو بيت المقدس ، وتجد كُلّ صفة منها مفصول بينها حرف : العطف " واو " ، والذي يلفت النظر بحقّ ، أنّنا لو رتّبنا الحروف الأُولى من هذه الصفات لوجدنا : عادل = ع ، منصور = م ، راكب حمار = ر ، فإنّ النتيجة تكون : عمر !!
وممّا يؤكّد ذلك أيضاً ، ما جاء في سفر حبقوق قدامه : ذهب الوباء ، وعند رجليه خرجت الحمى ، وقف وقاس الأرض نظر فرجفت الأُمم ، ودكّت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القدم ، مسالك الأزل لـه ، رأيت خيام كوشان تحت رجليه ، وجفّت أرض مدين " سفر حبقوق قدامة 3 / 5 " .
وأنا أقول : من الذي ظهرت في طريقه الحمى ؟ ألم تسمعوا بطاعون عامواس ! وكيف أنّه ظهر في مقدم عمر إلى القدس ، ومن الذي دكّت الجبال الدهرية على يديه ـ فارس والروم ـ ؟
من الذي صارت خيام كوشان ـ هي مصر كما جاء في قاموس الكتاب المقدّس ـ تحت رجليه ؟ انتهى كلام الكاتب السنّي .
وبالتالي فإنّه يستدلّ على صحّة خلافة عمر بن الخطّاب بما جاء في كتب أهل الكتاب ، مثلما جاءت البشارات في رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) .
فنرجو منكم الردّ على هذا الاستدلال ، ولو كان ردّاً مختصراً ، وفّقكم الله لمرضاته .
|
الصفحة 384 |
|
الجواب : في الإجابة عدّة نقاط :
الأُولى : إنّ الكتاب المقدّس " العهد القديم " ـ وكما هو معروف ـ قد كتب باللغة العبرانية ، وهذا ما اتفق عليه معظم علماء الكتاب المقدّس ، إذ إنّها كانت اللغة السائدة في ذلك الزمان ، ومن ثمّ ترجم إلى اللغات الأُخرى ، كاليونانية والإنكليزية والعربية ، وغيرها .
ومعظم النسخ الأصلية لهذا الكتاب مفقودة ، وأقدم نسخة التي وجدت تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد ، وهي ناقصة ، إذ لا تحتوي إلاّ على بعض الأسفار من العهد القديم ، وهذا أحد أسباب الشكّ في نسبة هذا الكتاب كُلّه إلى الوحي الإلهي .
الثانية : فيما يخصّ سفر زكريا ، فإنّ علماء الكتاب المقدّس قسّموا هذا السفر إلى قسمين : الأوّل يبدأ من الإصحاح " 1 ـ 8 " ، وأمّا القسم الثاني فإنّه يبدأ من الإصحاح " 9 ـ 14 " .
ومن يطالع هذا السِفر يجد الاختلاف في الأسلوب بين القسمين ، حتّى شاعت بين العلماء نسبة هذا السِفر إلى كاتبين مختلفين ، وحاولوا بشتّى الوسائل حلّ هذا الاختلاف ، لكي لا يفقد هذا السِفر قيمته ، وبالتالي يؤدّي إلى التشكيك بصحّة العهد القديم .
ولكن للاختصار نترك البحث في هذه المسألة ، ونسلّم بأنّ كاتب السِفر هو النبيّ زكريا (عليه السلام) .
وأمّا النصوص :
1ـ أمّا قول الكاتب السنّي : هو ذا ملكك يأتي إليك .
فالمشهور أنّ الخليفة الثاني لم يكن ملكاً لأورشليم ولا لفلسطين ، بل كُلّ ما في الأمر أنّه قدم إلى بيت المقدس ـ سنة 15 أو 16 هجرية ـ لعقد الصلح مع أهلها ، ودفعهم للجزية ، ولم يلبث فيها إلاّ أيّاماً معدودة ، ومن ثمّ عاد إلى المدينة ، فهو لم يحكم أورشليم ، ولا استفاد أهلها بظلّ عدله !!
|
الصفحة 385 |
|
فهل ينطبق هذا على كون ملك أورشليم المنتظر ، الذي بشّر به النبيّ زكريا (عليه السلام) هو الخليفة الثاني ، والذي لم يمكث في بيت المقدس إلاّ أيّاماً ؟!
