فصاحة وبلاغته
تربى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بين أحضان جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي كان أفصح مَنْ نطق بالضاد ، ثم انتقل إلى حضن أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، الذي كان كلامه بعد كلام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ودون كلام الخالق ، ناهيك عن كلام أُمّه الزهراء ( عليها السلام ) ، التي تفرغ عن لسان أبيها ، فلا غرو أن نجد الحسين ( عليه السلام ) أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء .
وقد تجلى ذلك في
واقعة عاشوراء ، عندما اشتد الخطب وعظم البلاء وضاق الأمر ، فلم يتزعزع ولم يضطرب ، وخطب بجموع أهل الكوفة ، بقلب ثابت ولسان طليق ينحدر منه الكلام كالسيل ، فلم يسمع متكلم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، حتى قال فيه عدوّه : ويلكم كلّموه فإنه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر .
كلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) في توحيد الله عز وجل
للإمام ( عليه السلام ) تراث رائع ، خاض في جملة منه مجموعة من البحوث الفلسفية والمسائل الكلامية التي مُنيت بالغموض والتعقيد ، فأوضحها ( عليه السلام ) ، وبيَّن وِجهة الإسلام فيها ، ونعرض فيما يلي لبعض ما أُثِر عنه :
في معنى ( التَّوحِيد ) :
وعَرَّض الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كثير من كلامه إلى توحيد الله ، فَبيَّنَ حقيقته وجوهره ، وفَنَّد شُبَه المُلحدين وأوهامهم ، ونعرض فيما يلي لبعض ما أُثِر عنه :
أولاً : قال ( عليه السلام ) :( أيُّها النَّاس ، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبِّهون الله بأنفسهم ، يضاهون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير .
استخلص الوحدانية والجَبَروت ، وأمضى المشيئة ، والإرادة ، والقدرة ، والعلم بما هو كائن ، لا منازع له في شيء من أمره ، ولا كُفو له يعادِلُه ، ولا ضِدّ له ينازعه ، ولا سَمِيّ له يشابهه ، ولا مثل له يشاركه .
لا تتداوله الأمور ، ولا تجري عليه الأحوال ، ولا ينزل عليه الأحداث ، ولا يقدر الواصفون كُنهَ عظمته ، ولا يخطر على القلوب مَبلغ جبروته ، لأنه ليس له في الأشياء عديل .
ولا تدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق ، إيقانا بالغيب لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين ، فذلك الله لا سَمِيّ له ، سبحانه ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) .
وحذّر الإمام ( عليه السلام ) من تشبيه الخالق العظيم بعباده ، أو بسائر الممكنات التي يلاحقها العدم ، ويطاردها الفناء .
ثانياً :يقول المؤرخون إن حَبْر الأمة عبد الله بن عباس كان يُحدِّث الناس في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقام إليه نافع الأزرق فقال له : تُفتي الناس في النملة والقَملة ، صف لي إِلَهَك الذي تعبُد ؟
فأطرقَ إعظاما لقوله ، وكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) جالساً فانبرى قائلاً : ( إِليَّ يا بن الأزرق ) ؟
فقال نافع : لَستُ إِيَّاك .
فثار ابن عباس ، وقال له : إنه من بيت النبوة ، وهم وَرَثة العلم .
فأقبل نافع نحو الإمام ( عليه السلام ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( يا نافع ، من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس سائلاً ناكباً عن المنهاج ، ظاعناً بالاعْوِجَاج ، ضالاً عن السبيل ، قائلاً غير الجميل .
أصفُ لك إلهي بما وصفَ به نفسه ، وأعَرِّفُه بما عَرَّف به نفسه ، لا يُدركُ بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريبٌ غير مُلتَصِق ، بعيد غير منتقص يوحد ولا يبغض معروف ، بالآيات موصوف ، بالعلامات لا إله إلا هو الكبير المُتَعَال ) .
فحارَ الأزرق ، ولم يُطِق جواباً ، فقد مَلَكَته الحيرة ، وسدَّ عليه الإمام ( عليه السلام ) كل نافذة ينفذ منها ، وبُهِر جميع من سمعوا مقالة الإمام ( عليه السلام ) ، وراحوا يُرَدِّدُون كلام ابن عباس : إِنَّ الحُسين ( عليه السلام ) مِن بيت النبوَّة ، وَهُم وَرَثَة العلم .
في معنى ( الصَّمَد ) :
كتب إليه ( عليه السلام ) جماعة يسألونه عن معنى الصمد في قوله تعالى : ( اللهُ الْصَّمَدُ ) .
فكتب ( عليه السلام ) لهم بعد البسملة : ( أما بعد : فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تُجادلوا فيه ، ولا تتكلموا فيه بِغَير عِلم ، فقد سمعت جَدِّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( مَن قال في القرآن بغير عِلمٍ فَلْيَتَبَوَّأُ مقعدُهُ من النار ) .
وإن الله سبحانه قد فَسَّر الصمد فقال : ( اللهُ أَحَدُ * اللهُ الْصَّمَدُ ) .
ثم فَسَّرهُ فقال : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .
( لَمْ يَلِدْ ) : لم يخرج منه شيء كثيف ، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة ، التي تخرج من المخلوقين .
ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعب من البدوات كالسِّنَة والنوم والخطرة ، والهم والحزن ، والبهجة والضحك ، والبكاء والخوف ، والرجاء والرغبة والسأمة ، والجوع والشبع ، تعالى عن أن يخرج منه شيء ، وأن يتولَّدَ منه شيء كثيف أو لطيف .
( وَلَمْ يُولَدْ ) : لم يتولد منه شيء ، ولم يخرج منه شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرهم ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار .
ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشم من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر .
لا ، بل هو الله الصمد الذي لا شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبناء بعلمه ، فذلكم اللهُ الصَّمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة ، الكبير المُتَعال ، وَلم يَكُن لَهُ كُفوا أحد ) .
حلم الإمام الحسين ( عليه السلام ) وتواضعه
أولاً : حلمه ( عليه السلام ) :
فقد كان الحلم من أسمى صفات الإمام الحسين ( عليه السلام ) ومن أبرز خصائصه ، فقد كان – فيما أجمع عليه الرواة – لا يقابل مسيئاً بإساءته ، ولا مذنباً بذنبه .
وإنما كان ( عليه السلام ) يغدق عليهم بِبرِّه ومعروفه ، شأنه في ذلك شأن جده الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) الذي وَسع الناسَ جميعاً بأخلاقه وفضائله ، وقد عُرف ( عليه السلام ) بهذه الظاهرة وشاعت عنه .
ويقول المؤرخون : إن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب ، فأمر ( عليه السلام ) بتأديبه ، فانبرى العبدُ قائلاً : يا مولاي ، إن الله تعالى يقول : ( الكَاظِمِينَ الغَيْظَ ) .
فقابله الإمام ( عليه السلام ) بِبَسماته الفيَّاضة وقال له : ( خَلّوا عَنه ، فَقَد كَظمتُ غَيظِي ) .
وسارعَ العبدُ قائلاً : ( وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) .
فقال له الإمام ( عليه السلام ) : ( قَد عَفوتُ عَنك ) .
وانبرى العبدُ يطلب المزيد من الإحسان قائلاً : ( وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ ) آل عمران : 134 .
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) قائلاً : ( أنتَ حُرّ لِوَجهِ اللهِ ) .
ثم أمر ( عليه السلام ) له بجائزة سَنيّة تُغنيهِ عن الحاجة ومَسألة الناس .
فقد كان هذا الخلق العظيم من مقوِّماته التي لم تنفكّ عنه ( عليه السلام ) ، وظلَّت ملازمةً له طوال حياته .
ثانياً : تواضعه ( عليه السلام ) :
وَجَبلَ الإمام الحسين ( عليه السلام ) على التواضع ، ومجافاة الأنانية والكبرياء ، وقد وَرثَ هذه الظاهرة من جَدِّه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) الذي أقام أصول الفضائل ، ومعالي الأخلاق في الأرض .
وقد نقل الرواة بَوادر كثيرة من سُموِّ أخلاقه ( عليه السلام ) وتواضعه .
فَمِنهَا : أنه ( عليه السلام ) اجتاز على مساكين يأكلون في ( الصفة ) ، فدعوه إلى الغداء فنزل عن راحلته ، وتغذى معهم ، ثم قال ( عليه السلام ) لهم : ( قَد أجبتُكُم فَأَجِيبُونِي ) .
فَلبّوا كلامه وخفوا معه إلى منزله ، فقال ( عليه السلام ) لزوجه الرباب : ( أَخرِجي ما كُنتِ تَدَّخِّرين ) .
فأخرَجتْ الرباب ما عندها من نقودٍ فناولها ( عليه السلام ) لهم .
ومنها : أنه ( عليه السلام ) مَرَّ على فقراء يأكلون كسراً من أموال الصدقة ، فَسلَّم عليهم فدعوه إلى طعامهم ، فجلس معهم ، وقال ( عليه السلام ) : ( لَولا أنهُ صَدَقة لأكلتُ مَعكُم ) .
ثم دعاهم ( عليه السلام ) إلى منزله ، فأطعمهم وكَسَاهم وأمرَ لَهم بِدَراهم .
ومنها : أنه جرَت مشادة بين الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأخيه محمد بن الحنفية ، فانصرف محمد إلى داره وكتب إليه ( عليه السلام ) رسالة جاء فيها :
( أما بعد : فإن لك شرفاً لا أبلغُه ، وفضلاً لا أُدركُه ، أبونا عَلي ( عليه السلام ) لا أفَضّلك فيه ولا تُفضّلني ، وأمي امرأة من بني حنيفة ، وأمك فاطمة ( عليها السلام ) بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولو كان مِلءُ الأرض مثل أمِّي مَا وَفيْنَ بِأمِّك ، فإذا قرأت رُقعتي هذه فالبَس رِدَاءك ونَعلَيك وَسِرْ إِليَّ ، وتُرضِينِي ، وَإيَّاك أن أكونَ سابقُكَ إلى الفضلِ الذي أنت أولَى بِه مِنِّي ) .
ولمّا قرأ الإمام الحسين ( عليه السلام ) رسالة أخيه سارع إليه ، وتَرضَّاهُ ، وكان ذلك من معالي أخلاقه وسُموِّ ذاته ( عليه السلام ) .
source : http://www.tebyan.net/index.aspx?pid=71383