2ـ وأمّا الصفات التي ذكرها الكاتب ، وحاول جاهداً إلباسها للخليفة الثاني ، كي تنطبق عليه ما جاء في سِفر زكريا (عليه السلام) ، فهي غير صحيحة ، لأنّ الكاتب يقول عند ذكر صفة هذا الملك : عادل ومنصور وديع ... ، ويفسّر منصور وديع ، أي الذي فتح القدس بالصلح والموادعة ، وهذا خلاف ما يفهم من النصّ ، فالوديع هنا صفة للملك ، وليست صفة للنصر ، ولأنّ المشهور والمعروف عن الخليفة الثاني ـ بل تكاد تكون أبرز صفة فيه ـ هي غلظته وشدّته وقساوته ، وهذا ما تواترت به كتب التاريخ والحديث ، ولهذا فإنّ الكاتب السنّي ، وهروباً من هذه الحقيقة ، جعل صفة " وديع " للنصر ، وهذا ما لا يرضاه أيّ باحث لـه إلمام بسيط باللغة العربية .
وحتّى ما فسّره الكاتب بالفتح بوداعة ، فهو مردود أيضاً ، فإنّ الصلح كان بعد معارك بين المسلمين ، وأهل ايليا ، فهذا الأزدي يذكر : أنّ أهل ايليا قاتلوا المسلمين ساعة ثمّ انهزموا ، ثمّ قاتلوهم ثمّ انهزموا إلى داخل حصونهم ، بل يضيف الواقدي : " ولم يزل أبو عبيدة ينازل أهل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة ، وما من يوم إلاّ ويقاتلهم قتالاً شديداً " (1) ، ومن بعد هذه المعارك جاء عمر وعقد الصلح ، فهل يعني ذلك أنّ فتح أورشليم كان عن وداعة !!
3ـ وأمّا قولـه : بأنّ أبرز صفة فيه هي العدل ، ففي ذلك أيضاً شكّ ، فإنّ الخليفة الثاني هو أوّل من أعطى العطايا على السابقة ، وفرّق بين المسلمين في العطاء ، وفي الواقع هو أوّل من أرسى النظام الطبقي في المجتمع الإسلامي ، والذي كان نتيجة طبيعية لهذا التمايز في الفرض والعطاء ، حتّى وصل ذروته في زمن الخليفة الثالث ، الذي انتهج سيرة عمر .
____________
1- فتوح الشام 1 / 224 .
|
الصفحة 386 |
|
ولعلّ أحد الأسباب غير الظاهرية لحرب الجمل في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) ، هي رفض أمير المؤمنين (عليه السلام) التفاضل في العطاء بين المسلمين للسابقة ، ممّا دفع بعض الصحابة الأوائل ـ كطلحة والزبير ـ إلى اتخاذ مواقف سلبية من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإشعال نار الفتنة والحرب ضدّه .
4ـ وما ذكره الكاتب حول ركوب الخليفة الثاني للبرذون ، فنقول :
أوّلاً : لماذا لم يشر الكاتب إلى أنّ هذا الملك الموعود يكون راكباً على حمار كما ذكر النصّ ؟
والجواب : لأنّ المؤرّخين بلا استثناء ما ذكر أحداً منهم أنّ الخليفة الثاني ركب الحمار عند خروجه من المدينة إلى بيت المقدس ، بل اختلفوا في أنّه امتطى فرساً أو ناقة ، ولهذا نرى الكاتب يغمض عينيه عن هذا المقطع .
وثانياً : حتّى ما ذكره حول ركوب الخليفة للبرذون غير مقبول ، وذلك لأنّ الخليفة لم يركب البرذون إلاّ للحظة واحدة فقط ، فهذا ابن كثير يقول : ثمّ سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية وقد توحّى فرسه ، فأتوه ببرذون فركبه ، فجعل يهملج به ، فنزل عنه وضرب وجهه ، وقال : لا علم الله من علّمك هذا من الخيلاء (1) ، وأضاف الواقدي : " قال عمر : احسبوا ، احسبوا ، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا ، فأتى بجمله فركبه " .
وقال الطبري : " ثمّ دعا بفرسه بعد ما أجمه أيّاماً يوقحه فركبه ، ثمّ سار حتّى انتهى إلى بيت المقدس ... ولم يركب برذوناً قبله ولا بعده " (2) .
فليت شعري هل يعقل أن يتنبأ النبيّ زكريا (عليه السلام) بملك أورشليم العظيم ، والمنتظر بصفة كانت لـه للحظة واحدة ، وهي ركوبه للبرذون ؟!
5ـ وأمّا ردّه على القسّ المسيحي ، فذلك أيضاً فيه نظر ، وذلك لأنّ النبيّ زكريا (عليه السلام) عندما ذكر نبؤته ، كان يعلم أنّ المسيح (عليه السلام) ليس ربّاً ولا إلهاً ،
____________
1- البداية والنهاية 7 / 67 .
2- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 106 .
|
الصفحة 387 |
|
بل هذا من تحريفات النصارى ، الذين ألبسوا المسيح (عليه السلام) ثوب الألوهية زوراً وبهتاناً .
6ـ وأمّا ترتيبه للحروف بهذا الشكلّ ، فليس عليه دليل إلاّ الحمية والعصبية ، فيا ترى لو تأمّل أيضاً قليلاً ، ورتّب الحروف من الحرف الرابع ، لكانت النتيجة : ب و ل = مادّة نجسة !! فهل هذا يحسب تنبّؤاً ؟!
وذكره عن سِفر حبقوق ، فالأمر اغرب ، فقد تكلّف الكاتب السنّي كثيراً ، واكتفى بنقل مقتطفات من النصّ ، وليته لم يفعل ، وهنا سنبيّن النصّ كاملاً ، ولنرى هل ينطبق على الخليفة الثاني أم لا ؟!
وإليك هذا النصّ : الله جاء من تيمان ، والقدّوس من جبل فاران ، سلاه ، جلاله غطّى السماوات ، والأرض امتلأت من تسبيحه ، وكان لمعان كالنور ، لـه من يده شعاع ، وهناك استتار قدرته ، قدامه ذهب الوباء ، وعند رجليه خرجت الحمى ... .
فالضمير في " قدامه " يعود إلى القدّوس الآتي من جبل فاران ، ولا أدري كيف لم يلتفت إلى هذه المسألة البديهية الكاتب السنّي ، فهو يصف القدّوس بأنّ " جلاله غطّى السماوات و ... " ، فهل تنطبق هذه الصفات على الخليفة الثاني ؟! يا حبّذا لو يبيّن الكاتب السنّي ذلك لنستضيء بعلمه .
وختاماً نقول : إنّ الذي يُؤذي ويُغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يستحقّ أن يكون خليفة للمسلمين ، والخليفة الأوّل والثاني قد أغضبا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وذلك كما نُقل عن صحيح البخاري : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال عن فاطمة (عليها السلام) : " فإنّما هي بضعة منّي ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها " (1) ، وأيضاً هجرها لأبي بكر ، وأنّها لم تكلّمه حتّى توفّيت (2) .
____________
1- صحيح البخاري 6 / 158 .
2- المصدر السابق 5 / 82 .
|
الصفحة 388 |
|
والمعروف والمشهور أنّ فاطمة (عليها السلام) خرجت من الدنيا وهي غاضبة على أبي بكر وعمر ، وأمرت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن لا يسمح لأبي بكر وعمر حضور تشييع جنازتها ، ولهذا فقد دفنت ليلاً .
( العجمي . عمان . ... )